زر الحسين(عليه السلام) زيارة مودة

إن من الحقائق المهمة التي يجب أن يعرفها ويهضمها الإنسان في هذه الحياة الدنيا، هي أن الحصول على الاستحقاقات والامتيازات والتقدير والاحترام وما شابه ذلك، مرهون بنية العمل المؤدى ونوعه وجودة أداءه.

فزيارة الإمام الحسين(عليه السلام) فعل من الأفعال القائم على النية، وفعل يقوم به الإنسان بناء على معتقده، وهو: أن المزور إمام معصوم مفترض الطاعة، وممن وجبت مودته كما قال الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب(عليهما السلام)، حيث أورد الحاكم النيسابوري بسنده ما نصه أنه قال: خطب الحسن بن علي(عليه السلام) الناس حين قتل علي(عليه السلام) فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ((... أيها الناس من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني، فأنا الحسن بن علي، وأنا ابن النبي، وأنا ابن الوصي، وأنا ابن البشير، وأنا ابن النذير، وأنا ابن الداعي إلى الله بإذنه، وأنا ابن السراج المنير، وأنا من أهل البيت الذي كان جبريل ينزل إلينا ويصعد من عندنا، وأنا من أهل البيت الذي أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، وأنا من أهل البيت الذي افترض الله مودتهم على كل مسلم، قال: تبارك وتعالى لنبيه(صلى الله عليه وآله) : {قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا}(الشورى: 23)، فاقتراف الحسنة مودتنا أهل البيت))[1]، والإمام الحسين منهم(عليهم السلام)، لذا لزم التواصل معه لتنفيذ الأمر الإلهي بالطاعة له والالتزام معه وفق أوامره لتحصيل فوائد ذلك الدنيوية والأخروية، لأن أوامره أوامر الرسول(صلى الله عليه وآله)، وهو القائل(عليه السلام): ((... وأسير بسيرة جدي وأبي علي ابن أبي طالب...))[2]، يقول تعالى(عزّ وجلّ): {يُصلِح لَكُم أَعمَالَكُم وَيَغْفِر لَكُم ذُنُوبَكُم وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَد فَازَ فَوْزاً عَظِيماً}[3].

 فالزيارة فعل مقيد بالحب والمودة للإمام الحسين(عليه السلام)، بل لا ينجح هذا الأمر إلا بوجود المودة التي أوجبتها الله تبارك وتعالى في الآية الكريمة الآنفة الذكر، فالطاعة الناشئة عن محبة مفترضة، والمودة مفترضة أيضاً، وهو ما يجب أن يكون عليه المعتقد الذي يعتقد به الإنسان القائم بفعل الزيارة، ليس فقط للإمام الحسين(عليه السلام) بل لكل إمام معصوم(عليهم السلام) بما في ذلك رسول الله(صلى الله عليه وآله)، فالعمل وتحقق أثره قائم على نوعه ومن باب أولى جودته.

وهنا لابد من التمييز بين المحبة والمودة، فالمحبة: هي صفة نفسية، أما المودة: فهي صفة عملية،  فمن أحب شخص وده، والفرق بينهما كالفرق بين المؤثر والأثر،  فالحب: هو المؤثر، والمودة: هي أثر ذلك الحب وعلامة له ودلالة دالة عليه.

وبهذا التفريق أصبح واضحاً أن الحب صفة نفسية عاطفة قلبية، والمودة هي ذلك الأثر السلوكي العملي المتفرع عن الحب، وبذلك يتضح أن الحب هي قاعدة المودة، فبلا حب لا مودة، والمستنتج من جميع النصوص أن العلاقة مع الإمام الحسين(عليه السلام) المجسدة بفعل الزيارة قائم على المودة لا المحبة، وقد دلنا على ذلك القرآن الكريم، حيث تحدث عن أن علاقة المسلم بأهل البيت(عليهم السلام) يجب أن تكون علاقة مودة، فعبر في آياته بالمودة ولم يعبر عنها بالحب، قال تبارك وتعالى: {‏قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}، فالمطلوب من الزائر إذن ليس مجرد حرارة وإقبال عاطفي معبر عن حب واندفاع داخلي، بل المطلوب منه أكثر من ذلك، وهو السلوك العملي المبني والقائم على معرفة ماذا يريد الإمام الحسين(عليه السلام) بالتحديد مني أنا شخصياً لأعمل وفقه.

