يدفعنا الحديث عن نشأة الفن التشكيلي المعاصر في العراق الى توجيه أبصارنا نحو بداية القرن العشرين الذي شهد النهضة الحقيقية للفن التشكيلي العراقي ، فالمتتبع لمسيرته يجد أنّه لم يولد من العدم بل جاء نتيجة جهود مضنية بذلها الفنان العراقي في صراعه المستمر لتهيئة فكر المجتمع العراقي لتقبل ثقافة فنية تتسم بالمزاوجة بين موروث عربي ذي روحية إسلامية وفكر أوروبي حداثوي ذي نزعة علمية تجريبية ، فقد بدأ الفن التشكيلي العراقي متأثراً بتأثيرات تركية ممزوجة بموروث حضاري عربي إسلامي وكان ذلك عن طريق مجموعة من الرسامين الهواة الذين درسوا الرسم في المدارس العسكرية العثمانية في تركيا، حيث كان يدرّس فن الرسم باعتباره أحد المناهج الأساسية المكملة لدراستهم الأكاديمية ، وكان من هؤلاء عبد القادر الرسام الذي ظل رأس الفنانين العراقيين ورمزاً للطبقة الوسطى للمثقف في العهد العثماني ، فضلا عن أمين جروة والحاج سليم وعاصم حافظ وشوكت الرسام والنحات محمد خضر والنحات الفطري احمد فتحي وغيرهم ، وكانت مواضيع هؤلاء الفنانين معتمدة بشكل أساسي على تصوير الطبيعة والمشاهد اليومية بأسلوب واقعي تقليدي ، أي أنّ رسومهم ومنحوتاتهم كانت منطلقة من فكرة مجاراة ما هو ظاهر للعيان، وبمعنى أدق محاكاة الطبيعة بعيدا ًعن إظهار ذات الفنان .
لقد اشارت الكثير من الدراسات الى أن البدايات الأولى لهذه المرحلة كان فيها الفعل الذاتي للفنان معدوماً إلى حد ما ، إذ أنّ الفن التشكيلي ما هو إلا هواية يسعى الفنان من خلالها إلى الذوبان في الطبيعة ومحاكاتها ، فقد كان الفن تسجيلا يكتفي بالتخطيط والتلوين بحدود المنظر الفوتوغرافي ، وقد يعزى سبب المحاكاة عند الرعيل الاول من الفنانين أنهم درسوا الرسم طبقاً لأسس تربوية من خلال دراستهم في الأكاديميات العسكرية كمواكبة للمسارالثقافي الأوربي بشكل عام ، مما دفع بالجيل التالي لإبتكار أفكارواساليب فنية جديدة بعيدا عن التقليد اصبحت فيما بعد قاعدة مهمة للانطلاق نحو اساليب فنية حداثوية .
وبحلول البواكير الأولى للعقد الثلاثيني بدأت البوادر الأولى لظهور المبدع العراقي في فني الرسم والنحت على حد سواء ، حيث ولد العديد من الفنانين التشكيليين الذين أصبحوا فيما بعد يشكلون قوة جديدة أساسية في حركة الفن المعاصر وعُدوا الرعيل الثاني من الرواد تاريخيا وفي نفس الوقت هم جيل البحث والتطلع والتنوير ، فقد بدأ المثقف العراقي يلمس حاجة المجتمع العراقي المثقل بهموم الحروب والاحتلال إلى الاطلاع على الفنون وإدخالها حيز الثقافة بشكل فعلي .
