في الليلة الأخيرة من شهر ذي الحجة، حين بدأ الضوء يخف على جدران المدينة القديمة في كربلاء، خرجت (أم حسن) من بيتها في حي العباس، تحمل بيدها راية سوداء صغيرة، وعلقتها على باب منزلها كما تفعل منذ عشرين عاما، حيث كانت تقف دقائق صامتة، تحدق في قطعة القماش وكأنها تتهيأ لسماع نبأ حزين من جديد.
"الليلة سيبدلون الراية"، قالت لجارتها التي خرجت لتسقي المزروعات قبل المغيب، فهزت الأخرى رأسها وسألت "والله لم نعد نعرف أي سنة أشد حزنا، كل سنة نحس بأن الجرح أعمق".
في باب قبلة الإمام الحسين (عليه السلام)، احتشد الزائرون منذ العصر، بعضهم جاء من أقصى الجنوب، وآخرون من بغداد وديالى وكركوك، وآخرون لا يجيدون العربية، لكنهم يعرفون جيدا ماذا تعني الراية التي ستبدل على القبة الشريفة.
صبي صغير كان يحمل كاميرا الهاتف المجمول على علو يده، يلتقط المشهد بصعوبة، وصوته يهمس "أريد أرسلها لخالي الذي استشهد بالموصل وكان يأتي كل سنة ليشاهد مراسيم تبديل الراية".
في كربلاء.. الحزن له طقوس لا تتكرر
كأن المدينة بكاملها تعرف جيدا أن لا شيء يبقى كما هو بعد هذه الليلة، تتبدل الألوان، وتتشح الجدران بالسواد، وتغيب الزينة عن النوافذ، وتبدأ المواكب بالسير عبر الأزقة، واحدا تلو الآخر.
الأسواق تغلق مبكرا، والأطفال يتركون اللعب، الشوارع تكنس وكأنها تستعد لعبور الحزن نفسه.
في تلك اللحظات، لا أحد يرفع صوته، فقط تكبيرات خافتة، وهمسات الدعاء، ورجال يحملون السواد على أكتافهم.
في شارع السدرة وسوق شارع صاحب الزمان (عجل الله فرجه)، حيث يفوح المسك والورد، يخفي الباعة الألوان الزاهية، ويعرضون الأقمشة السوداء، واللافتات التي كتب عليها (هيهات منا الذلة)، و(يا حسين)، و (يا ساقي عطاشى كربلاء)، فالمدينة تتنفس انتظارا.
حين تتبدل الراية.. ينقلب المشهد
في صلاة العشائين، إمتدت آلاف الأعين نحو القبة الذهبية، هناك، فوق الرخام والذهب والضوء، كانت الأيادي ترفع الراية السوداء وتنزل الحمراء، لا يحتاج المشهد إلى صوت، لأن القلب وحده يصرخ، والدموع تنهال.
ممثل المرجعية الدينية العليا الشيخ عبد المهدي الكربلائي قال في كلمة له خلال مراسيم تبديل الراية، إن "الشعائر الحسينية في جوهرها نوع من انواع العبادة التي يراد بها التقرب الى الله تعالى بالمواساة للنبي الاكرم واهل بيته (عليهم السلام) بما حل بهم في كربلاء، فلابد من أن ننطلق من دوافع الهية محضة، ونحافظ على كونها طريقا الى الله، ونكون على وعي وبصيرة بحقيقتها السامية".
هنا امرأة وقفت على طرف الزحام، وضعت يدها على صدرها وقالت "جئت اجدد البيعة من جديد"، ثم غابت بين الناس.
وشاب يرتدي قميصا أسود عليه خيوط خضراء، ركع على الأرض لحظة تبديل الراية، مد يديه نحو القبة وبكى، لا أحد اقترب منه ليسأله عن شيء، فالجميع هنا يبكي بطريقته.
في كل زاوية من المدينة، ترفع راية، ويقام مجلس، وتوقد شمعة، فالمدارس، والأسواق، ومداخل البيوت، وحتى محلات الهواتف، كلها تتهيأ للحداد.
كربلاء… حين يصبح الحزن لغة يومية
لا أحد في كربلاء ينتظر النداء ليحزن، فشهر محرم هنا ليس تقويما زمنيا، بل شعور متجدد، والنسوة يبدأن بطبخ أول قدور العزاء، والرجال ينصبون السرادق والتكيات، والأطفال يحفظون القصائد من الآن، استعدادا لعاشوراء.
وعلى ضفاف الروح، تلوح القبة السوداء، كأنها تقول لكل من جاء (مرحبا بكم في الحزن الذي لا ينسى، هنا الحسين).
اترك تعليق