الكلام في هذا الموضوع طويل الذيل، و الأخبار الواردة فيه كثيرة، و لكنّ اللازم أن نعرف أوّلا هل لأحد أن يسأل عن فلسفة الغيبة و عللها، و هل لواحد أن يقول: إذا لم أعرف سببها تركت القول بالمهدي الذي تقولون به، و قلت: لو كان إماما كما تزعمون لكان ظاهرا بين الناس يصبح و يمسي و يمشي في الأسواق؟
فنقول؛ بناء على ما يستفاد من الأخبار الكثيرة المستفيضة التي مرّت عليك و ستقف على بعضها الآخر-: إنّ المهديّ هو أبو القاسم محمّد بن الحسن العسكري المتولّد في النصف من شعبان سنة 256 مؤيّدا بتصريحات جماعة من الأعلام ممّن عرفت أسماؤهم و كلامهم بما لا مزيد عليه.
و بناء على أنّ اللّه تعالى حكيم لا يأمر بشيء و لا ينهى عن شيء و لا يفعل شيئا إلاّ عن مصلحة كما هو مقرّر في محلّه، و أنّ تلك المصالح ترجع إلى المكلّفين؛ إذ لا فقر في ساحته المقدّسة، و هو غنيّ مطلق، فأفعاله تعالى كلّها جارية على وفق المصالح النفس الأمريّة، عرفنا تلك المصالح أم لا، أدركنا تلك الجهات أم لا.
و من الأمور المعلومة التي لا يختلف فيها اثنان إنّما يقع في هذا العالم من الحوادث الاختياريّة و غير الاختياريّة لا بدّ و أن تكون بتدبير منه تعالى، بل و إنشائه، و من أهمّ تلك الأمور غيبة المهديّ المنتظر، فلا بدّ أن تكون جارية على وفق المصلحة و الحكمة، أدركنا تلك الجهة أو لا، عرفنا ذلك السبب أم لا.
إن لم نقل بذلك لا بدّ و أن ننكر أحد امور لا طريق لنا إلى إنكارها:
الأوّل: أنّ المهديّ المنتظر هو الحجة بن الحسن العسكري بلا فصل.
الثاني: أنّه غائب عن الأنظار بالمعنى الذي ستعرفه.
الثالث: أنّ غيبته بتقدير من اللّه تعالى و إرادته.
و أنت إذا تأمّلت في هذه الأمور الثلاثة عرفت عدم جواز إنكارها إمّا عقلا أو نقلا، و لازمه القول بأنّ الغيبة جارية على طبق المصلحة، و إلاّ لزم تكذيب أحد أمور ثلاثة:
روى الصدوق في «علل الشرائع» عن عبد اللّه بن الفضل الهاشمي، قال:
سمعت الصادق جعفر بن محمّد عليه السّلام يقول: إنّ لصاحب هذا الأمر غيبة، لا بدّ منها يرتاب فيها كلّ مبطل، فقلت له: و لم جعلت فداك؟قال: لأمر لم يؤذن لنا في كشفه لكم، قلت: فما وجه الحكمة في غيبته؟فقال: وجه الحكمة في غيبته وجه الحكمة في غيبات من تقدّمه من حجج اللّه تعالى ذكره، إنّ وجه الحكمة في ذلك لا ينكشف إلاّ بعد ظهوره كما لا ينكشف وجه الحكمة لما آتاه الخضر عليه السّلام من خرق السفينة و قتل الغلام و إقامة الجدار لموسى عليه السّلام إلاّ وقت افتراقهما. يا ابن الفضل، إنّ هذا الأمر أمر من أمر اللّه، و سرّ من سرّ اللّه، و غيب من غيب اللّه، و متى علمنا أنّه عزّ و جلّ حكيم صدّقنا بأنّ أفعاله كلّها حكمة و إن كان وجهها غير منكشف لنا. [1]
هذا هو القول الفصل و الكلام الحقّ الذي يجب على كلّ مسلم الإذعان و التصديق به.