وبناء على هذا يلزم أن نسأل انفسنا فرداً فرداً سؤالاً فرضياً، هو: أننا إذا كنا نود الإمام الحسين(عليه السلام)، فما هو تكليفنا الذي يكلفنا به الإمام الحسين(عليه السلام) لنعمل به ووفقه، بعبارة أخرى: أي سلوك عملي انتهج ليتحقق ما يريد(عليه السلام)؟ لتتحقق المودة؟![4]

فعلى هذا يكون المطلوب من الزائر أن يلتفت إلى أن الحب وحده غير كاف، بل يجب أن يتطور إلى مودة، وهي نتيجة لذلك الحب، وتجسيدها هو العمل بالمبادئ والقيم والاخلاقيات الاسلامية التي نهض من أجلها الإمام الحسين(عليه السلام) ليكون الاصلاح الحسيني عمليا لا نظرياً، وبذلك تكون النصرة له(عليه السلام) عملية متحققة.

يقول عبد الله ابن مسعود: كنا مع النبي(صلى الله عليه وآله) في بعض أسفاره، إذ هتف بنا أعرابي بصوت جهور، فقال: يا محمد. فقال له النبي(صلى الله عليه وآله): ما تشاء؟ فقال: المرء يحب القوم ولا يعمل بأعمالهم. فقال النبي(صلى الله عليه وآله): المرء مع من أحب. فقال: يا محمد، اعرض علي الإسلام. فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم شهر رمضان، وتحج البيت.

فقال: يا محمد، تأخذ على هذا أجرأ؟ فقال: لا، إلا المودة في القربى. قال: قرباي أو قرباك؟ فقال: بل قرباي. قال: هلم يدك حتى أبايعك، لا خير فيمن يودك ولا يود قرباك[5].

فالأمر يستحق العناء والتعب، ففعل الزيارة يلزم أن يكون كزيارة مودة، تحدث آثاره وتتحقق له ثمرات عديدة يرجوها الإنسان، والتي لا تمنح إلا لمن يتمتع بصفة خاصة(زائر مودة)، وهو الذي يتمتع بصفة النفس العارفة، إذ وردت الإشارة إلى هذه النفس متمثلة بصفتها في الحديث عن النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله) مع ابن عباس قائلاً: ((يا ابن عباس من زاره- أي الحسين عليه السلام- عارفاً بحقه كتب له ثواب ألف حجة وألف عمرة، ألا ومن زاره فكأنما زارني، ومن زارني فكأنما قد زار الله، وحق الزائر على الله أن لا يعذبه بالنار، ألا وإن الإجابة تحت قبته، والشفاء في تربته، والأئمة من ولده))[6].

فزائر الحسين(عليه السلام) العارف بحقه له كرامة على الله تبارك وتعالى ويمتاز بميزتين رئيسيتين:

1-  أنه لا يعذب بالنار.

2-  وهو مستجاب الدعوة.

وهاتان الميزتان يحصل عليها من كان يحمل صفة المعرفة به وما يريد(عليه السلام).

وقد  ورد عن أبي الحسن الماضي(عليه السلام) أيضاً أنه قال: ((من زار الحسين عارفا بحقه غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر))[7].

والملاحظ في الروايتان الآنفتين، أنهما تشيران إلى مطلب من مطالب الإنسان البالغ الأهمية، وهو مطلب استراتيجي في حياته: (النجاة من النار ودخول الجنة، بل تحصيل رضا الله تبارك وتعالى).

وهنا لأن الأمر يدخل في مصلحة الإنسان ومستقبله، أوجبت زيارته(عليه السلام) على من يعتقد بإمامته(عليه السلام) وجوباً عينياً: فقد ورد عن أبي جعفر الباقر(عليه السلام) أنه قال: ((مروا شيعتنا بزيارة قبر الحسين عليه السلام؛ فإن إتيانه يزيد في الرزق، ويمدُّ في العمر، ويدفع مدافع السوء، وإتيانه مفترض على كل مؤمن يُقرُّ للحسين بالإمامة من الله))[8]، وجُعلت عهداً في عنق الإنسان، كل إنسان وعلى الخصوص أولياءه(عليه السلام)، ففي حديث الوشاء، قال: سمعت الرضا(عليه السلام) يقول: ((إن لكل إمام عهدا في عنق أوليائه وشيعته، وإن من تمام الوفاء بالعهد...))[9]، ويستمر باقول فيقول: ((... وحسن الأداء زيارة قبورهم، ...))[10]، فمن زارهم بهذه النية: ((... رغبة في زيارتهم وتصديقا لما رغبوا فيه...))[11] للحصول على هذه النتيجة: ((...كان أئمتهم شفعاؤهم يوم القيامة))[12].

