رؤى..

المشهد اعلاه يحمل توقيع التشكيلي الايراني عبد الحميد قديريان الذي جاء به ناطقاً بقضية الطف ومظلومية الامام الحسين عليه السلام، من خلال استعراض احداثها الاليمة بمجموعة من الاشكال التجريدية المحاكية ليوم عاشوراء، اذ يتضح في هذا المشهد رموزاً وعناصراً ذات منحى فكري أسترجاعي على مستوى المخيلة والذاكرة، انجزها الفنان وهي محملة بشحنة روحية تجريدية تعبيرية ذاتية تتوسم بين ثناياها حيزاً استبطانياً، وكأن الرسام استدعى نشاطه التخيلي بكثافة ليمنح العمل مسحة خاصة من خلال رؤيته الفنية ، ويبدو جلياً للمتلقي انه استطاع ذلك عبر إنشائه المفتوح الذي يمكن من خلاله الولوج لفك شفرات رموزه الروحية التي انتقاها للتعبير عن طفوف كربلاء.

في هذا العمل تظهر السمات الأسلوبية التي بلورت الاتجاه التجريدي الذي تبناه الفنان ، فقد صوّر مجاميع من الاشكال المختلفة في اللون والمساحة والتي تتجاور بعضها الى بعض بشكل غطت مساحة اللوحة بكاملها ، وقد اعتمدت بضعة ألوان مثل الازرق والرمادي والبني والأحمر وبعض مشتقاته في تلوين هذه الأشكال التي حدُد البعض منها باللون الأسود ليتخذ منه بمثابة فواصل لونية محايدة تقلل من وطئة التنافر بين الألوان المتناقضة والمتجاورة ، وتظهر في نفس الوقت الحدود الخارجية للأشكال التي امتدت باتجاهات مختلفة بين عمودي وأفقي ومنها ما مثل العمق المنظوري للسطح التصويري، حيث أظهر الرسام من خلالها نتائج تجاربه الفنية التي شكلت له خلاصات جمالية وصل اليها من خلال اختزاله للمدركات الحسية المرئية واستخلاصه لمجموعة من المدركات العقلية اللا مرئية ،و تم ذلك بإحالة الأشكال الواقعية إلى تجريدات خالصة اتخذت منحى بنائياً ، واعتمدت أساساً صيغ التوازي والتقاطع بين الخطوط .

سعى قديريان إلى إظهار الحقيقة الجمالية الثابتة بصيغتها المجردة الخالصة ، وهذا جاء نتيجةً لتقصي دائم في العلاقات البنائية للشكل عندما استهدف إظهار صيغة الجوهري اللامرئي والذي تمثل له ببضعة عناصر هيكلية أخذ يشكلها في منظومات بنائية ، فعمليات الاختزال والتجريد في الشكل الواقعي بطبيعته المتغيرة الخاضعة للزمان والمكان  قادته إلى طبيعة اللا متغير ، فقد ابعد عن الشكل جميع مظاهر العرضية والفردية ليحصل على الهيكل الأساسي الذي تنتمي له جميع الأشكال، فنستطيع هنا ان نميز ان الاشكال في اللوحة لا تمثل شيئاً محدداً ، فالفنان اعلن من خلال اشكاله المرسومة عن افتراق لموضوعات الأشياء الحسية في واقعها المادي كونها تمثل حقيقة كلية يستخرجها العقل من خلال صور ذهنية تتجلى فيها الفكرة المجردة التي انتزعها الفنان جمالياً في صورة الاشكال الخالصة .

وبذلك فإن القيم الجمالية الخالصة التي ارتكزت عليها بنائية الشكل الخالص لدى بعض الفنانين ومنهم مبدع اللوحة انها جاءت نتيجةً لتفعيل دور العناصر البنائية في ذاتها وإظهار طاقاتها الجمالية الكامنة فيها، وذلك تبعاً لمغادرتها السياقات البنائية الواقعية المحددة ، حيث اشتغلت على سياقات تسطيح الاشكال مما استوجب من الفنان إن يستبعد ظاهرة المنظور التقليدي والصيغ التجسيمية من فضاء اللوحة وتبني صيغ تسطيحية تنفتح على فضاء لا متناهي ، فالفنان في عمله هذا أنما يتقصى جمالية مغايرة للجمالية الحسية المباشرة ، ويذهب إلى ما هو ذهني وعقلي ورياضي ، وهذا يعيدنا بالذاكرة الى الفنان الهولندي ( موندريان ) واسلوبه الفني حينما افاد من الصيغة الجمالية المجردة والمطلقة في الخطوط المستقيمة والالوان الخالصة في اغلب اعماله الفنية التجريدية ، إذ إن القيم الجمالية على هذا النحو تأتي وفق الإيقاعات المتتابعة التي يحدثها الخط في تغيير مساراته وتوازياته واللون في تبدلاته وانسجاماته وتضاداته ، وهذه تعد قيم خالصة لأنها لا تنضوي تحت موضوع محدد ونسبي ، وفي ذات الوقت أخذت هذه العناصر المتحررة تأتلف بمجموعها تحت قانون النسق البنائي لتكون كلاً متكاملاً ، فالمساحات الملونة والخطوط التي ظهرت بها الأشكال الهندسية شكلت الحبكة او النسيج العام للمنجز الفني المنتمية له هذه الأشكال المجردة والتي جعلت من المساحات اللونية المتباينة والخطوط المتضادة أن تندرج في صيغته الكلية ،اذ عمد الفنان إلى إذابة قيم الألوان المتناقضة والخطوط في هذه الوحدة البنائية الكلية .

وهنا نجد إن الصيغ الكلية المجردة للوحة اعلاه قد تكونت بفعل النسق البنائي الذي آلف بين عناصر اللوحة لتتبع سياقات بنائية خالصة ، حيث تشكلت منظومة علائقية جعلت العناصر تظهر في ترابطها صيغ تجريدية ذات منحى هندسي ، وتبعاً لذلك يمكن أن تتضح معالم وطبيعة النسق البنائي التي كونت مظهر الشكل الخالص في هذا المنجز الفني وحددت سماته البنائية.. والتي جاءت تبعاً لما تكوّن من علاقات رابطة بين العناصر حيث اتخذت في تشكلاتها صيغة بنائية محكمة .

كاتب : سامر قحطان القيسي