نعم ربّما يطلب الإنسان فلسفة بعض الحوادث و علل بعض أفعاله تعالى طلبا لمزيد الاطمئنان و سكون النفس، لا أن يدور تصديقه و تكذيبه مدار إحاطته بفلسفتها و عدم إحاطته.
فنقول: لا بدّ لنا قبل الخوض في فلسفة الغيبة و عللها من تقديم مقدمة شريفة على وجه الاختصار، و من أراد التفصيل فعليه بالكتب المؤلّفة في هذا الباب، و هي أنّ تقدّم الداعي في دعوته لا بدّ و أن يكون بأسباب ظاهريّة عاديّة، و لا يجوز له أن يتوسّل إلى غرضه بأسباب غيبيّة، و تعدّ ممّا وراء الطبيعة؛ لأنّ ذلك يستلزم بطلان الثواب و العقاب، بل لغويّة إرسال الرسل و الأنبياء.
يشترك في ذلك الرسول و الوصيّ، فهو من شرائط المبلّغ رسولا كان أو إماما، و لكن بينهما فرق، و هو أنّ الرسول من حيث إنّه مؤسّس يجب عليه الابتداء بالدعوة و التبليغ بحسب المتعارف بخلاف الإمام؛ لأنّ الحجّة قد تمّت على الناس بدعوة الرسول، فوجب عليهم أن يبحثوا أن يسألوا، و لا يجب على الإمام أن يتطلّبهم بالدّعوة.
يجب على الناس أن يقصدوا الإمام و يسألوا عنه معالم دينه بعد حفظه و دفع العدوّ عنه كما وجب عليهم بالنسبة إلى الرسول، فإذا خالفوا هذا التكليف و تركوه قائما بنفسه يخشى القتل و يخاف العدوّ من غير رادع و مانع جاز له الاعتزال و السكوت و ترك وظيفة التبليغ و الدعوة، و المسؤوليّة في ذلك متوجّهة إلى الناس لا إلى الإمام، و إلى ذلك أشار المحقّق الخواجة نصير الدين الطوسي طاب ثراه في كتابه «تجريد الاعتقاد» بقوله: الإمام لطف، و تصرفه لطف آخر، و عدمه منّا. [2] إذا عرفت ذلك فنقول يمكن أن يقال في فلسفة الغيبة وجوه:
الأوّل: التأديب للشيعة و مجازاتهم، بل و لغيرهم
إنّ الأمّة التي فيها الرسول أو الإمام إذا لم تقم بواجب حقّه و عصت أو امره و لم تمتثل نواهيه، و بالجملة لم تؤثّر فيها دعوته، بل و تجاوزت في الحدّ حتّى صارت توذيه بكلّ وسيلة، جاز له تركها و الاعتزال عنها تأديبا و تنبيها، فلعلها ترجع و تؤوب إلى رشدها، و تطيع و تنقاد و تدرك فوائد وجود الرسول و الإمام بين أظهرها مبلّغا هاديا، و مرشدا داعيا، و من هذا الباب قوله تعالى: وَ أَعْتَزِلُكُمْ وَ مََا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللََّهِ [3] الآية.
إذا كان الاعتزال و ترك الدعوة تأديبا للأمّة و تنبيها لهم تكون مصلحتهم فيه و إن كانوا لا يعلمون و خيرهم في ذلك و إن كانوا لا يشعرون.
هذا الاعتزال و ترك الدعوة لا حدّ له، و لا أمد معيّن، و لا يمكن أن يقال في تحديده شيء، بل حدّه و أمده رجوع القوم عن غيّهم إلى رشدهم، و يقظتهم بعد رقدتهم، و تنبّههم بعد غفلتهم و التفاتهم إلى ما يترتّب على وجود الرسول أو الإمام بين أظهرهم.
و التأريخ يخبرنا عمّا لاقى أهل بيت الوحي و الرسالة و آل محمّد عليه و عليهم أفضل الصلاة و السلام من أنواع الأذى و الشدّة، و عدم قيام الأمّة بواجب حقّهم الذي جعله اللّه أجر الرسالة. نعم، لم يزالوا في ضغط و عناء و شدّة و بلاء من أسر و قتل و حبس و صلب و تشريد و تطريد و نفي عن الأوطان و تبعيد.
