أسس التكليف الصيام انموذجاً

قال الله تعالى في كتابه الكريم:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}[1].

إن المتبادر إلى الذهن في بحث هذا النص القرآني، أنه يبحث بحثاً تفسيرياً محضاً، ولكننا لا نريد أن نركز الحديث على هذا الجانب من البحث في الموضوع، رغم أننا قد نستفيد منه إذا اقتضت الضرورة لذك، بل نروم أن نركز الحديث على التعلم المعرفي من القرآن الكريم فكرياً وتطبيقياً، والتعلم المعرفي هذا يصب في مورد التكليف بالأعمال، لنعرف ونتعلم ما هي الأساسيات الواجب توفرها في الفرد ليصح تكليفه بفعل معين، فيكون ذلك ركناً أساسياً في حياتنا العملية السلوكية التطبيقية.

فالمعروف أن الأغراض تختلف والأعمال تبعاً لذلك، والمكلفون بها يختلفون في قدراتهم واستعداداتهم، كما تختلف أشكالهم وأحجامهم، والمفروض أن تكليفهم يقتضي التعامل معهم كأسنان المشط، وهو من تمام العدل، لكن يجب الالتفات عند ذاك إلى أنهم متفاوتون في قدراتهم التنفيذية، لذا نحن في هذه الحال نحتاج إلى معرفة الأساسيات الواجب توفرها في الفرد ليصح الاعتماد عليه وتكليفه بالأعمال أياً كانت، ومن هنا كانت دراسة الاستعدادات والقدرات بل حتى الظروف البيئية، هي من أهم الموضوعات الواجب ملاحظتها والتي تأخذ بنظر الاعتبار في مثل هذه الموارد.

فالموضوع الرئيسي الذي نروم بحثه وإلفات النظر إليه ونتعلم منه،  هو: [كيف يتصرف القرآن الله(جلّ وعلا) في حال الرغبة بإسناد التكليف أو المهمة للمكلف]، والاهتمام بهذا الأمر يمثل فرع الرغبة في تحقق الفلاح والنجاح، وبالتالي تحقق الفائدة من التكليف.

والإنسان في مثل هذه الموارد حريص على النجاح في إسناد المهام للأفراد أياً كانت، لذا لابد أن يختار أفضل وأصح وأدق النظرات، ولا محيص عن المعصومة منها، والقرآن الكريم يمثل هذه النظرة.

فالقرآن الكريم في النص أعلاه قد لاحظ الاستعدادات والقدرات في الفرد عند اسناد مهمة الصيام إليه وتكليفه به، كما أنه لاحظ الفروق الفردية بين المكلفين، ومعرفة مقدار قوتهم وضعفهم حال الأداء، كذلك لاحظ الظروف البيئية اللازمة لإنجاح التكليف، خصوصاً تلك التي لها علاقة بالمكلف وفعله.

فمعرفة الفروق الفردية من الأسس التي تساعد على تحقق الغرض من التكليف، بحيث ينعكس ذلك على تحسين سلوكيات الحياة وسيرها السير الطبيعي وانجاح الطلبة فيها، وكذلك الأداء بنحو أحسن، فالتفاوت سنة الحياة التي لا يمكن أن تقوم إذا كان الناس جميعاً في مستوى واحد، والسر فيها هو استعدادات الفرد المكلف وقدراته.

فأول أساس من أسس التكليف: هو ملاحظته: (الاستعداد الذاتي للمكلف) والذي نعني ونقصد به: (امكانية وجاهزية الفرد للقيام بأي نشاط يكلف به، وذلك بناء على التهيؤ النفسي أو العقلي الإدراكي)، وهو موهبة فطرية، تظهر أثارها حال تتهيأ لها الظروف الملائمة.

وعليه يمكن القول: أن الاستعداد حالة من التهيؤ النفسي والعقلي الإدراكي والجسمي لقبول العمل وتنفيذه، وتوفره في الفرد يجعل منه إنساناً قادراً على انجاز المهام المكلف بها، خصوصاً حال تهيئة الظروف اللازمة لها.

أمّا الأساس الثاني فهو وجود القدرة على أداء الفعل، ونعني بها ما يستطيع الفرد أن يقوم به فعلا، أي: ما يمكن إنتاجه بطريقة ملموسة بناءً علي العلم والتعلم والتدريب، وهي مبنية علي الاستعداد.

ويفرق الاستعداد عن القدرة بأنه إذا وجدت القدرة عند فرد  ما معناه أن هذا الفرد مستعد لأداء وانجاز التكليف، فالقدرة متوقفة على وجود هذا لاستعداد، فنستنتج من ذلك: (أن القدرة مكتسبة والاستعداد غير مكتسب، الأمر الذي يعني أننا نهتدي بناء على الحصر العقلي إلى أن الاستعداد فطري، ومنه نستنتج أيضاً: أنه قد يوجد الاستعداد ولا توجد القدرة والعكس صحيح.

ويمكن التمييز بين الاستعداد والقدرة بما يلي:

1- أن الاستعداد يشير إلى إمكانية إنجاز كامنة وليس إلى إنجاز فعلي الذي يشير إلى القدرة.

