الإمام أمير المؤمنين والمسائل العقائدية

الإمام أمير المؤمنين عليه السلام باعتباره منصوبًا من الله إمامًا فهو مكلفٌ بشرح السنة والدلالة على النبوة، ثم إن هذه المسائل لم تبلغ في عصره ذروتها وإن كان العصر الذي عاش فيه يعج بالفتن والاضطرابات التي مهدت لظهور الفرق والعقائد الإسلامية المختلفة الآراء.

ومن أمهات المشاكل الكلامية التي أثيرت في عصر الإمام عليٍّ عليه السلام مشكلة القضاء والقدر والأفعال الإنسانية، فقد بين سلام الله عليه أن بعض الأقدار محتومةٌ وبعضها ليس كذلك. يقول عليه السلام للأشعث بن قيس لما عزّاه بوفاة ابنٍ له: يا أشعث إن صبرت جرى عليك القدر وأنت مأجورٌ وإن جزعت جرى عليك القدر وأنت مأزورٌ[1].

فقد بين عليه السلام أن الموت قضاءٌ وقدرٌ وأن فعل الصبر والجزع من أفعال الإنسان الإرادية بدلالة قوله عليه السلام: جرى عليك، أي بالإجبار وقوله عليه السلام: جزعت، أي بالاختيار، وله عليه السلام كلامٌ يكرره على أصحابه بعدم القول بالإجبار ولا الاختيار المطلقين.

وأبْيَنُ قولٍ في هذه المسألة قاله عليه السلام في محافلَ متفرقةٍ من أصحابه أخرجه لنا أشد أعداء أمير المؤمنين عليه السلام وهو الحجاج بن يوسف الثقفي، على لسان أعظم مدعّي الكلام والفلسفة في عصره:

(عن جماعة من العلماء أن الحجاج بن يوسف الثقفي كتب إلى الحسن البصري وإلى عمرو بن عبيد وإلى واصل بن عطاء وإلى عامر الشعبي أن يذكروا ما عندهم في القضاء والقدر.

فكتب الحسن البصري: أحسن ما وصل إلينا من أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: إن الذي دهاك إنما دهاك أسفلك وأعلاك والله بريءٌ من ذلك

وكتب إليه عمرو بن عبيد: أحسن ما سمعت في القضاء والقدر قول علي بن أبي طالبٍ عليه السلام: لو كان الوزر في الأصل محتومًا كان الموزور في القضاء مظلومًا.

وكتب إليه واصل بن عطاء: أحسن ما سمعت في القضاء والقدر قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالبٍ عليه السلام: أيدلك على الطريق ويأخذ عليك بالمضيق.

وكتب إليه الشعبي: أحسن ما سمعت في القضاء والقدر قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالبٍ عليه السلام: كل ما استغفرت الله تعالى منه فهو منك وكل ما حمدت الله تعالى عليه فهو منه. فلما وصلت كتبهم إلى الحجاج قال لقد أخذوها من عين صافيةٍ)[2].

لقد كانت هذه المسالة مثار جدل بين المسلمين في عصره عليه السلام، فقد مرّ عليه السلام على قومٍ من أخلاط المسلمين، ليس فيهم مهاجريٌّ ولا أنصاريٌّ، وهم قعودٌ في بعض المساجد، في أوّل يومٍ من شعبان، إذا هم يخوضون في أمر القدر وغيره ممّا اختلف الناس فيه، قد ارتفعت أصواتهم واشتدّ فيه مَحَكُهم وجدالهم، فوقف عليهم، فسلّم، فردّوا عليه وأوسعوا وقاموا إليه يسألونه القعود إليهم، فلم يحفل بهم، ثمّ قال لهم وناداهم: يا معاشر المتكلّمين فيما لا يعنيهم ولا يَرِد عليهم، ألم تعلموا أنّ لله عباداً قد أسكتتهم خشيته من غير عيٍّ ولا بكمٍ، وإنّهم الفصحاء العقلاء الألبّاء، العالمون بالله وأيامه. ولكنّهم إذا ذكروا عظمة الله انكسرت ألسنتهم، وانقطعت أفئدتهم، وطاشت عقولهم، وتاهت حلومهم، إعزازاً لله وإعظاماً وإجلالا له. فإذا أفاقوا من ذلك استبقوا إلى الله بالأعمال الزاكية، يعدّون أنفسهم مع الظالمين والخاطئين، وإنّهم براءٌ من المقصّرين والمفرطين، إلا إنّهم لا يرضون لله بالقليل، ولا يستكثرون لله الكثير، ولا يدلّون عليه بالأعمال، فهم متى ما رأيتهم مهمومون مروّعون خائفون مشفقون، وجلون. فأين أنتم منهم يا معشر المبتدعين، ألم تعلموا أنّ أعلم الناس بالقدر أسكتهم عنه، وأنّ أجهل الناس به أنطقهم فيه[3]