المهديّ المنتظر أحاط بجميع ذلك خبرا و علما، و علم أنّ هذه الخطّة ستكون بالنسبة إليه، بل أشدّ و أعظم و أدهى و أمرّ لما علموا من مبدئه، و أنّه يقول بالخروج بالسيف، فاعتزل ناحية، و ألقى حبلها على غاربها؛ لعلمه أنّها ستعامله معاملة آبائه و أجداده الكرام و بني أعمامه و أقربائه، و ليس غرضه إلاّ التأديب و التنبيه، و رجوعها إلى رشدها، و إدراكها واجب حقّه، و الفوائد المترتّبه عليه.
«علل الشرائع» العطّار عن أبيه، عن الأشعري، عن أحمد ابن الحسين بن عمر بن محمّد بن عبد اللّه، عن مروان الأنباري، قال: خرج من أبي جعفر عليه السّلام: «أنّ اللّه إذا كره لنا جوار قوم نزعنا من بين أظهرهم» [4] . الحديث.
الثاني: الحرّية في الدعوة و الاستقلال بالأمر
كلّ من يقوم بالإصلاح أعمّ من أن يكون دنيويّا أو دينيّا لا بدّ له من أعوان و أنصار و عقد عهود و مواثيق مع بعض الأقوياء؛ لإعانتهم له أو سكوتهم عنه، و لازم هذا العقد و العهد عدم تعرّض هؤلاء و ترك دعوتهم و المماشاة معهم وفاء بالعهد حتّى إذا تمّ له الأمر و انقضى زمان العهد عاملهم كغيرهم، و لازم ذلك تعطيل إجراء بعض الأحكام بالنسبة إلى المعاهدين، بل و المعاملة معهم على خلاف الواقع خوفا و تقيّة. قال تعالى:
إِلاَّ اَلَّذِينَ عََاهَدْتُمْ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَ لَمْ يُظََاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ [5] الآية.
و المهديّ المنتظر إذا ظهر لا بدّ و أن يجري في دعوته و تقدّمها على الأسباب العاديّة و تكليفه الحكم بالواقع، و أن لا يتّقي أحدا كما هو ظاهر كثير من الأخبار؛ لأنّ زمانه زمان ظهور الحقّ بأجلى مظاهره، و التقيّة تنافي ذلك، و لازم هذا أن لا تكون لأحد في عنقه بيعة، فلا بدّ أن لا يضطرّ إلى عقد معاهدة توجب عليه العمل بالتقيّة، و هذا لا يتمّ إلاّ بعد تماميّة الأسباب العاديّة لنصرته.
«كمال الدين» و أبو الوليد معا عن سعد عن اليقطيني و ابن أبي الخطّاب معا، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد اللّه، قال: يقوم القائم و ليس في عنقه لأحد بيعة [6] .
و فيه عن الطالقاني، عن ابن عقدة، عن عليّ بن الحسن بن فضّال، عن أبيه، عن أبي الحسن عليّ بن موسى الرضا، قال: «كأنّي بالشيعة عند فقدانهم الرابع من ولدي يطلبون المرعى فلا يجدونه» . قلت: و لم ذلك يا ابن رسول اللّه؟قال: «لأنّ إمامهم يغيب عنهم» . فقلت: و لم؟قال: «لئلاّ يكون لأحد في عنقه بيعة إذا قام بالسيف» [7] .
الحديث.
الثالث: التكميل للنفوس و تهذيبها
من الأمور التي لا يختلف فيها اثنان اختلاف استعداد الناس في تحمّل التكاليف و كسب المعارف و العلوم، و منه نشأ اختلاف درجات الإيمان و اختلاف معارف الأنبياء و الأوصياء و الشرائع الإلهيّة نعم، لاََ يُكَلِّفُ اَللََّهُ نَفْساً إِلاََّ وُسْعَهََا [8] .
بل ربّما إذا كلّفوا فوق طاقتهم و درسوا فوق استعدادهم حصل منه نقض الغرض، و آل الأمر بهم إلى خلاف ما يرام من ترك الطاعة أو الارتداد أو زيادة الجهل، ربّنا و لا تحمّلنا ما لا طاقة لنا به، و منه قولهم: لو علم أبو ذرّ ما في قلب سلمان لكفّره، أو لقتله.
