استغلال الشعائر الدينية لخداع المؤمنين

في كل زمان ومكان، يبقى الدين والمذهب أعظم ما يملكه الإنسان من مبادئ وهُوية وروح، ولذلك لم يكن غريبًا أن يسعى أعداء الدين - قديمًا وحديثًا - إلى استغلال الشعائر الدينية لخداع المؤمنين وإغفالهم بالدعاوى الزائفة، وترويج باطلهم تحت غطاء الشرع والتقوى. ولعلّ من أبرز الشواهد على ذلك في التاريخ الإسلامي ما عُرف بـ: "مسجد ضرار".

قال تعالى:

《وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ* لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ* أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ》.

سورة التوبة: ١٠٧ - ١٠٩ .

قصة الآيات:

لقد صمّم جماعة من المؤمنين من بني عمرو بن عوف من الأنصار، على اتخاذ مسجد يقيمون فيه الصلاة تقرباً إلى الله وقد طلبوا من رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) أن يأتيهم ليصلي في مسجدهم، فلبّى النبي(صلى الله عليه واله وسلم) الطلب، وصلى في المسجد الذي أصبح له ذات يوم شأن عظيم وهو مسجد قباء، في هذه الأثناء شعرت جماعة من أقربائهم بالحسد الشديد، فاجتمعوا والحسد يغلي في نفوسهم، وقالوا فلنبنِ نحن أيضاً مسجداً نصلي فيه.

ووصلهم في هذه الأثناء - حسب ما تنص بعض المصادر- اقتراح من رجل معادٍ لله ولرسوله لبناء مسجد، فمن هو هذا الرجل صاحب هذا الاقتراح؟ وما هي قصته؟

إنّه أبو عامر الراهب، وكان من قصته أنّه كان قد ترهّب في الجاهلية ولبس المسوح. فلما بُعث النبي (صلى الله عليه واله وسلم) وهاجر إلى المدينة واجتمع أهلها من الأوس والخزرج (الأنصار) حوله شعر أبو عامر بالحقد والحسد! فلمَ لا يكون هو الرسول الذي تلتف حوله الناس وهو الراهب الزاهد والمتنسك؟! وهكذا ساقه حسده وحقده، ليكون في الصف المعادي لرسول الله(صلى الله عليه واله وسلم).

وأرسل إليه النبي (صلى الله عليه واله وسلم) ليلقي عليه الحجة ويتلو عليه آيات القرآن الكريم التي تأخذ بمجامع القلوب، فأبى أن يسلم عناداً وحقداً وترك المدينة وانحاز إلى المشركين في مكة، وخرج معهم في المعارك التي خاضوها ضد رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم)، وكان يحثّ القرشيين على طلب ثأرهم من النبي (صلى الله عليه واله وسلم) بعد هزيمتهم في بعض حروبهم معه، ولما فتح النبي (صلى الله عليه واله وسلم) مكة هرب منها إلى الطائف، ولما أسلم أهل الطائف لم يرض بأن يدخل في الإسلام، (إنه - بحق - مصداق جلي للشخص الذي ختم الله على قلبه وسمعه وبصره غشاوة)، فلحق بالشام، ثم خرج إلى بلاد الروم وتنصّر (أي اعتنق النصرانية)، ولم يتوقف عند هذا الحد، بل أخذ يفكر في محاربة النبي(ص) واستئصال الإسلام، فراسل المنافقين في المدينة، ومنهم هؤلاء الجماعة من بني عوف، وقال لهم في رسائله: استعدوا فإنّي سأذهب إلى قيصر وآتي مع جنوده، وأخرِج محمداً من المدينة.

واقترح عليهم أن يبنوا مسجداً كمرصد لهم وله في حال عودته يجتمعون فيه ويكون المعقل الآمن وغير المشبوه الذي ينطلقون منه لمحاربة الدولة الفتيّة والكيد لها.

وهكذا تلاقت الرغبات، فهؤلاء المنافقون من بني عوف أرادوا - من جهتهم - بناء مسجد لهم، حسداً لنظرائهم من بني عوف "ولعل أبا عامر يصلي فيه"، كما قال بعضهم، وهذه علامة نفاق واضحة، وأبو عامر - من جهته - يريد بناء مسجد، ليكون مرصداً ومنطلقاً لمواجهة الإسلام، وهكذا كان، فباشروا في بناء المسجد.

ولكي يسبغوا مشروعية على هذا المسجد ذهبوا إلى النبي (صلى الله عليه واله وسلم) وقالوا: يا رسول الله إنّا قد بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والشاتية، وإنّا نحبّ أن تأتينا فتصلي فيه وتدعو بالبركة، فقال النبي (ص): إنّي على جناح السفر – وكان سائراً إلى غزوة تبوك – ولو قدمنا أتيناكم ان شاء الله، فصلينا لكم فيه.

ذهب النبي (ص) إلى تبوك، وفي منصرفه منها نزلت عليه الآيات التي ذكرناها في البداية؛ فأرسل النبي (صلى الله عليه واله وسلم) بعض أصحابه وأمرهم بتخريبه وهدمه!