الإمام علي عليه السلام والقدرية:

وذم أمير المؤمنين القدرية في أحاديثه مشيرًا إلى أن اعتقاداتهم باطلةٌ، وهم مروِّجو البدع في الدين وحذّر المسلمين من أقوالهم الفاسدة مقررًا ما أعد الله لهم من نكالٍ ونفخةٍ جزاءً وِفاقًا لما خالفوا به صريح القرآن، وعدلوا عن نهج الصواب.

دخل عليه مجاهد وعبد الله بن عباس فقال: يا أمير المؤمنين: ما تقول في كلام أهل القدر؟ ومعه جماعة من الناس، فقال أمير المؤنين عليه السلام: معك أحدٌ منهم أو في البيت أحدٌ منهم؟ فقال: ما تصنع بهم يا أمير المؤمنين؟ قال عليه السلام: أستتيبهم فإن تابوا وإلا ضربت أعناقهم[4].

وقال عليه السلام: ما خلا أحدٌ من القدرية إلا خرج من الإيمان[5].

وقال عليه السلام: لكل أمةٍ مجوسٌ ومجوس هذه الأمة الذين يقولون بالقدر[6].

وقال عليه السلام: يجيء بأصحاب القدر يوم القيامة فترى القدرية من بينهم كالشامة البيضاء في الثور الأسود فيقول الله عز وجل ما أردتم؟ فيقولون ما أردنا إلا وجهك. فيقول قد أقلناكم عثراتكم وغفرت لكم زلاتكم إلا القدرية فإنهم دخلوا في الشرك من حيث لا يعلمون[7].

وعن الحارث الهمداني قال علي عليه السلام: إن أرواح القدرية يعرضون على النار غدوةً وعشيًّا حتى تقوم الساعة فإذا قامت الساعة عذبوا مع أهل النار بألوان العذاب فيقولون ياربنا عذبتنا خاصةً وتعذبنا عامةً. فيرد عليهم ﴿ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيۡءٍ خَلَقۡنَٰهُ بِقَدَرٖ﴾[8].

سيرته الفعلية في التعبد بالقضاء والقدر:

وكما قرأت عنه عليه السلام في سيرته القولية، كذلك في سيرته الفعلية فكان عليه السلام يتعبد في القضاء والقدر، فكانت تصدر منه أفعالٌ، يريد منها تنبيه أصحابه، إلى أن التسليم لأمر الله هو من تمام إيمان العبد المسلم المطيع لخالقه.

عن أبي حيان التيمي عن أبيه: كان مع عليٍّ يوم صفين وفيما بعد ذلك قال: بينما علي بن أبي طالب يعبئ الكتائب يوم صفين ومعاوية مستقبله على فرسٍ له يتأكل تحته تأكُّلًا وعليٌّ عليه السلام على فرس رسول الله صلى الله عليه وآله المرتجز، وبيده حربة رسول الله صلى الله عليه وآله وهو متقلدٌ سيفه ذو الفقار فقال رجلٌ من أصحابه: احترس يا أمير المؤمنين فإنا نخشى أن يغتالك هذا الملعون.

فقال عليه السلام : لئن قلت ذاك إنه غير مأمون على دينه وإنه لأشقى القاسطين وألعن الخارجين على الأئمة المهتدين، ولكن كفى بالأجل حارسًا، ليس أحدٌ من الناس إلا ومعه ملائكةٌ حفظةٌ يحفظونه من أن يتردى في بئرٍ أو يقع عليه حائطٌ أو يصيبه سوءٌ فإذا كان أجله، خلّوا بينه وبين ما يصيبه، وكذلك أنا إذا حان أجلي انبعث أشقاها، فخضب هذه من هذه – وأشار إلى لحيته ورأسه – عهدًا معهودًا ووعدًا غيرَ مكذوبٍ[9].