روى الكليني (عطّر اللّه مرقده) في «الكافي» عن أبي عبد اللّه الصادق عليه السّلام، قال في كتاب عليّ عليه السّلام:
«إنّ داود عليه السّلام قال: يا ربّ أوف الحقّ كما هو عندك حتّى أقضي به، قال: إنّك لا تطيق ذلك. فألحّ على ربّه حتّى فعل، فجاءه رجل يستعدي على رجل فقال: إنّ هذا أخذ مالي، فأوحى اللّه عزّ و جلّ إلى داود أنّ هذا المستعدي قتل أب هذا، و أخذ ماله، فأمر داود بالمستعدي فقتل، و أخذ ماله فدفعه إلى المستعدى عليه، قال: فعجب الناس، و تحدّثوا حتّى بلغ داود، و دخل عليه من ذلك ما كره، فدعا ربّه أن يدفع ذلك ففعل، ثمّ أوحى اللّه عزّ و جلّ إليه أن احكم بينهم بالبيّنات، و أضفهم إلى اسمي يحلفون به [9] » .
الخبر.
و عن مولانا أبي عبد اللّه جعفر بن محمّد الصادق عليه السّلام: «لو علم الناس كيف خلق اللّه هذا الخلق لم يلم أحد أحدا» [10] .
و عن مولانا أبي جعفر محمّد بن عليّ الباقر عليه السّلام: «إنّ المؤمنين على منازل منهم على واحدة، و منهم على اثنتين، و منهم على ثلاث، و منهم على أربع، و منهم على خمس، و منهم على ستّ، و منهم على سبع، فلو ذهبت تحمل على صاحب الواحدة اثنتين لم يقو، و على صاحب الاثنتين ثلاثا لم يقو» [11] . الحديث.
و ممّا ينسب إلى الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين عليهما السّلام:
إنّي لأكتم من علمي جواهره # كيلا يرى الحقّ ذو جهل فيفتتنا
و قد تقدّم في هذا أبو حسن # إلى الحسين و وصّى قبله الحسنا
يا ربّ جوهر علم لو أبوح به # لقيل لي أنت ممّن يعبد الوثنا
و لاستحلّ رجال مسلمون دمي # يرون أقبح ما يأتونه حسنا
و غير ذلك من الشواهد التي لا تحصى.
و يظهر من الأخبار أنّ المهدي المنتظر إذا قام بالأمر حكم بعلمه، و نشر بين الناس المعارف الحقّة، و كشف الغطاء عن الحقائق، و يعيد الدين الإسلامي غضّا جديدا، و يلغي ما التصق به ممّا ليس منه حتّى يتخيّل الناس أنّه جاء بدين جديد و كتاب جديد.
نعم، إنّ اجراء هذه الإصلاحات و نشر الحقائق كما هي يحتاج إلى استعداد أكمل، و عقول أرقى ممّا عليه الناس اليوم.
ربّما كان تأخير ظهوره عليه السّلام و إدامة غيبته رجاء حصول هذا الرقي و الكمال ببركة المعارف و العلوم التي هي في تكميل يوما فيوما.
و قد نشرت مجلّة الهلال قبل سنين مقالا قصدت فيه إثبات المعاد تحت عنوان (هل وراء هذا العالم عالم آخر؟) و صرّحت في ضمن الجواب عن هذا السؤال بأنّه لا بدّ أن يأتي يوم يكمل فيه العالم الأدبي و العلمي كمال العلم المادّي. انتهى.
نعم لا محالة تتوجّه الناس عن قريب إلى العالم الأدبي و العلمي و الأخلاقي أكثر من توجّهها اليوم إلى العالم المادّي، كيف لا و قد أدرك أنّ العالم المادّي ضيّع حقوقها، و ضغط عليها، و سيطر و انهكها، و عن قريب ترى كيف تشرق الأرض بنور ربّها بظهور المهديّ المنتظر.