وهكذا دخل هذا المسجد في سجلات التاريخ، كما دخل مسجد قباء فيها، ولكن شتان بين المسجدين، فأحدهما: وهو مسجد قبا دخل في سجلات التاريخ الناصعة، بعد أن خلّده الله تعالى بقوله: 《لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ》 ولذا تحول إلى محجة يؤمه المؤمنون إلى يومنا هذا.

والآخر: دخل هو وبانوه في سجلات الغدر والخيانة والنفاق، وقد خلد الله تعالى قصته أيضاً بقوله: 《وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا...》.

عبرة لنا:

هذه الآيات لا تتحدث فقط عن واقعة تاريخية، بل ترسم مبدأً إيمانيًا واضحًا:

《 ليس كل من يرفع شعار الدين، صادقًا، وليس كل من يبني مسجدًا أو يقوم بإحياء شعيرة دينية يريد به وجه الله تعالى》!

لا بدّ من الحذر والتنبّه، وعدم الاغترار بالمظاهر المخادعة لأصحاب الدعاوى الباطلة، فإنّ أعداء الإسلام والمنافقين يعملون بدهاء في سعيهم لتخريب الدين عن طريق الدين، فأبو عامر والمنافقون لم يبنوا لهم مركزاً مفضوحاً، لمحاربة الله ورسوله، وإنما بنوا مسجداً، ليخدعوا الضعفاء والبسطاء، وليشكل ذلك غطاءً جيداً لأعمالهم الخبيثة ونواياهم الشريرة، وفي زماننا هذا نجد أنّ بعض الطامحين إلى السلطة من خلال العناوين الدينية يقيمون الشعائر الحسينية أو الفاطمية أو غيرها، ويسعون إلى حشد أتباعهم وغيرهم من المغفلين في هذه المراسيم المعلنة باسمهم وعنوانهم، ولدى التدقيق تجد أنّهم لا يفعلون شيئاً من ذلك للدين والمذهب، وإنما لأجل مصالح سلطوية رخيصة، وإنّها في حقيقة الأمر شعائر بنيت ضراراً وخداعاً، ولم تبن على أساس التقوى.

وكم حورب الدين باسم الدين!!

ألم يحارب أمير المؤمنين (عليه السلام) يوم صفين باسم القرآن عندما رفعت المصاحف في وجهه؟! وانطلت الحيلة على الكثيرين من السذج وترتب على ذلك تغيراً خطيراً في مسار الأحداث.

ألم يحاول إعلام السلطة تبرير قتل الإمام الحسين بحجة "دينية"، وهي زعمهم أنّه "خرج عن حدّه فقتل بسيف جده"؟!

وكم من جهة ترفع شعار "الخدمة الدينية"، بينما تخدم أهدافًا سياسية أو تتبع أصحاب الدعاوى الباطلة من أدعياء المرجعية، والفرَق المدعية للمهدية، والجماعات المغالية وأمثال هؤلاء؟

وكم من مؤسّسة ظاهرها "نشر الفضيلة" و "البیعة لله" و تتكلم باسم "الدعوة إلى أهل البيت(عليه السلام)"، لكنها تعمل على إشعال الفتنة وتضليل الناس؟

وكم من خطابات دينية ظاهرها الورع، لكنها تُستخدم لتبرير الظلم؟

كل هذه صور حديثة من "مساجد ضرار" المعنوية، التي لم تعد تُبنى من طين وحجر، بل من كلمات وشاشات ومنابر إعلامية وصفحات على منصّات التواصل وكتب ومجلات و ...، توظّف الدين لمآرب لا تمت إلى الإيمان بصلة.

كيف نحذر ونحصّن أنفسنا؟

أولاً: بالوعي، فلا ننخدع بالشعارات ولا نأخذ المظاهر بصورة مطلقة على أنها حقائق.

ثانيًا: بالتثبت من النوايا والمقاصد، والرجوع إلى أهل العلم الثقات من الحوزة العلمية الأصيلة.

ثالثًا: باليقين بأن الحق لا يُعرف بزخرفة شعاراته، بل بموافقته للكتاب والسنة والعقل.

خاتمة:

قصة مسجد ضرار ليست حادثة معزولة، بل تحذيرٌ خالد من الله تعالى ورسوله(صلى الله عليه واله وسلم) لكل أمة، بأن تفتح عيونها، وتحصّن قلوبها، وتبقى متيقظة من استغلال الدين في غير مواضعه؛ لأنّ أولئك الذين يخدعون الناس باستغلال الشعائر الدينية(الحسينية، الفاطمية، المهدوية و...)، قد يفلحون في تضليل بعض العقول، لكن: "والله يشهد إنّهم لكاذبون".

أعاذنا الله تعالى من الاغترار بأصحاب الدعاوى الباطلة، إنّه سميع مجيب.

: الشيخ علي الحسون