يُعدُّ العقد الخمسيني من القرن المنصرم من أهم المراحل الزمنية التي مرَّ بها الفن التشكيلي العراقي، حيث الإكتشاف وتنوّع الأساليب والتقنيات المتطورة التي ساهمت في إثراء الحركة التشكيلية العراقية وتداخلها مع المناخ الثقافي والاجتماعي والسياسي وحتى الاقتصادي ، فقد ارتبط الفن في مرحلة الخمسينيات بأسماء بارزة في التشكيل العراقي أمثال فائق حسن و جواد سليم و حافظ الدروبي وشاكر حسن آل سعيد وغيرهم من أعلام الفن العراقي ، فبدأت الفنون في هذه المرحلة بالمرور بتحولات متسارعة لتصبح الحاجة ملحة في ساحة الفن التشكيلي المحلي إلى ظهور جماعات فنية اخذت على عاتقها نشر الوعي الفني الابداعي ، فضلا عن الحيلولة دون توقف فنانينا عند مجريات الغرب الثقافية والفنية ، بل المضي قدماً بتحديد الأطر الخاصة بهم بما يتلائم وإرثهم الحضاري ومتطلبات عصرهم بما يخدم المجتمع العربي والعراقي على وجه الخصوص .
وهكذا انطلقت في مقتبل هذا العقد الجماعة الفنية الأولى عام 1950 وسُمِّيت (جماعة الروّاد) بزعامة الفنان فائق حسن، وجاءت هذه الجماعة تجسيداً لهاجس الأسلوبيات الغربية دون استيعاب وتمثل، وقد اهتمت هذه الجماعة برسم الطبيعة ومظاهر الحياة الاجتماعية واليومية وكان من أعضائها خالد القصاب وإسماعيل الشيخلي ومحمود صبري وآخرين، وكان المضمون الإنساني هو القوام التشخيصي لدى كل من الفنانين فائق حسن وإسماعيل الشيخلي ومحمود صبري وهم أهم اقطاب هذه الجماعة الفنية .
يُعدُّ الفنان فائق حسن المؤسس الأول لجماعة الروّاد ثم إسماعيل الشيخلي ومن ثم الفنان زيد صالح الذين وجدا في محمود صبري مؤشراً جديداً ساعد على ظهور جماعة الروّاد بمظهر الجماعة المواكبة للواقع الحديث ، فقد اتسمت نتاجاتهم بطابع التجريب وعدم وجود أسلوب محدد للعمل الفني ، وقد انضم لهم فيما بعد الفنان جواد سليم عند عودته من العاصمة البريطانية لندن بعد اتمام دراسته، لكنه ما لبث أن انفصل عنهم بعد معرضهم الأول مؤسساً (جماعة بغداد للفن الحديث) عام 1951 والتي وقفت نقيضاً للجيل الأول من الرسامين وجماعة الروّاد من بعدهم ، وقد تألفت هذه الجماعة من رسامين ونحاتين ولكلٌ أسلوبه الخاص المختلف عن الاخر ، لكنهم يلتقون في استلهام الجو العراقي لتنمية تلك الأساليب فهم يبتغون تصوير واقع الناس بشكل جديد يحدد إدراكهم وملاحظاتهم لحياة هذا البلد الذي ازدهرت فيه حضارات واندثرت ثم ازدهرت ، ولم يغفل هؤلاء الفنانون عن التطوّر الفني السائد في العالم فقد تميّز جواد سليم كفنان بالخوض بكل الاتجاهات الفنية ، إذ تأثر واستجاب للعديد من الفنانين العالميين ، فضلاًعن تأثره بالفن العربي القديم والإسلامي ومنه فنون الواسطي ومنمنماته بشكل خاص .
لقد سعى فنانو جماعة بغداد للفن الحديث إلى تحقيق فكرة ربط التراث العربي بروح العصر من خلال طروحاتهم الفنية الداعية إلى استلهام خصائص التراث العربي الإسلامي وفق رؤية عصرية ومحاولة ربطها بالقيم الفنية الحديثة وبناء اساليب جديدة قائمة على التزاوج الحضاري، وقد أشار جبرا إبراهيم جبرا لذلك في إحدى كتاباته عن جواد سليم بأنه قد جمع بين الموهبة الفطرية والمعرفة الجادة وبين الحسّ التاريخي والنظرة المتفتحة جامعاً تأملاته وأعماله بين منحوتات سومر وآشور ويحيى الواسطي ونحاسيات العباسيين وشتى نظريات الفن الحديث حتى اكتسب اسمه في العراق هالة أسطورية ، ويشير جواد سليم أن كل نتاج فني مهم في أي زمان ومكان ما هو إلا مرآة يُعكس فيها الواقع المُعاش ، وكان من بين أعضاء جماعة بغداد جبرا إبراهيم جبرا وخالد الرحال ورسول علوان وشاكر حسن آل سعد وطارق مظلوم وآخرين ، وليس من شك أن تأسيس جماعة بغداد للفن الحديث يمثل نقطة تحول مهمة في تأريخ الفن التشكيلي المعاصر في العراق فقد أصبحت التجربة الفنية للفنانين من رسامين ونحاتين قائمة على دواعٍ جمالية جديدة قائمة على الحداثة المحتفظة بمضمونها الوطني والقومي .
وفي العام 1953 التفّ بعض التشكيليين حول الفنان حافظ الدروبي مؤسسين جماعة جديدة سميت (بجماعة الانطباعيين) إذ كان الفنان العراقي متأثرا بالمدرسة الانطباعية بشكل واضح في بداية الحركة الفنية الحديثة وأستمر هذا التأثير كقاعدة أساسية في الاستعمالات اللونية رغم تعدد الاتجاهات والاساليب الفنية مع الاحتفاظ بالروح الحضارية للبلد ليظل لجماعة الانطباعيين العراقيين موقفهم القومي من الفن العراقي باسلوبهم الخاص .
ومع تأسيس هذه الجماعات الفنية الثلاث (الروّاد وبغداد والانطباعيين) زخر العقد الخمسيني بالكثير من المعارض الفنية الجماعية والفردية وعلى الصعيدين الدولي والمحلي ، ومن أهم هذه المعارض ، المعارض السنوية التي يقيمها معهد الفنون الجميلة ودار المعلمين العالية ومعرض بغداد للرسم والنحت لنادي المنصور (1956 - 1957 – 1958) وبعض من المعارض المشتركة بين الفنانين العراقيين والأوربيين في الأعوام (1951- 1953 – 1956) وأيضا معرض المرفوضات عام 1958 ومعارض فنية عراقية في الهند وبيروت واخرى في الصين عام (1958) ، وكان لهذه المعارض الأثر الكبير في تنشيط الحركة الفنية العراقية بشكل عام فقد استقطبت الجماهير بتنوّع ثقافاتهم واحتدم النقاش فيما بينهم حول التقنيات والأساليب المختلفة والحديثة التي تميزت بها الأعمال الفنية في تلك المعارض التي غلبت عليها سمة التجديد والمزاوجة بين التراث والمعاصرة ، ومن هنا بدأ الفن التشكيلي والتنظير الفني يلعبان دوراً بارزاً في الساحة الثقافية التشكيلية في الكشف عن إنسانية الفن الحديث وذوقه المعاصرين ليصبح مجالا للتعبير عن هموم الفرد وطموحاته .
يتبع...
سامر قحطان القيسي
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
اترك تعليق