في ضرورة الاهتمام السلوكي والمعرفة بالدين

إن تطبيق القواعد الفطرية العامة المتقدمة حول الاهتمام العملي والمعرفة بالأشياء في الأصول التي بلغها الدين يقتضي لزوم هذا الاهتمام بنوعيه تجاه تلك الأصول من قبل كل إنسان معي بسعادته وحذر من شقائه.

وذلك بالنظر إلى مجموع أمرين ...

١ - إن حقانية الدين أمر وارد على الإجمالي، وليس أمراً يمكن البت بانتقائه بشكل مؤكد، فإنه لا تخلو من أن تكون ثابتًا يستقي بها أو لا أقل من احتمالاتها، إما على الأرجح موجودًا قبل فحص تلك الحجج أو على الأرجح باقيًا بعد فحص حججها حقًا من غير أن تتراجع بها.

أما التقدير الأول - وهو ثبوت حقانية الدين - فهو يقتضي الاهتمام العملي طبعاً.

٢- إن كل واحد من التقادير الثلاثة يقتضي الاهتمام بالدين ..

وكذلك التقدير الثالث، وهو احتمال حقائية الدين الباقي بعد البحث عن حقانية الدين في حالة عدم الجزم بعدمها، فإن عدم الجزم بحقانية الدين لا يصحح عدم الاعتناء باحتمال حقّانيته وإن يئس المرء من الجزم بها.

وأما التقدير الثاني - وهو احتمال حقانية الدين قبل الفحص والتحري في شأن الدين - فهو يقتضي بذل الاهتمامين المعرفي والعملي ...

أما الاهتمام المعرفي فهو التثبت في شأنه حتى يستقر المرء على موقف ناضج منه.

وأما الاهتمام العملي فهو بأخذ إنبائه عن الحقائق الكبرى للكون والحياة في حاضره وغاياته مأخذ الجد والاعتبار بها عملاً حتى وإن كان يحتمل ذلك محض احتمال؛ لأن أهمية المحتمل الفائقة وخطورته توجب فاعلية الاحتمال على وفق المعادلة الثلاثية المتقدمة في المبحث الأول.

وعلى أساس ذلك فالتحقق في أمر الدين والاعتبار به يمثل إلزاماً فطرياً لكل إنسان - بمقتضى المقاييس الفطرية التي يعمل بها في سائر مجالات حياته -وليس هناك من مخرج معقول عن ذلك يصحح ترك الاهتمام به وبتعاليمه إلا في حالة واحدة، وهي حصول العلم القاطع بعدم حقانيته بعد التثبت اللائق به، لكن هذه الحالة مما يصعب حصولها على وجهها حقيقة.

وعليه ينبغي توضيح كل واحد من الأمرين المتقدمين ...

عدم صحة البت بعدم حقانية الدين

(الأمر الأول): إنَّ البت بعدم حقانية الدين بتاً موضوعياً ومنطقياً ليس أمراً وارداً؛ وذلك لأنه إن لم يحصل البت بحقانيته فلا أقل من احتمالها، إذ ليس هناك دليل قاطع ناف لها.

وعليه لا يصح للمرء أن يقدر أنه في فسحة عن الاعتبار بالحقائق والغايات المرسومة في الدين، وهو معذور تجاهها على أساس اعتقاده بعدم حقانية الدين.

وذلك لأن الاعتقاد بعدم حقانية الدين إنما يوجب معذورية المكلف في حال توفر شرطين .

(الشرط الأول): أن يكون هذا الاعتقاد اعتقاداً جازماً وقطعياً حقاً، ولا يقترن باحتمال الخلاف - ولو بنسبة قليلة - ولا يكفي أن يكون هو الاحتمال الأكبر(1)، لما سيأتي من أن أي احتمال مخالف سوف يكون فاعلا؛ بالنظر إلى خطورة المحتمل.

(الشرط الثاني): أن يكون هذا الاعتقاد ناشئاً من مناشئ عقلائية مقبولة ولائقة بخطورة تلك الحقائق، وهو ما يعبر عنه بالاعتقاد الموضوعي - تعبيراً عن استناده إلى مآخذ موضوعية - في مقابل الاعتقاد الذاتي، وهو الاعتقاد الناشئ عن التساهل والتكاسل والاندفاع إلى الرغبات العاجلة، مما لا يليق بهذا المحتمل الخطير بحسب القانون الفطري(2).

وبالنظر إلى ذلك نعتقد أن هذه الحالة - وهي الجزم بعدم حقانية الدين - لا تتحقق على وجهها وبشرطيها، اللهم إلا للقليل النادر من الناس، وذلك ...

(أولاً): أنه ليس هناك أي مأخذ علمي جازم لنفي الحقائق التي يثبتها الدين، وقد صرح العديد من علماء الغرب - الباحثين في هذا المجال ـ أنه ليس من شأن العلم أن يبت في نفي ما يبلغه الدين، ويتنبأ به؛ ومن ثم فإن من لم يثق بدليل يثبته اقتصر على نفي العلم بذلك - وهو المعبر عنه بـ (الاتجاه اللا أدري) - فمن ادعى الجزم في ذلك كان ادعاؤه غير علمي. وهذا أمر واضح وفق أصول المنهج العلمي الحديث.