ففي بداية الثلاثينيات قامت وزارة المعارف العراقية بإرسال البعثات الأولى من الفنانين العراقيين كبشائر أولى لليقظة الفنية العراقية المعاصرة، لتنبدأ طلائع الفنانين بالسفر إلى أوروبا لدراسة الفن ، وكان في مقدمة هؤلاء أكرم شكري الذي أوفد إلى انكلترا عام 1931 ، وتبعه فائق حسن موفدا إلى باريس ومن بعده عطا صبري وحافظ الدروبي إلى ايطاليا ليتبعهم جواد سليم ومحمد غني حكمت إلى باريس أيضا ، واستمرت هذه البعثات جماعية وفردية لهؤلاء الفنانين وغيرهم في تلك المرحلة ومابعدها لتنتج جيلا فنيا جديدا يمتاز بأنه الأكثر مهارة في ممارسة العمل الفني من سابقيه ، حيث بدأ الفنان العراقي بالاستجابة لإرادته الذاتية ولو بالشيء القليل بعيدا عن السليقة والقابلية المنماة بصورة شخصية أو شبه ثقافية ، وبعودة هؤلاء الفنانين من بعثاتهم إلى بغداد أصبحت الحاجة ملحة لتأسيس معهد لتعليم وتدريس الفنون الجميلة ليبصر النور (المعهد العراقي) الذي أسس عام 1936م والذي شكل إحدى الخطوات المهمة في مسار الثقافة الفنية العراقية بوصفه أول مؤسسة حكومية عراقية تُعنى بتعليم الفنون بشكل رسمي تمهيدا لنشر الثقافة التشكيلية بين الأفراد المهتمين في هذا المجال ، وكان المعهد مقتصرا على فن الموسيقى بادئ الامر حتى مطلع عام 1939 وعودة الفنان فائق حسن من باريس ليفُتتح فرع الرسم في هذا المعهد ويسمى ب (معهد الفنون الجميلة) والذي تلاه افتتاح فرع النحت وتشكيل (جمعية أصدقاء الفن) عام 1941 من بعض محبي وهواة الفن المهتمين في مجال الثقافة الفنية .
اتسمت الحركة الفنية بعد افتتاح معهد الفنون الجميلة بسمة جديدة هي ظهور (الجماعات الفنية) والتي كان في مستهلها (جمعية أصدقاء الفن) التي تشكلت على يد الفنان أكرم شكري وكريم مجيد وعطا صبري وشوكت سليمان وغيرهم ، وقد التزم الفنانون المبعوثون إلى خارج العراق بالتدريس في (معهد الفنون الجميلة) كمؤسسة تعليمية فنية مما أدى إلى نشر الوعي الفني بفكر وأسلوب جديدين في الفن التشكيلي العراقي ، فقد بدأت حركة التشكيل العراقي بالاقتراب (إن لم يكن الارتباط) بالفكر الفني العالمي والأوروبي المعاصر عن طريق توجه الفنان العراقي للاهتمام بالأساليب الفنية الأوروبية وإضفاء طابع القدسية للعمل الفني لذاته بعيدا عن المحاكاة الخالصة وممارسة الهواية الشخصية ، ليكون العقد الاربعيني بداية لمرحلة جديدة من الاكتشافات الفنية ، فقد بدأت بعد الحرب العالمية الثانية هجرة الفنانين البولونيين إلى بغداد وامتزاج اساليبهم وتقنياتهم الفنية بأساليب رسامينا ليطوروا امكانياتهم الابداعية بمحفزات اوربية من نوع اخر .
ومن الجدير بالذكر أن العقد الاربعيني من القرن العشرين قد لاحت في أفقه أولى بوادر التنظير في مجال الفن التشكيلي العراقي بصدور مجلة الفكر الحديث عام 1942 على يد الفنان جميل حمودي والتي تخصصت بالفن والنقد ، وعُدت هذه المجلة كأول محاولة تأسيسية للنقد الفني في العراق كما وصفها بعض الفنانين والمنظرين بأنها مثلت دور الريادة في نشر الدراسات الفنية الجادة ، فقد كانت فترة الاربعينيات وماسبقها من تأريخ الفن العراقي بداية لمرحلة جديدة في الفن التشكيلي العراقي بمعطيات فكرية شكلت بداية لإزدهار فني جديد قائم على الحداثة والتجديد ، فقد ازداد عدد الرسامين والنحاتين من محترفين وهواة واصبحت معارضهم تدل على التكتلات المتفاوتة بأساليبها الفنية والمتسابقة في وفرة المنجزات الفنية وتحسينها ، وقد شكلت هذه المرحلة تحولا مهما في أساليب التغيير لدى الفنان العراقي من محاكٍ للطبيعة إلى التعبير بأساليب حديثة ، فضلا عن تعزيز رسالة الفنان العراقي الثقافية أثر وعيه بحقيقة الفن ودوره في رقي المجتمعات .
يتبع ...
سامر قحطان القيسي
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
اترك تعليق