السيدة الحوراء عليها السَّلام أُمُّ المصائب

لقد نشأت المصائب مع السيدة زينب عليها السَّلام منذ نعومة أظفارها، والتصقت بها الأهوال التصاق الفصيل بأُمِّه، فحينما بُشر النبيُّ صلَّى الله عليه وآله بهذه المولودة المباركة سارع إلى بيت بضعته، وهو خائر القوى حزين النفس، فأخذها ودموعه تتبلور على سحنات وجهه الكريم[1]، وضمّها إلى صدره، وجعل يوسعها تقبيلاً، وبهرت سيّدة النساء فاطمة عليها السَّلام من بكاء أبيها، فانبرت قائلةً: «ما يبكيك يا أبتي؟ لا أبكى الله لك عيناً»، فأجابها بصوت حزين النبرات: «يا فاطمة، اعلمي أنَّ هذه البنت بعدي وبعدك سوف تنصبّ عليها المصائب والرزايا».

وكان كما أخبر صلَّى الله عليه وآله فتواردت عليها المصائب تترى، فالمصاب الأليم والنبأ العظيم الأَوَّل الذي ألمَّ بها هو فقد جدها المصطفى صلَّى الله عليه وآله، فقد استيقظت عقيلة بني هاشم على النبأ المروّع الذي اهتزت له أرجاء الجزيرة من أقصاها إلى أقصاها، ألا وهو موت جدِّها العظيم والرسول الكريم محمَّد صلَّى الله عليه وآله صاحب الرسالة.

ارتاعت الطفلة عندما سمعت صراخ المفجوعين، واستيقظت على عويل الباكيات، والباكين.

ثمَّ هي ترى جدَّها الأعظم، صامتاً لا يتكلم، ساكناً لا يتحرك، والدنيا من حوله في ضجيج وصخب وهياج، وكأنَّما زُلزلت الأرض أو اجتاحها إعصار رهيب.

ارتاعت الحوراء زينب الطفلة الذكية وهي ترى هذه المشاهد المؤلمة وترى جدَّها العزيز الجليل يُحمل على آلة حدباء ويرحل الرحلة المحتومة على كلِّ إنسان من بني البشر.

كم روّع قلبها الخلي هذا الموقف وهي تسمع لحن الموت الحزين وترى موكب الرحيل الأليم.

وتعود الطفلة لتجد أُمَّها الزهراء عليها السَّلام حزينة القلب، باكية العين، فاقدة الصبر، مصدعة الكيان، كسيرة الفؤاد.

وتتوالى الأحداث والهموم والكوارث على البيت العلوي الشريف.

وتدور الأيام ثقيلة حزينة والحوادث تتلو بعضها بعضاً... والحوراء زينب عليها السَّلام وإن كانت صغيرة السّن ولكنَّها سلام الله عليها كبيرة العقل، راجحة الإدراك.

تفهم وتعي جميع ما يدور حولها من أحداث... ومفاجآت ومؤامرات نفثت سمومها وكادت نيرانها تحرق البيت الذي طهَّره الله من الرجس ورفعه عالي الأركان بالدين مبجَّلاً بالعالمين.

تأخذنا الأفكار لأتمثل الحوراء زينب عليها السَّلام وهي طفلة لم تودّع عامها السادس، لتشهد موت جدِّها الرسول صلَّى الله عليه وآله وتعي مشاهد الذهول والحزن والجزع، من هذه المصيبة التي ألمَّت بالمسلمين، تجرُّ وراءها قافلة الهموم والأحداث والوقائع.

فمن سقيفة بني ساعدة وكيف مثَّلت أدوارها إلى أحداث الخلافة وشحنائها، إلى الميراث وفدك ثمَّ تلا هذا كلَّه الوقائع... والحروب إلى جميع الأُمور التي يتفطر القلب لها حزناً وتمزقّ الأفكار جزعاً وتودع النفوس رعباً وتترك الحسرات والألم الدفين.

أجل أتمثل زينب عليها السَّلام في خضم المأساة المروعة تلوذ بأُمِّها الزهراء عليها السَّلام فتجدها ذاهلة حزينة يُغشى عليها من حين لآخر، فتنعطف مذعورة لتحتمي بأبيها الإمام فتراه حزيناً كئيباً.

أي طائف من الحزن اجتاح قلب الطفلة المدللة؟

وأي خوف غامض غزا قلبها الخلي وروع روحها البريئة؟

عادت مع أَخويها السِّبطين عليهما السَّلام إلى البيت بيت أبيها أمير المؤمنين عليه السَّلام الذي تراكمت عليه الأحداث المفجعة، وتوالت عليه المصائب المؤلمة، فأحالت زهوه وضياءه إلى ليل موحش مظلم.