الرابع: امتحان الناس و اختبارهم
من سنن اللّه تعالى الجارية في عباده من يوم أرسل الرسل و بعث الأنبياء-و لن تجد لسنّة اللّه تبديلا و تحويلا-الامتحان و الاختبار؛ ليهلك من هلك عن بيّنة، و يحيا من حيي عن بيّنة، و تظهر مراتب الرجال و حقائقهم، بل و ينكشف حال الإنسان بالنسبة إلى نفسه. نعم، كثيرا ما يخفى حال الإنسان عليه.
الشرائع الإلهيّة تعليمات و برامج أدبيّة و مادّية دنيويّة و أخرويّة انفراديّة و اجتماعيّة، و هذا العالم مدارس و معاهد علميّة، و الرسل معلّمون و مبلّغون، و لا بدّ لكلّ درس و مدرسة امتحانات تناسب حالها، و ما يقع في هذا الكون من الحوادث امتحانات تلك الدروس غالبا يعرف بها مقدار تأثيرها في النفوس الم*`أَ حَسِبَ اَلنََّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنََّا وَ هُمْ لاََ يُفْتَنُونَ [12] الآية.
الشريعة الإسلاميّة أكمل الشرائع قاطبة بقول مطلق، و فيها من المعارف ما لم يوجد في غيرها، فلا بدّ أن يجري فيها ما جرى في الأمم السابقة من الامتحانات و الاختيارات بأنواعها المختلفة حذو النعل بالنعل و القذّة بالقذّة؛ لاشتمال هذه الكليّة و الجامعة على تلك الدروس و زيادة.
و من أهمّ ما امتحنت به الأمم السابقة غيبة بعض أنبيائهم الكرام، فلا بدّ و أن يجري ذلك في هذه الأمّة المرحومة و قد غاب النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم، و اعتزل عن قومه في شعب أبي طالب مدّة ثلاث سنين.
و من ذلك غيبة المهديّ المنتظر حتّى يتبيّن الرشد من الغي، و المؤمن من المنافق، و غيبته عليه السّلام أعظم امتحان و اختبار لشيعته، بل و غيرهم كغيبة بعض الرسل، فلا فرق في طول المدّة و قصرها.
«كمال الدين» محمّد بن عليّ بن حاتم، عن أحمد بن عيسى الوشّا البغدادي، عن أحمد بن طاهر، عن محمّد بن بحر بن سهل، عن عليّ بن الحارث، عن سعيد بن منصور الجواشني، عن أحمد بن عليّ البديلي، عن أبيه، عن سدير الصيرفي، قال:
دخلت أنا و المفضّل بن عمر و أبو بصير و أبان بن تغلب على مولانا أبي عبد اللّه جعفر بن محمّد عليه السّلام فرأيناه جالسا على التراب و عليه مسح خيبريّ مطوّق بلا جيب مقصّر الكمّين و هو يبكي بكاء الواله الثكلي ذات الكبد الحرّى قد نال الحزن من وجنتيه، و شاع التغيير في عارضيه، و أبلى الدموع محجريه، و هو يقول: سيّدي غيبتك نفت رقادي، و ضيّقت عليّ مهادي، و ابتزّت منّي راحة فؤادي، سيّدي غيبتك أوصلت مصابي بفجائع الأبد، و فقد الواحد بعد الواحد يفني الجمع و العدد، فما أحسّ بدمعة أرقي من عيني، و أنين يفتر من صدري عن دوارج الرزايا و سوالف البلايا إلاّ مثّل لعيني عن غوابر أعظمها و أنطعها، و بواقي أشدّها و أنكرها، و نوائب مخلوطة بغضبك، و نوازل معجونة بسخطك.