وعن الأصبغ بن نباتة قال: إن أمير المؤمنين عليه السلام عدل من عند حائطٍ مائلٍ إلى حائطٍ آخرَ فقيل له: أتفرّ من قضاء الله؟ فقال عليه السلام: أفر من قضاء الله إلى قدر الله عز وجل[10].

ودخل الحسين بن علي L على معاوية فقال له: ما حمل أباك على قتل أهل البصرة ثم دار عشيةً في طرقهم في ثوبين؟ فقال عليه السلام: حمله على ذلك علمه أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه. قال: صدقت[11].

وقيل لأمير المؤمنين عليه السلام لما أراد قتال الخوارج: لو احترزت يا أمير المؤمنين! فقال عليه السلام:

أي يوميّ من الموت أفر

يوم لم يقدر أم يوم قدّر

يوم ما قدر لا أخشى الردى

وإذا قدّر لم يُغْنِ الحذر[12]

وعن عيسى بن أبي كثير قال: قيل لأمير المؤمنين عليه السلام: ألا نحرسك؟ قال: حرس كل امرئٍ أجله[13].

وعن سعد بن وهب قال: كنا مع سعيد بن قيس بصفين ليلًا والصفان ينظر كلُّ واحدٍ منهما إلى صاحبه حتى جاء أمير المؤمنين عليه السلامفنـزلنا على فنائه فقال له سعيد بن قيس: أفي هذه الساعة يا أمير المؤمنين؟ أما خفت شيئًا؟ قال وأي شيء تخاف؟ إنه ليس من أحدٍ إلا ومعه ملكان موكلان به أن يقع في بئرٍ أو تضربه دابةٌ أو يتردى من جبلٍ حتى يأتيه القدر، فإذا أتى القدر خلُّوا بينه وبينه[14].

وعن يعلى بن مرّة، قال: كان عليٌّ عليه السلام يخرج بالليل إلى المسجد يصلّي تطوّعاً، فجئنا نحرسه، فلمّا فرغ أتانا فقال: ما يجلسكم؟ قلنا: نحرسك، فقال: أمن أهل السماء تحرسون، أم من أهل الأرض؟ قلنا: بل من أهل الأرض، قال: إنّه لا يكون في الأرض شيءٌ حتّى يقضى في السماء، وليس من أحدٍ إلاّ وقد وُكّل به ملكان يدفعان عنه ويكلآنه حتّى يجيء قدره، فإذا جاء قدره خَلَّيا بينه وبين قدره، وإنّ عَليَّ من الله جُنّةً حصينةً فإذا جاء أجلي كشف عنّي، وإنّه لا يجد طعم الإيمان حتّى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه[15]

الحديث العمدة في مسألة القضاء والقدر

يعتبر أمير المؤمنين عليه السلام ـ كما أسلفنا ـ مشيد أساس معرفة القضاء والقدر في الإسلام مع التحذير المسبق بعدم التوغل والدخول في هذه المسالة لمن لا يجد المخرج منها فإن القضاء والقدر بحرٌ غرق فيه خلقٌ كثيرٌ.. إذ هو البحر الذي لا يحق لغير آل محمد صلى الله عليه وآله أن يطلع فيه.

جاء رجلٌ إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر؟ فقال عليه السلام: بَحرٌ عميقٌ فلا تَلِجْهُ، قال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر؟ قال عليه السلام: طريقٌ مظلمٌ فلا تسلكه، قال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر؟ قال عليه السلام: سرّ الله فلا تتكلّفه، قال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر؟ فقال أمير المؤمنين عليه السلام: أمّا إذا أبيت فإنّي سائلك، أخبرني أكانت رحمة الله للعباد قبل أعمال العباد، أم كانت أعمال العباد قبل رحمة الله؟ قال: فقال له الرجل: بل كانت رحمة الله للعباد قبل أعمال العباد، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: قوموا فسلّموا على أخيكم فقد أسلم، وقد كان كافراً، قال: وانطلق الرجل غير بعيدٍ ثمّ انصرف إليه فقال: يا أمير المؤمنين أبالمشيّة الأُولى نقوم ونقعد ونقبض ونبسط؟ فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: وإنّك لبعيد في المشيّة، أما إنّي سائلك عن ثلاث لا يجعل الله لك في شيءٍ منها مخرجاً؟ أخبرني أخلق الله العباد كما شاء أو كما شاؤوا؟ فقال: كما شاء، قال عليه السلام: فخلق الله العباد لما شاء أو لما شاؤوا؟ فقال عليه السلام: لما شاء، فقال: يأتونه يوم القيامة كما شاء أو كما شاءوا؟ قال: يأتونه كما شاء، فقال عليه السلام: قم فليس إليك من المشيّة شيءٌ[16]