2- أن الاستعداد يعني الاستطاعة أو قيمة التنبؤ للقدرة، وإذا وجد الاستعداد تُنُبأ بوجود القدرة.

3- أن الاستعداد تؤكد وجوده الكلي أو النسبي وعدمه أو تنفيه القدرة في مجال النشاط الخارجي.

لذا ومن هذا المنطلق قال الأصوليون: ((التكليف مشروط بالقدرة))[2]، القدرة التي تنبئ عن الاستعداد لدى الإنسان، إذ أن التكليف واقعه: (تشريف من اللّه‏ سبحانه للإنسان وتكريم له، وهو يرمز إلى ما يتميّز به الإنسان من عقل وقدرة على بناء نفسه والتحكّم في غرائزه وقابليته لتحمّل المسؤولية خلافاً لغيره من أصناف الحيوانات، فإن أدّى الإنسان واجبَ هذا التشريف، وأطاع وامتثل شرّفه اللّه‏ بعد ذلك بعظيم ثوابه، وإن قصّر في ذلك وعصى كان جديراً بعقاب اللّه‏ وسخطه؛ لأنّه ظلم نفسه ظالم لربه)[3].

ومن هنا نفهم أن دوران الأمر بين الطاعة والتقصير يتوقف على القدرة في الأداء، وهي بدورها مبنية على الاستعداد، فإدراك هذه الحقيقة يجعلها سلوكاً متبعاً للإنسان حال تكليف شخص لشخص في أمر معين، وذلك بأن لابد: أن يكون لديه استعداد أولاً، وأن يكون قادراً على الأداء ثانياً، كما هو عليه قاعدة التكليف في القرآن الكريم، والتي اخترنا مثالاً تطبيقياً عليها الآيات الآنفة الذكر من سورة البقرة، حيث نلحظ فيها:

أولاً: أن التكليف بالصيام كان موجهاً لكل الإنسان المكلف {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[4]، وبشكل استغراقي من الأولين والآخِرين من الأمم السابقة وجميع المسلمين[5].

والصيام المقصود هو الصيام الشرعي الذي نعني به: ((الامتناع أو الإمساك عن مجموعة من الأشياء بقصد التخضع لله تعالى والتي تسمى بالمفطرات))[6]، وقبول الإنسان بالامتثال للأمر، لدليل على وجود الاستعداد لإنجاز هذا التكليف، والامتثال والأداء يدل على وجود القدرة، وهنا يجدر الإشارة إلى أن الامتثال لو صدر من واحداً فقط [كالنبي(صلى الله عليه وآله) أو الامام(عليه السلام)] امكن من الجميع لطبيعة الخلقة، ومعنى ذلك أن الاستعداد إذا وجد في مخلوق واحد يوجد في الآخرين بنفس النسبة أيضاً.

ثانياً: إن تهيئة الظروف اللازمة للصيام، والتي تفضي إلى تمكين المكلف من أدائه بكفاءة عالية، بعضها مسؤول عنها الله تعالى وبعضها مسؤول عنها نفس الإنسان، كل بحسب قدرته ودوره في التكليف، ويمكن ملاحظة ذلك جلياً في كلام النبي الأكرم محمد(صلى الله عليه وآله)، إذ قال في خطبته في استقبال شهر رمضان المبارك في آخر جمعة من شهر شعبان:

((أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ قَدْ أَقْبَلَ إِلَيْكُمْ شَهْرُ اللَّهِ بِالْبَرَكَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ، شَهْرٌ هُوَ عِنْدَ اللَّهِ أَفْضَلُ الشُّهُورِ، وَأَيَّامُهُ أَفْضَلُ الْأَيَّامِ، وَلَيَالِيهِ أَفْضَلُ اللَّيَالِي، وَسَاعَاتُهُ أَفْضَلُ السَّاعَاتِ، هُوَ شَهْرٌ دُعِيتُمْ فِيهِ إِلَى ضِيَافَةِ اللَّهِ، وَجُعِلْتُمْ فِيهِ مِنْ أَهْلِ كَرَامَةِ اللَّهِ، أَنْفَاسُكُمْ فِيهِ تَسْبِيحٌ، وَنَوْمُكُمْ فِيهِ عِبَادَةٌ، وَعَمَلُكُمْ فِيهِ مَقْبُولٌ، وَدُعَاؤُكُمْ فِيهِ مُسْتَجَابٌ، فَاسْأَلُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ بِنِيَّاتٍ صَادِقَةٍ وَقُلُوبٍ طَاهِرَةٍ أَنْ يُوَفِّقَكُمْ لِصِيَامِهِ وَتِلَاوَةِ كِتَابِهِ، فَإِنَّ الشَّقِيَّ مَنْ حُرِمَ غُفْرَانَ اللَّهِ فِي هَذَا الشَّهْرِ الْعَظِيمِ، ...))[7].

ففي هذه الكلمات بين النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله) تهيئة بيئة العمل بشقيها الداعم والمحفز.