ففعل الزيارة يكشف عن الرغبة في الوفاء بالعهد، والموفي بالعهد لا يصدر إلا من قبل الإنسان الصادق في ادعاءاته وأقواله، فلذا لا يزوره إلا الصديقون الذين هم أولياءه وشيعته بحسب نص الرواية الواردة عن رسول الله الأكرم(صلى الله عليه وآله)، والقائلة أنه دخل عليه الحسين(عليه السلام) ذات يوم وعلي عنده، فاجتذبه إليه وقال لأمير المؤمنين(عليه السلام): ((أمسكه، ثم يقع عليه فيقبله ويبكي، يقول- له الحسين عليه السلام-: يا أبه لم تبكي؟ فيقول: يا بني أقبل موضع السيوف منك وأبكي، قال: يا أبه وأقتل؟ قال: إي والله وأبوك وأخوك وأنت، قال: يا أبه فمصارعنا شتى؟ قال: نعم يا بني، قال: فمن يزورنا من أمتك؟ قال: لا يزورني ويزور أباك وأخاك وأنت إلا الصديقون من أمتي))[13].

وهنا يجب الالتفات إلى أن فعل الزيارة المقصود هو الذي يتحقق فيه الشروط التالية:

1-  النية، وهي أن تزوره (... رغبة في زيارتهم...).

2-  والمقصد فيه، هو أن تزوره (... تصديقا لما رغبوا فيه...).

3-  والفعل يفعل بصورة حسنة، ونعني به: أن يكون الأداء والتنفيذ والتطبيق جميلاً جاذباً، ومُبْهجٍاً مرغوبٍ فيه[14]، أما الأداء فهو ما نعني به: الإتيان بالمطلوب في وقته المختصّ[15]، والناتج الاتيان بفعل الزيارة يجب أن يتصف بجمال وبهجة متعلقة بالشكل الخارجي، والجمال الداخلي المتعلق بتمام العمل في زمانه ومكانه.

وعلى هذا تكون زيارة الزائر المطلوبة ونيته الصادقة وفعله الموسوم بحسن الأداء كما قال الإمام الحسين(عليه السلام): ((...أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي علي ابن أبي طالب عليه السلام ...))[16]، أي زيارة عمل زيارة مودة.

الهوامش:------

[1] المستدرك على الصحيحين، الحاكم النيسابوري، ج3، ص: 172.

[2] بحار الأنوار، محمد باقر المجلسي، ج ٤٤، ص: 329.

[3] سورة الاحزاب: 71.

[4] انظر: موقع السيد منير الخباز، بتاريخ: 10/ 8/2024م، موضوع جمال المحبة وقدسيتها المنشور في 2/1/1430 هـ.

[5] أخلاق أهل البيت، محمد مهدي الصدر، ص: ٣١٤.

[6] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج ١٠، ص: ٣٥٢.

[7] كامل الزيارات، جعفر بن محمد بن قولويه القمي، ص: ٢٦٢.

[8] نفس المصدر، ص: 236.

[9] عيون أخبار الرضا، الشيخ الصدوق، ج ١ ، ص: ٢٩٢.

[10] نفس المصدر.

[11] نفس المصدر.

[12] نفس المصدر.

[13]  الإمام الحسين في أحاديث الفريقين، السيد علي الأبطحي، ج:1، ص: 32.

[14] انظر: المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية، مادة: أدى.

[15] انظر: كتاب التعريفات، الشريف الجرجاني، ص: ۳۲؛ الكلّيات، أيوب بن يحيى الكفوي، ص: ۶۶.

[16] بحار الأنوار، محمد باقر المجلسي، ج ٤٤، ص: 329.

المرفقات

: الشيخ مازن التميمي