وقد جاء هذا الخبر بعدة طُرُقٍ يتحد مضمونها وتختلف بعض ألفاظها ومنها ما عن الحرث، قال: جاء رجلٌ إلى عليّ بن أبي طالب عليه السلام، فقال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر؟ قال: طريقٌ مظلمٌ لا تسلكه، قال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر؟ قال: بحرٌ عميقٌ لا تلجه، قال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر؟ قال: سرّ الله قد خفي عليك فلا تفشه، قال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر؟ قال: أيها السائل إذاً الله خلقك لما شاء أو لما شئت؟ قال: بل لما شاء، قال: فيستعملك كما شاء أو كما شئت؟ قال: بل كما شاء، قال: فيبعثك يوم القيامة كما شاء أو كما شئت؟ قال: بل كما شاء، قال: أيّها السائل ألست تسأل ربّك العافية؟ قال: نعم، قال: فمن أيّ شيءٍ تسأله العافية أمن البلاء الذي ابتلاك به غيره؟ قال: من البلاء الذي ابتلاني به، قال: أيّها السائل تقول لا حول ولا قوّة إلاّ بمَنْ؟ قال: إلاّ بالله العليّ العظيم، قال: فتعلم ما تفسيرها؟ قال: تعلمني ممّا علمك الله يا أمير المؤمنين، قال: إنّ تفسيرها لا تقدر على طاعة الله، ولا يكون لك قوّة في معصيته في الأمرين جميعاً (كذا) إلاّ بالله. أيّها السائل ألك مع الله مشيّةٌ، أو فوق الله مشيّةٌ، أو دون الله مشيّة؟[17] فإن قلت أنّ لك دون الله مشيّةٌ فقد اكتفيت بها عن مشية الله، وإن زعمت أنّ لك فوق الله مشيّةٌ فقد ادّعيت أنّ قوّتك ومشيّتك غالبتان على قوّة الله ومشيّته، وإن زعمت أنّ لك مع الله مشيّةٌ فقد ادّعيت مع الله شركاً في مشيئته.أيّها السائل إنّ الله يشجّ ويداوي (كذا) فمنه الداء ومنه الدواء، أعقلت عن الله أمره؟ قال: نعم، قال علي: الآن أسلم أخوكم فقوموا فصافحوه، ثمّ قال عليٌّ: لو أنّ عندي رجلًا من القدرية لأخذت برقبته ثمّ لا أزال أجأها حتّى أقطعها، فإنّهم يهود هذه الُأمّة ونصاراها ومجوسها[18]

حديث الشيخ عند منصرفه من صفين

كان أمير المؤمنين جالساً بالكوفة بعد منصرفه من صفين، إذ أقبل شيخٌ فجثا بين يديه، ثمّ قال له: يا أمير المؤمنين أخبرنا عن مسيرنا إلى أهل الشام أبقضاء من الله وقدر؟ فقال أمير المؤمنين عليه السلام: أجل يا شيخ ما علوتم تلعةً ولا هبطتم بطن وادٍ إلاّ بقضاءٍ من الله وقدرٍ، فقال له الشيخ: عند الله أحتسب عنائي يا أمير المؤمنين، فقال له عليه السلام: مَه يا شيخ! فوالله لقد عظّم الله لكم الأجر في مسيركم وأنتم سائرون، وفي مقامكم وأنتم مقيمون، وفي منصرفكم وأنتم منصرفون، ولم تكونوا في شيءٍ من حالاتكم مكرهين ولا إليه مضطرّين، فقال له الشيخ: وكيف لم نكن في شيءٍ من حالاتنا مكرهين ولا إليه مضطرّين، وكان بالقضاء والقدر مسيرنا ومنقلبنا ومنصرفنا، فقال له عليه السلام: وتظنّ أنّه كان قضاءً حتماً وقدراً لازماً؟ إنّه لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب، والأمر والنهي، والزجر من الله، وسقط معنى الوعد والوعيد، فلم تكن لائمةٌ للمذنب ولا محمدةٌ للمحسن، ولكان المذنب أولى بالإحسان من المحسن، ولكان المحسن أولى بالعقوبة من المذنب، تلك مقالة إخوان عبدة الأوثان وخصماء الرحمن وحزب الشيطان، وقدريّة هذه الأُمّة ومجوسها [19]، إنّ الله تبارك وتعالى كلّف تخييراً ونهى تحذيراً وأعطى على القليل كثيراً، ولم يُعصَ مغلوباً ولم يُطَع مكرهاً، ولم يُملِّك مفوّضاً، ولم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلًا، ولم يبعث النبيين مبشّرين ومنذرين عبثاً، ذلك ظنّ الذين كفروا، فويل للذين كفروا من النار.