لزمت زينب عليها السَّلام فراش أُمِّها الثكلى، التي اعتلت بعد وفاة أبيها النبيِّ صلَّى الله عليه وآله.. تنظر إليها بإشفاق، بادية اللهفة والخوف على حياة والدتها بضعة الرسول سلام الله عليهما.

يحقُّ للحوراء زينب عليها السَّلام إنَّ فقد الأُمِّ جدير بأنْ يجرع الطفلة مرارة الكأس

.

لم يمضِ على وفاة الرسول صلَّى الله عليه وآله ثلاثة أشهر أو ستة أشهر على أَبعد الرّوايات، حتى رحلت الزهراء عليها السَّلام عن هذه الدنيا الفانية.

وتمضي إلى جوار ربِّها راضية مرضية... وتترك تلك الصبية التي روِّعت بمأساة الموت مرتين، وفي أعزّ الناس لديها وأحبّهما إليها جدّها ووالدتها.

ولم تكن تلك الفواجع خاتمة الأحزان بالنسبة لعقيلة الطالبيين، فبعد أن اشتدَّ عودها وبلغت مبلغ النساء، عاد الدهر ليكرَّ عليها بنبأ عظيم تكاد لهوله أنْ تنشقَّ السماء، وتخرّ الجبال، كيف لا وهي ترى أباها الذي ما قامت كلمة لا إله إلَّا الله إلَّا بفضل عنائه الذي دام نصف قرن من الزمان يخرُّ أمامها كما يخرُّ عمد المخيم، فقد فعل أشقى الأَوَّلين والآخرين فعلته، وصدح جبرئيل بين السماء والأرض بتهدم أركان الهدى وانفصام العروة الوثقى، عاد أبوها من بيت الله محمولاً ينوء بنفسه وقد ارهقته طبرة المرادي (لعنه الله).

أقبلت نحوه ابنته العقيلة زينب عليها السَّلام حتى جلست معه على فراشه، وأقبلت تندبه وتقول: يا أبتاه من للصغير حتى يكبر؟ ومن للكبير بين الملأ؟ يا أبتاه حزننا عليك طويل، وعبرتنا لا ترقأ، فضجَّ الناس من وراء الحجرة بالبكاء والنحيب، وفاضت دموع أمير المؤمنين عليه السَّلام عند ذلك، وجعل يقلب طرفه وينظر إلى أهل بيته وأولاده، ثمَّ دعا الحسن والحسين عليهما السَّلام وجعل يحضنهما ويقبلهما، ثمَّ أُغمي عليه ساعة طويلة وأفاق، وكذلك كان رسول الله صلَّى الله عليه وآله يغمى عليه ساعة طويلة ويفيق أُخرى، وقبل أنْ يطبق حجة الله على عباده عينيه وتعرج روحه القدسيَّة إلى بارئها، همس في أُذن الحوراء كلاماً عن مصيرها المحتوم بعد أنْ يفارقها أمير المؤمنين عليه السَّلام، يخبر بضعته عن مصيرها ومصير أهل بيتها المحتوم فتقول السيدة زينب عليها السَّلام:

لمَّا ضرب ابن ملجم (لعنه الله) أبي عليه السَّلام ورأيت أثر الموت منه، قلت له يا أبه حدثتني أُمُّ أيمن بكذا وكذا، وقد أحببت أن أسمعه منك، فقال: «يا بنية الحديث كما حدثتك أُمُّ أيمن، وكأنِّي بكِ وببنات أهلك سبايا بهذا البلد، أذلاء خاشعين، تخافون أنْ يتخطفكم الناس، فصبراً، فو الذي فلق الحبة وبرء النسمة، ما لله على الأرض يومئذٍ ولي غيركم وغير محبيكم وشيعتكم، ولقد قال لنا رسول الله صلَّى الله عليه وآله حين أخبرنا بهذا الخبر: إنَّ إبليس في ذلك اليوم يطير فرحاً، فيجول الأرض كلَّها في شياطينه وعفاريته، فيقول: يا معشر الشياطين قد أدركنا من ذرية آدم الطلبة، وبلغنا في هلاكهم الغاية»[2].