(ثانياً): أن حصول جزم بعدم حقانية الدين ناشئ من مبادئ موضوعية واضحة أمر يصعب تحققه بالنسبة إلى عامة الناس، بالالتفات إلى الميراث العظيم للدين، وتاريخه، وإيمان ملايين الناس به، والتسليم له من قبل نخبة في غاية التعقل والتبصر، كإذعان الإمام علي عليه السلام في الإسلام، فإن الجزم ببطلان هذا الميراث كله وهذه الشواهد كلها - بحيث لا يوجب أية قيمة احتمالية لصدق الدين - أمر غير محتمل من عامة الناس؛ لأن مداركهم ومنطقهم الفكري في سائر أمورهم في الحياة لا تجري على الجزم بمثل ذلك ، فلو ادعى أحدهم الجزم به كان على الأغلب مغالطاً لنفسه، أو كان جزمه غير موضوعي.

(ثالثاً): أن هذه الصعوبة تزداد بالنظر إلى ضرورة إحراز المرء الجازم أن جزمه بذلك ينشأ عن مناشئ موضوعية فعلاً، ولا تأثير لعوامل نفسية أخرى مثل: الخلود إلى الراحة، والتحرّر في ممارساته في هذه الحياة، ووهن الدين في مشاعره بتصرف بعض المحسوبين عليه من رجال الكنيسة في العصور الوسطى أو بعض المتشددين في العصر الحاضر، أو غير ذلك من المناشئ غير الموضوعية. وتأثير العوامل غير الموضوعية - كمشاعر ورغبات الإنسان في إدراكه للأشياء -ظاهرة واضحة دلت عليها شواهد تجربية بينة ذُكِرَتْ في علم النفس الحديث.

(رابعاً): أن من غير المعقول أن يدعي المرء الجزم بعدم حقانية الدين في حال لم يسع في البحث الجاد بنفسه، ولا اهتم بالاطلاع على المؤشرات المثبتة ومدى إمكان دحضها بنحو قطعي، بل مثل هذه الدعوى تتلقى غير منهجية على وفق المناهج الثقافية والأكاديمية السائدة في هذا العصر، ومن البعيد صدورها من باحث منصف ومثقف مأنوس بالمناهج العلمية، فدعوى الجزم بكون الرؤية الدينية غير محتملة الصدق بعيدة حقاً.

وعلى الإجمال: إن من الصعوبة بمكان لمن ينفي وجود حقائق كبرى في الحياة أن ينفي واقعاً وجود احتمال مخالف بأي درجة في هذه المسألة العظيمة والخطيرة مع عدم وجود دليل مادي ملموس ينفي حقانية الدين، وكيف يتأتى النفي الجازم لذلك مع أن الاعتقاد بالأمور المحسوسة لا يخلو أحياناً - بحسب العلم - عن نسبة من احتمال الخطأ، فكيف بهذا النظر المبني على الحدس المحض دون الحس والاختبار والتجربة(3)؟!

الهوامش:------

(1) كما جرى عليه بعض المشككين في وجود الخالق وحقانية الدين.

(2) لاحظ - في توضيح أن الاعتقاد المعتبر بحسب القانون الفطري هو الاعتقاد الموضوعي دون الذاتي الذي يكون على أساس المزاجيات - القواعد الفطرية العامة للمعرفة الإنسانية والدينية)، وهو القسم الرابع من سلسلة (منهج التثبت في الدين).

الهوامش:

(3) ويمكن توضيح صعوبة مثل هذا الادعاء فنيا بأن حصول العلم اليقيني بشيء يقتضي إمكان ادعاء المرء ضرورة تحقق ذلك الشيء واستحالة عدم تحققه، ويوافق ذلك ما ذكر في المنطق الأرسطي من أن العلم اليقيني بالشيء ينطوي على العلم بحصول ضرورة تحقق ذلك الشيء.

وهذا المعنى معروف في الفهم العام أيضاً. فمثلاً : إذا كنت قد رأيت زيداً قد جاء، فنازعك أحد فيه وقال : إن زيداً لم يجئ وإنما الجائي هو عمرو - فلعلك اشتبهت في ذلك -فإنه يصح لك أن تقول: إن من المحال أن لا يكون الجاني زيداً، فإني رأيته بعيني، ومرجع ذلك إلى أن من المحال أن اعتقد برؤية زيد ولم أكن قد رأيته، ومن المحال أن أرى زيداً ولا يكون زيد قد جاء.

و مثال آخر : وهو ما إذا ادعيت اليقين بحرارة حديدة أمامك لكونك قد لمست تلك الحديدة، فتقول: محال أن لا تكون الحديدة حارة؛ فإنّي قد لمستها. وتستند الضرورة هنا إلى ضرورة تحقق اللمس، فتقول: لا يمكن أن أشعر بلمس الحديدة ولا أكون قد لمستها، ولا يمكن أن أكون قد لمستها وشعرت بحرارتها من غير وجود حرارة فيها؛ فلا يمكن أن تكون هذه الحديدة غير حارة.

: سماحة السيد محمد باقر السيستاني