إنَّ عنوانَ الرّقّ والعبودية منَ العناوينِ الإجتماعيّةِ الخاضعةِ للعُرفِ وبناءِ العُقلاءِ، فالكثيرُ منَ الظواهر الإجتماعيّةِ مقبولةٌ في مجتمعٍ ومذمومةٌ في مجتمعٍ آخر، أو أنّها مقبولةٌ في حقبةٍ تاريخيّةٍ ومرفوضةٌ في حقبٍ لاحقةٍ، بالتّالي فإن التّباينُ الثّقافيُّ والتّاريخيُّ يتدخّلُ بشكلٍ مُباشرٍ في فهمِ وتقييمِ كثيرٍ منَ الظّواهرِ الإجتماعيّةِ، وقضيّةُ الرّقِّ قبلَ الإسلامِ كانَت منَ الظّواهرِ الضّاربةِ بجذورِها في المُجتمعِ، بحيثُ لا يفهمُ العرفُ المُجتمعيُّ في ذلكَ الوقتِ إمكانيّةَ وجودِ مجتمعٍ من دون رقيقٍ، وعليهِ فإنَّ محاكمةَ العقلِ الإجتماعيّ المُعاصرِ للعقلِ الإجتماعيّ قبلَ 1400 عام محاكمةٌ غيرُ عقليّةٍ وغيرُ منطقيّةٍ، ومِن هُنا فإنَّ تغييرَ الظّواهرِ الإجتماعيّةِ المُتجذّرةِ في المُجتمعِ لا يكونُ إلّا عبرَ التّدرّجِ الزّمنيّ وضمنَ رؤيةٍ مدروسةٍ تستصحبُ البُعدَ النّفسيَّ للمُجتمعاتِ، فلو نظَرنا إلى تحريمِ الخمرِ مثلاً لوجَدنا أنّهُ إستغرقَ عشرينَ سنةً تقريباً وبثلاثِ مراحلَ بعدَ السّكوتِ عنهُ لسنواتٍ، معَ أنَّ التّخليّ عنِ الخمرِ أقلُّ مؤنةً لكونِه قراراً فرديّاً بخلافِ الرّقِ الذي يُمثّلُ ظاهرةً اجتماعية تتشابكُ معَ أبعادٍ أخرى في المُجتمعِ، فظاهرةُ الرّقِّ كانَت تُمثّلُ عصبَ الحياةِ في ذلكَ المُجتمعِ في التّجارةِ والزّراعةِ والرّعي، وفي النّتيجةِ تُمثّلُ أساساً للحراكِ الإجتماعيّ والإقتصاديّ آنذاك، ومنَ المُؤكّدِ أنَّ تغييرَ النّمطِ الحياتيّ للمُجتمعِ يحتاجُ إلى تدرّجٍ مِن نوعٍ خاصٍّ يستهدفُ البُنيةَ الثّقافيّةَ المُتحكّمةَ فيه، وهذا ما قامَ بهِ الإسلامُ حيثُ عملَ على تأسيسِ بُنيةٍ تحتيّةٍ لثقافةِ المُجتمعِ تُفضي في خاتمةِ المطافِ إلى تخليه عَن ظاهرةِ الرّقِّ بلِ النّفورِ منهُ، وهذا هوَ الفرقُ بينَ الفكرِ الإسلاميّ الذي يعملُ على مُعالجةِ الظّواهرِ السّلبيّةِ برؤيةٍ موضوعيّةٍ وبينَ شعاراتٍ لا تتجاوزُ الفانتازيا الثّقافيّةِ، وما يثيرُ العجبَ هو مطالبةُ البعض الإسلام أن يُحرّمَ الرّقَّ في أوّلِ أيّامِه مِن خلالِ إصدارِ مرسومٍ يحظرُه، جهلاً منهُم بالطّبيعةِ المُعقّدةِ لتركيبِ المُجتمعاتِ وكيفيّةِ التّعاملِ معها، فالإسلامُ لم يأتي بالرّقِّ وإنّما أقرَّ ما كانَ موجوداً بالفعلِ، ومِن ثُمَّ عملَ الإسلامُ على تنظيمِه ووضعِ الضّوابطِ لإستدراكِ ما يمكنُ إستدراكُه مِن مظالمَ، فأوصى بالإحسانِ إليهم وإطعامِهم ممّا يطعمُ بهِ عيالَه وعدّهم مِن أهلِ بيتِه وجُزءاً مِن عائلتِه فساوى بينَ السّيّدِ والعبدِ وحرّمَ ضربَه أو الإضرارَ بهِ أو إهانتِه وجوّزَ تزويجَه وضمنَ حُرّيّةَ فكرِه وعقيدتِه بعدَ أن كانَ مُحتقَراً ذليلاً لا قيمةَ لهُ. ولذلكَ قالَ الكُفّارُ منَ السّادةِ (إنَّ مُحمّداً قد أفسدَ علينا عبيدَنا وساوى بينَنا وبينَهم).
ولو سارَ الإسلامُ بالمسارِ الذي أرادَهُ اللهُ وعادَ الأمرُ إلى ولاةِ الأمرِ الذينَ أمرَنا اللهُ بطاعتِهم لانتهَت هذهِ الظّاهرةُ في فترةٍ وجيزةٍ، إلّا أنَّ الأمرَ قَد إنحرفَ عَن مسارِه الطّبيعي وتسيّدَ على الأمّةِ خلفاءُ حكموا العالمَ الإسلاميَّ تسعةَ قرون فتحوا فيها البُلدانَ وجلبوا منها الجواري، فكثّروا بذلكَ ظاهرةَ الرّقيق.
ومنَ الواضحِ أنَّ ظاهرةَ الرّقِّ والعبيدِ ليسَت ظاهرةً خاصّةً بالمُجتمعاتِ العربيّةِ أو الإسلاميّةِ وإنّما هيَ ظاهرةٌ وُجدَت معَ كلِّ الحضاراتِ الإنسانيّةِ حتّى الحضارةُ الغربيّةُ الحديثةُ قامَت على أعناق العبيدِ، ولم يتمكَّن عبيدُ أمريكا منَ التّحرّرِ إلّا قريباً، ومَن ينظرُ للمُعالجاتِ التي قدّمها الإسلامُ قبلَ 1400 سنةً يكتشفُ أنَّ الإسلامَ عملَ على القضاءِ على هذهِ الظّاهرةِ مِن جذورِها.
اترك تعليق