ولكي يطمئن أمير المؤمنين عليه السَّلام على فلذة كبده وثمرة فؤاده، لا بُدَّ أنْ يودعها عند من يقوى على تحمّل أنْ تكون زينب عليها السَّلام هي أمانته، ومن لهذه المهمة العظيمة غير قمر العشيرة، نعم إنَّه العباس بن عليٍّ (سلام الله عليهما)، وعندما اطمئن الإمام العظيم على العقدين من الزمن اللذين ستدركهما بعده ابنته، عندها مدد رجليه وأغمض عينيه وفاضت روحه العظيمة إلى بارئها، تشكو إليه ما ألمَّ بها من نكبات وإقصاء دام نصف قرن حتى ساواه البعض مع الطلقاء.

جلجل الخطب، ولبى الإمام عليه السَّلام نداء ربِّه، فارتجت الكوفة لهذا النبأ المروع، نبأ وفاة إمام الهدى عليِّ بن أبي طالب عليه السَّلام.

رحل الإمام إلى جوار ربِّه، وترك زينب عليها السَّلام تندب أباها البطل الهمام، باكية متفجعة، تتجرع الحسرات، ووقفت عليها السَّلام تذرف العبرات بصمت كئيب، فدورها لم يحن بعد... ينتظرها في كربلاء.

أمسكت قلبها تعتصره في ذعر وهلع، وأصغت في وجوم إلى الضجة، وإلى صيحات الألم واللوعة، المنبعثة من حناجر المؤمنين تعلن... مات أمير المؤمنين.

نرى عقيلة بني هاشم ترعى الإمام الحسن عليهما السَّلام وقد وقف بين الجمع يقول:

«لقد قبض في هذهِ الليلة رجل لم يسبقه الأَوَّلون بعمل، ولا يدركه الآخرون بعمل، ولقد كان يجاهد مع رسول الله صلَّى الله عليه وآله فيقيه بنفسه، ولقد كان يوجهه برايته فيكتنفه جبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره، فلا يرجع حتى يفتح عليه، وما خلف صفراء ولا بيضاء...»، ثمَّ خنقته العبرة فبكى، وبكى الناس معه[3].

بايع الناس الحسن بن عليٍّ عليهما السَّلام بالخلافة، ثمَّ خرج بالناس حتى نزل المدائن، وبعث قيس بن سعد على مقدمته في اثني عشر ألفاً.

وأقبل معاوية (لعنه الله) في أهل الشام حتى نزل مسكن، فبينما الحسن عليه السَّلام في المدائن، إذ نادى منادٍ في العسكر: (ألا إنَّ قيس بن سعد قد قتل، فانفروا، فنفروا ونهبوا سرادق الحسن عليه السَّلام حتى نازعوه بساطاً كان تحته)[4].

تخدَّر الناس بمال معاوية، فتخاذلوا عن الإمام الحسن عليه السَّلام واضطر إلى الصلح الذي عقده مع معاوية.

وبعدها رجع إلى مدينة جدِّه الرسول، بصحبة أخيه الإمام الحسين وأخته العقيلة زينب وزوجها عبد الله بن جعفر (عليهم السَّلام).

كلُّ هذه المواقف والمشاهد، عاشتها عقيلة بني هاشم وفي قلبها ألف غصة، وفي عينيها تترقرق الدمعة.

تتابع تطورات الموقف باهتمام، وتحسب للمستقبل ألف حساب وترى أخويها السبطين بلهفة وشفقة.

معاوية يخشى الحسن ومهما خدع الناس بالأموال فالحقُّ دائماً هو الأعلى، إذن لماذا لا يرتاح من هذا الخصم العظيم؟

ووجد المخرج، لقد دسَّ السمَّ للإمام الحسن عليه السَّلام بواسطة زوجته جعدة بنت الأشعث (لعنها الله)، نعم وضعت الخبيثة السمَّ في شربة من لبن، وكان الإمام الحسن عليه السَّلام صائماً، فلمَّا صار وقت الإفطار، قدَّمت إليه جعدة ذلك اللبن المسموم، فشربه الإمام عليه السَّلام، فلمَّا سرى السمُّ في بدنه الشريف وإذا به قد تغيّر لونه، وأحسَّ بأمعائه كأنَّها تقطع بالسكاكين، وتشرح بالموسى، فدعا في هذه الحال بطشت وصار يتقيأ دماً، فدخل عليه جنادة بن أبي أُميَّة، رآه والطشت بين يديه يقذف فيه أحشاءه قطعة بعد قطعة فقال: سيدي هلا عالجت نفسك؟ فقال عليه السَّلام: «بماذا أعالج الموت؟ لقد سقيت السمَّ ثلاث مرات وهذه الرابعة».