قال سدير: فاستطارت عقولنا و لها، و تصدّعت قلوبنا جزعا من ذلك الخطب الهائل و الحادث الغائل، و ظنّنا أنّه سمت لمكروه قارعة، أو حلّت به من الدّهر بائقة، فقلنا:
لا أبكى اللّه يا ابن خير الورى عينيك من أيّ حادثة تستنزف دمعتك، و تستمطر عبرتك، و أيّة حالة حتمت عليك هذا المأتم؟
قال: فزفر الصادق عليه السّلام زفرة إنتفخ منها جوفه، و اشتدّ عنها خوفه، و قال: ويكم (ويلكم خ) إنّي نظرت في كتاب الجفر صبيحة هذا اليوم و هو الكتاب المشتمل على علم المنايا و البلايا و الرزايا و علم ما كان و ما يكون إلى يوم القيامة الذي خصّ اللّه تقدّس اسمه به محمّدا و الأئمّة من بعده عليه و عليهم السلام، و تأمّلت منه مولد قائمنا و غيبته، و إبطاءه و طول عمره، و بلوى المؤمنين به من بعده في ذلك الزمان، و تولّد الشكوك في قلوبهم من طول غيبته، و ارتداد أكثرهم عن دينهم، و خلعهم ربقة الإسلام من أعناقهم التي قال اللّه تقدّس ذكره: وَ كُلَّ إِنسََانٍ أَلْزَمْنََاهُ طََائِرَهُ فِي عُنُقِهِ [13] يعني الولاية.
فأخذتني الرّقة، و استولت عليّ الأحزان، فقلنا: يا ابن رسول اللّه، كرّمنا و شرّفنا بإشراكك إيّانا في بعض ما أنت تعلمه من علم ذلك.
قال: إنّ اللّه تبارك و تعالى أدار في القائم منّا ثلاثة أدارها في ثلاثة من الرسل: قدّر مولده تقدير مولد موسى، و قدّر غيبته تقدير غيبة عيسى، و قدّر إبطاءه كتقدير إبطاء نوح عليه السّلام، و جعل من بعد ذلك عمر العبد الصالح أعني الخضر دليلا على عمره.
فقلت: اكتشف لنا يا ابن رسول اللّه عن وجوه هذه المعاني.
قال: أمّا مولد موسى فإنّ فرعون لمّا وقف على أنّ زوال ملكه على يده أمر بإحضار الكهنة فدلّوه على نسبه، و أنّه يكون من بني إسرائيل، فلم يزل يأمر أصحابه بشقّ بطون الحوامل من بني إسرائيل حتّى قتل في طلبه نيّفا و عشرين ألف مولود، و تعذّر عليه الوصول إلى قتل موسى لحفظ اللّه تبارك و تعالى إيّاه، كذلك بنو اميّة و بنو العبّاس لمّا وقفوا على أنّ زوال ملكهم و الأمراء و الجبابرة منهم على يد القائم منّا ناصبونا العداوة، و وضعوا سيوفهم في قتل آل بيت رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إبادة نسله طمعا منهم في الوصول إلى قتل القائم عليه السّلام، و يأبى اللّه أن يكشف أمره لواحد من الظلمة إلاّ أن يتمّ نوره و لو كره المشركون.
و أمّا غيبة عيسى عليه السّلام فان اليهود و النصارى اتّفقت على أنّه قتل، و كذبهم اللّه عزّ و جلّ بقوله: وَ مََا قَتَلُوهُ وَ مََا صَلَبُوهُ وَ لََكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ [14] ، كذلك غيبة القائم عليه السّلام فإنّ الأمّة تنكرها لطولها، فمن قائل بغير هدى: بأنّه لم يولد، و قائل يقول: إنّه ولد و مات، و قائل يكفر بقوله: إنّ حادي عشرنا كان عقيما، و قائل يمرق بقوله: إنّه يتعدّى إلى ثالث عشر فصاعدا، و قائل يعصي اللّه عزّ و جلّ بقوله: إنّ روح القائم عليه السّلام ينطق في هيكل غيره.