فالأيام والليالي والساعات من الظروف اللازمة والتي تهيء الجو المناسب للعمل، وتسمى: بالبيئة الداعمة للعمل، إذ أن هذه الأمور تجعل من الصيام ممكنا وليس مستحيلاً وهي خارجة عن القدرة المادية والمعنوية لا يستطيع غير الله(جلّ وعلا) تحقيقها.

أما قوله: ((هُوَ شَهْرٌ دُعِيتُمْ فِيهِ إِلَى ضِيَافَةِ اللَّهِ، وَجُعِلْتُمْ فِيهِ مِنْ أَهْلِ كَرَامَةِ اللَّهِ، أَنْفَاسُكُمْ فِيهِ تَسْبِيحٌ، وَنَوْمُكُمْ فِيهِ عِبَادَةٌ، وَعَمَلُكُمْ فِيهِ مَقْبُولٌ، وَدُعَاؤُكُمْ فِيهِ مُسْتَجَابٌ))، فهو عبارة عن بيئة العمل المحفزة.

فإذا تم ذلك عملت القدرة بكفاءة عالية، والنتيجة تتبع أخس المقدمات كما يقول أهل المنطق.

أما مسؤولية الإنسان فتمثلها ما قاله النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله): ((فَاسْأَلُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ بِنِيَّاتٍ صَادِقَةٍ وَقُلُوبٍ طَاهِرَةٍ أَنْ يُوَفِّقَكُمْ لِصِيَامِهِ وَتِلَاوَةِ كِتَابِهِ، فَإِنَّ الشَّقِيَّ مَنْ حُرِمَ غُفْرَانَ اللَّهِ فِي هَذَا الشَّهْرِ الْعَظِيمِ)).

ولم يغب عن القرآن الكريم ملاحظة تفاوت القدرات كشرط أساسي لإداء العمل المؤثر في النتيجة، ففي حال تفاوت القدرات في التنفيذ)، تكون القدرة متذبذبة في الأداء بين الإمكان والعدم والاستحالة، وقد أشير إليها في قوله تعالى: {أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}[8].

ومن هنا يصبح واضحاً أن العنصر الأساس في التكليف هو: الاستعداد، ونعني به الاستعداد النفسي والاستعداد العقلي الإدراكي،

والقدرة،  والتي نعني بها امكانية الأداء الفعلي، والتي نظر إليها القرآن الكريم في جملة: (أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ)، فهي جملة ناظرة إلى ضعفها لا ضعف الاستعداد، والقرآن الكريم يريد أفضل الأداء الذي لا يتحقق مع ضعف القدرة، فتفاوت القدرة التي لحظها القرآن الكريم مرتبط بالصحة وسلامة الجسد، فقال(جلّ وعلا):

1- (فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا)، والمرض يعني قلت الكفاءة الجسدية بشكل عام.

2- (أَوْ عَلَى سَفَرٍ)، وهو يعني أنه يجب الصيام في بيئتك التي اعتدت على أجوائها وظروفها النفسية التي بفقدانها يتسبب التثاقل وفقدان الاستعداد وبالتالي فقدان القدرة على الإنجاز والأداء، إذ أن بعض الناس يعللونه بوجود القدرة وعدمها، وهم في الواقع ينظرون إلى وجود الاستعداد والعدم، وهو أمر غير صحيح خصوصاً ونحن لا نعرف علة الحكم.

إذاً، ومن خلال هذه القراءة التفكرية في القرآن الكريم، أصبح من الواضح أن القاعدة في التكليف والتي توصلنا إليها من خلال الآيات الآنفة الذكر، هي:

1- وجود الاستعداد.

2- وجود القدرة على التنفيذ.

3- توفر البيئة اللازمة للعمل والتي تنقسم مسؤولية توفيرها بناء على امكانية.

وبهذا الفهم نكون قد علمّنا القرآن الكريم من خلال حكم الصيام كيف التصرف حال التكليف في أي أمر من أمور الحياة، وعلى ذلك يجب أن نسير، لأن الإنسان يتعلم من النظرة المعصومة للحياة والعمل فيها والتي قامت عليها التجارب الناجحة، وبتطبيق ذلك في الحياة نكون قد أخذنا بقواعد النجاح التي لا محيص عنها، واستفدنا من هذا الكتاب المقدس الذي ركن على الرف منذ أن تلوثت العقول وانحرفت الافكار، حيث أصبح الناس يستفيدون منه لتحصيل الثواب فقط، والذي لم ينزل الله القرآن الكريم لتحصيله فقط، بل أنزله لقيادة الحياة نظرية وتطبيقاً.

 

الهوامش:------------------------------------------------------

[1] سورة البقرة: 183-184.

[2] دروس في علم الاصول، محمد باقر الصدر، ج1، ص: 304.

[3] الفتاوى الواضحة، محمد باقر الصدر، ص 125.

[4] سورة البقرة: 183.

[5] انظر: الميزان في تفسير القرآن، محمد حسين الطباطبائي، ج2، ص:5.

[6] الوجيز في احكام العبادات، وفق فتاوى المرجع السيد علي السيستاني(دام ظله الوارف)، ص: 69، مسألة: 122.

[7] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج10، ص: 313. 

[8] سورة البقرة: 184.

: الشيخ مازن التميمي