فلما وصل الخبر إلى الإمام الحسين عليه السَّلام دخل على أخيه فرآه والطشت بين يديه يتقيأ دماً، جلس عنده وضمّه إليه، ثمَّ قال عليه السَّلام: «أخي أبا محمَّد من الذي سقاك السم؟ ومن أين دهيت؟»، قال الإمام الحسن عليه السَّلام: «أخي وما تريد منه؟ دعني أُخاصمه يوم القيامة بين يدي ربِّي، أخي إنَّ الذي قتلني لواحد، ولكنْ لا يوم كيومك أبا عبد الله، يزدلف إليك ثلاثون ألفاً فيقتلونك ويسبون ذراريك».

وقال الإمام الحسن للحسين عليهما السَّلام: «أخي أبا عبد الله بحقي عليك لا تهرق في أمري ملء محجمة دماً، دعني أُخاصمه بين يدي ربِّي يوم القيامة، ولكن يا أخي إذا أنا قضيت نحبي فغسلني وحنطني بفاضل حنوط جدِّي رسول الله صلَّى الله عليه وآله فإنَّه من كافور الجنة، واحملني على سريري إلى حرم جدِّي رسول الله صلَّى الله عليه وآله لأُجدد به عهداً، واعلم يا بن أُمِّ إنَّ القوم سيظنون أنَّكم تريدون دفني عند قبر جدي فيمنعونكم من ذلك، فبحقي عليك يا أخي لا ترهق في أمري ملء محجمه دماً»[5].

بينما هما في هذا الكلام وإذا بالحنين والأنين خلف الباب، وإذا بالعقيلة زينب عليها السَّلام جاءت لعيادة الحسن عليه السَّلام، التفت الإمام الحسن إلى أخيه الحسين عليهما السَّلام قال: «أخي أبا عبد الله نحِّ هذا الطشت عنِّي لئلا تراه أُختنا زينب».

فلمَّا دخلت العقيلة زينب عليها السَّلام وقد وقع بصرها على ذلك الطشت وفيه أحشاء أخيها الإمام الحسن عليه السَّلام، صاحت وا أخاه وا حسناه.

ارتاعت الحوراء زينب عندما رأت أخاها الأكبر يجود بنفسه فوقفت ترمق السبط الكريم وهو يلفظ كبده قطعاً من شدَّة السمِّ.

تجلدت عليها السَّلام، وكتمت الحسرات، وأخفت الزفرات فزينب البطلة لم تخلق للبكاء والنحيب.

إنَّها رمز الصمود، الإنسانة النبيلة، والمؤمنة الصابرة إنَّها بنت عليٍّ عليه السَّلام، ومن بني هاشم الذين هم «القتل لهم عادة وكرامتهم من الله الشهادة».

ولكنَّ فراق الأحبَّة صعب ومرير، عند ذاك أخذ الإمام الحسين عليه السَّلام بتجهيز الإمام الحسن عليهما السَّلام كما أوصاه، فغسّله وكفّنه وحنّطه بفاضل حنوط رسول الله صلَّى الله عليه وآله، وصلَّى عليه ثمَّ وضعه على سريره وأهله يبكون وينتحبون، ولكنْ هل استراح الإمام الحسن عليه السَّلام من كيد هذه الأُمَّة ومن ظلم الناس له؟

شيّع المسلمون، الإمام الحسن عليه السَّلام إلى مثواه الأخير مصحوباً باللوعة والأسف.

ورجعت زينب عليها السَّلام إلى البيت الحزين، بعد أن وُسِّد شقيقها الغالي في ملحودة قبره، ورقد الفقيد الراحل إلى جوار أُمِّه الزهراء عليها السَّلام بالبقيع عام (49) هجرية، وهو في الثامنة والأربعين من عمره كما جاء في مقاتل الطالبيين.

 

الهوامش:-----

[1] قد تقدَّم ذكر ذلك تحت عنوان (سيرة النور).

[2] كامل الزيارات: ص278.

[3] مقاتل الطالبيين، الأصفهاني: ص61-62. الإرشاد، المفيد: ج2، ص7-8.

[4] تاريخ الطبري: ج6، ص92.

[5] راجع: تاريخ ابن عساكر: ج14، ص156. المعجم الكبير، الطبراني: ج3، ص50، ح2655. مجمع الزوائد، الهيثمي: ج9، ص181. وقريب منه في مستدرك الصحيحين، الحاكم النيسابوري: ج3. كتاب معرفة الصحابة: ص181. كفاية الطالب: ص422- 423.

: الشيخ رائد الحيدري