الإسلام دين يهتم بحياة الإنسان على صعيد الدنيا والاخرة، الأمر الذي يجعله نظاماً معرفياً وعقدياً يمتلك تفسيراً خاصاً للكون والحياة، كما أنه نظام إيماني يلبي رغبة الإنسان المتطلع نحو الغيب والارتباط بالله تعالى وجدانياً ورحياً، وكذلك نظام للحياة الطيبة والكريمة من خلال توصياته على المستوى الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، ولا يقف الإسلام عند تلك الحدود وإنما يهتم أيضاً بالأخلاق التي تصنع الإنسان النوعي ذو المسحة الملائكية فيهتم بتربيته وتهذيبه وتزكيته.
أما العلمانية فهي مجرد نظام سياسي يسعى لبناء دولة تلبي الحاجات المادية للإنسان بعيداً عن أي اهتمامات أخرى للإنسان، الامر الذي يجعل المقارنة بينهما مقارنة مجحفة في حق الإسلام، فالعلمانية في أحسن الفروض تسعى لتحقيق واحدة من الاهتمامات الواسعة التي يهتم بها الإسلام بوصفه نظرة شاملة للإنسان والحياة، وعليه تصبح العلمانية محكومة في قربها وبعدها عن الإسلام بمدى انسجامها مع القيم الأخلاقية، فالحكم بالتوافق والتعارض لا يكون بين الإسلام والعلمانية وإنما بين العلمانية وبين القيم الأخلاقية التي تمثل واحدة من الاهتمامات الإسلامية.
ويبدو أن تركيز الإنسان على همومه اليومية وسعيه لحياة مادية جعله يتصور العلمانية كبديل عن الإسلام والدين، فعندما يصبح الأفق الثقافي للإنسان ذو نظرة أحادية تهيمن المادة على كل تطلعاته الحياتية عندها يرى الإسلام ذو اهتمامات غير واقعية بالتالي يمكن الاستغناء عنه بنظم مادية، في حين أن العلمانية في ارقى صورها لا تكون بديلاً عن الدين طالما الإنسان محكوم بتطلعات أخرى غير مادية، والحوار الذي يجب أن ينعقد مع العلماني ليس حواراً حول النظم السياسية وإنما يجب أن يكون حول الإنسان والبحث عن تطلعات أخرى غير منظورة عند العلماني، وعليه فإن النظرة الشاملة للإنسان هي الكفيلة بفهم الإنسان ومعرفة تطلعاته المصيرية، فاستبعاد الدين عن المشهد الحياتي للإنسان يعني استبعاد جوهر الحياة الإنسانية، وهذا لا يعني أن الاهتمام بالجانب المعنوي مقدم على الاهتمام بالجانب المادي وإنما يعني أن المادة والمعنى كليهما يمثلان تطلعات حقيقية للإنسان، والإشكال في العلمانية ليس في كونها تبني الجانب المادي للحياة وإنما الإشكال في أنها قد تهدم الجانب المعنوي فيها.
وعليه لا وجهة للمقارنة بين الإسلام كدين وبين العلمانية كنظام سياسي، وفي المقابل يمكن اجراء مقارنة بين النظام السياسي في الإسلام والنظام العلماني، إلا أننا سنكتشف أن الإسلام ليس له صورة محددة للنظام السياسي وكل ما يهتم به الإسلام في الجانب السياسي هو حضور القيم في الساحة السياسية، مثل العدل والحرية والحقوق وبقية النظام القيمي، وعليه الإسلام له حق الحكم حتى على التجربة العلمانية بوصفها فعل إنسان يجب أن ينضبط بالقيم، والامر الذي يؤكد الخلاف بين العلمانية والإسلام هو أن القيم تختلف في تصور العلماني عن القيم في التصور الإسلامي، ففي الإسلام ليست هناك قيمة واحدة وإنما هناك شبكة متداخلة من القيم لا يجب تقديم قيمة على حساب القيم الأخرى، في حين أن النظام العلماني ركز على بعض القيم مثل الحرية حتى وإن كان على حساب القيم الأخرى، فعندما ينادي بالحرية الإباحية مثلاً فإنه يهدم قيم الفضيلة والطهر والعفاف، وعندما ينادي بحق الفرد في التملك يهمل قيم التكافل والرحمة هكذا، والتشريعات الإسلامية التي لا ترضي كثير من العلمانيين هي في واقع الامر جاءت للمحافظة على بعض القيم التي تُهمل في لحظة اندفاع الإنسان في الحياة.
ومن هنا أجد أن السؤال يجب أن ينحصر في كيفية فهم التعارض بين الإسلام والعلمانية قبل أن نبدأ في إحصاء التعارض بينهما، فالإسلام نظام أكثر شمولاً وتعدداً إذا فهمناه بوصفه نظرة شاملة لتطلعات الإنسان، وحينها يمكننا مقاربة العلمانية في إطار ما يمكن أن تحققه من تطلعات للإنسان، على أن تكون محكومة بشبكة القيم الضخمة التي يحرص الإسلام على تحقيقها دون إفراط أو تفريط في بعضها.
ويبدو أن التيارات العلمانية تعتمد في بعض الأحيان على الأساليب الشعبوية في التحريض على الدين وذلك من خلال ابراز بعض التجارب المظلمة في التجربة السياسية عند المسلمين، مع أن ذلك ممارسة غير نزيهة وفهم مشوه للإسلام، فالتاريخ وتجربة الإنسان المسلم لا تعد مصدراً من مصادر الإسلام حتى يتم الاعتماد عليها لمعرفة نظرة الإسلام السياسية، فالإسلام يتحرك في جانب التوصيات وتحفيز الإنسان على تطبيق القيم، ويبدو أن فهم الإسلام ضمن هذا التصور كفيل بفضح الممارسات التسطيحية التي تمارسها بعض التيارات في تعريضها بالإسلام من خلال تجارب المسلمين.
اترك تعليق