و أمّا إبطاء نوح عليه السّلام فإنّه لمّا استنزل العقوبة على قومه من السماء بعث اللّه عزّ و جلّ جبرائيل الروح الأمين بسبعة نوبات فقال: يا نبيّ اللّه، إنّ اللّه تبارك و تعالى يقول لك: إنّ هؤلاء خلائقي و عبادي، و لست أبيدهم بصاعقة من صواعقي إلاّ بعد تأكيد الدّعوة و إلزام الحجّة، فعاود اجتهادك في الدعوة لقومك، فإنّي مثيبك عليه، و أغرس هذا النوى، فإنّ لك في نباتها و بلوغها و إدراكها إذا أثمرت الفرج و الخلاص، فبشّر بذلك من تبعك من المؤمنين، فلمّا نبتت الأشجار و تآزرت و تسوّقت و تغصّنت و أثمرت و زهى الثمر عليها بعد زمن طويل استنجز من اللّه سبحانه العدة، فأمره اللّه تبارك و تعالى أن يغرس من نوى تلك الأشجار، و يعاود الصبر و الاجتهاد، و يؤكّد الحجّة على قومه، و أخبر بذلك الطوائف التي آمنت به، فارتدّ منهم ثلاثمائة رجل و قالوا: لو كان ما يدّعيه نوح حقّا لما وقع في وعد ربّه خلف، ثمّ إنّ اللّه تبارك و تعالى لم يزل يأمره عند كلّ مرّة أن يغرسها تارة بعد أخرى إلى أن غرسها سبع مرّات فما زالت تلك الطوائف من المؤمنين ترتد منه طائفة بعد طائفة إلى أن عاد إلى نيف و سبعين رجلا، فأوحى اللّه عزّ و جلّ عند ذلك إليه و قال: يا نوح، الآن أسفر الصبح عن الليل لعينك حين صرح الحقّ عن محضه، وصفا الأمر للإيمان من الكدر بارتداد كلّ من كانت طينته خبيثة، فلو إنّي أهلكت الكفّار و أبقيت من قدر ارتدّ من الطوائف التي كانت آمنت بك لما كنت صدقت وعدي السابق للمؤمنين الذين أخلصوا التوحيد من قومك، و اعتصموا بحبل نبوّتك، بأن استخلفهم في الأرض، و أمكّن لهم دينهم، و أبدّل خوفهم بالأمن لكي تخلص العبادة لي بذهاب الشكّ من قلوبهم. و كيف يكون الاستخلاف و التمكين و تبدّل الخوف بالأمن منّي لهم مع ما كنت أعلم من ضعف يقين الذين ارتدّوا و خبث طينتهم و سوء سرائرهم التي كانت نتائج النفاق و سنوخ الضلالة، فلو أنّهم تسنّموا منّي الملك الذي أوتي المؤمنين وقت الاستخلاف إذا أهلكت أعداءهم لنشقوا روائح صفاته، و لاستحكمت سرائر نفاقهم، و تأبّدت حيال ضلالة قلوبهم، و كاشفوا إخوانهم بالعداوة، و حاربوهم على طلب الرئاسة و التفرّد بالأمر و النهي، و كيف يكون التمكين في الدين و انتشار الأمر في المؤمنين مع إثارة الفتن و إيقاع الحروب، كلاّ فاصنع الفلك بأعيننا و وحينا.
قال الصادق عليه السّلام: و كذلك القائم عليه السّلام تمتدّ أيّام غيبته ليصرح الحقّ عن محضه، و يصفو الإيمان من الكدر بارتداد كلّ من كانت طينته خبيثة من الشيعة الذين يخشى عليهم النفاق إذا أحسّوا بالاستخلاف و التمكين و الأمن المنتشر في عهد القائم...
الهوامش:------
[1] علل الشرايع، ص 245-246، طبعة مكتبة الداوري.
[2] شرح تجريد الاعتقاد، ص 285، طبعة مكتبة المصطفوي.
[3] مريم (19) الآية 48.
[4] علل الشرائع، ص 244، باب 179.
[5] التوبة (9) الآية 4.
[6] إكمال الدين، ص 480، باب علّة الغيبة.
[7] نفس المصدر.
[8] البقرة (2) الآية 286.
[9] الكافي، ج 7، ص 411، ح 3، طبعة دار الأضواء.
[10] الكافي، ج 2، ص 49، طبعة دار الأضواء.
[11] الكافي، ج 2، ص 50، طبعة دار الأضواء.
[12] العنكبوت (29) الآيات 1 و 2.
[13] الإسراء (17) الآية 13.
[14] النساء (4) الآية 157.
اترك تعليق