فأنشأ الشيخ يقول:

أنت الإمام الذي نرجو بطاعته

يوم النجاة من الرحمن غفرانا

أوضحت من أمرنا ما كان ملتبساً

جزاك ربّك بالإحسان إحسانا

وليس معذرةٌ في فعل فاحشةٍ

قد كنت راكبها فسقاً وعصيانا

لا لا (كلا) ولا قائلا ناهيه أوقعه

فيها (فيه) عبدت إذاً يا قوم شيطانا

ولا أحبّ ولا شاء الفسوق ولا

قتل الوليّ له ظلماً وعدوانا

أنّى يحبّ وقد صحّت عزيمته

على الذي قال أعلن ذاك إعلانا[20]

ورُوي أنّ رجلًا قال: فما القضاء والقدر الذي ذكرته يا أمير المؤمنين؟ قال عليه السلام: الأمر بالطاعة والنهي عن المعصية، والتمكين من فعل الحسنة وترك المعصية، والمعونة على القربة إليه، والخذلان لمن عصاه، والوعد والوعيد والترغيب والترهيب، كلّ ذلك قضاء الله في أفعالنا وقدره لأعمالنا، وأمّا غير ذلك فلا تظنّه فإنّ الظنّ له محبطٌ للأعمال، فقال الرجل: فرّجت عنّي يا أمير المؤمنين فرّج الله عنك [21]

النتيجة:

هذا هو نص الحديث العمدة في مسألة القضاء والقدر وخلق الاعمال وقد ورد في أغلب كتب الحديث والأدب والعقائد.. والمستخلص من هذا الحديث جملة من النتائج المهمة المتصلة بمسألة خلق الأعمال والقضاء والقدر وهي تعتبر نتيجة بحثنا هذا.

الأولى: إن الافعال من خلق الإنسان نفسه وعليها مدار الثواب والعقاب لأن التكليف إنما يتم بإضافة الأفعال إلينا وكذا الوعد والوعيد والتخويف والإنذار وقول أمير المؤمنين عليه السلام: (لعلك ظننت قضاءً لازمًا) الخ.. يؤكد هذا المعنى وهو المعنى الأول في القضاء والقدر الذي أشرنا إليه في بداية البحث وقلنا أنه بمعنى الخلق والإتمام، ومنه قول أمير المؤمنين عليه السلام: الأعمال على ثلاثة أحوالٍ: فرائض وفضائل ومعاصٍ فأما الفرائض فبأمر الله وبرضى الله وبقضاء الله وتقديره ومشيته وعلمه عز وجل وأما الفضائل فليست بأمر الله ولكن برضى الله وبقضاء الله وبقدر الله وبمشيته وعلمه وأما المعاصي فليست بأمر الله ولا برضى الله ولكن بقضاء الله وبقدر الله وبمشيته وعلمه ثم يعاقب عليها[22].

الثانية: إن هناك نوعين من القضاء والقدر، الأول بمعنى الخلق والإتمام وهو الذي أشرنا إليه في الفقرة الأولى والقضاء والقدر بمعنى الأمر والحكم وهو لا يصح في الذوات ويصح في الأحكام وهو واردٌ شرعًا ويؤكده قول الإمام عليه السلام (هو الأمر من الله والحكم ) أي: إن مسيرنا إلى أهل الشام أمرٌ من الله ورسوله من قتال الباغين وهم جماعة معاوية في صفين ولم يتعرض الإمام عليه السلام للمعنى الثالث للقضاء والقدر وهو الكتابة وأنه تعالى كتب أعمال العباد ونقشها في اللوح المحفوظ[23] وهذا المعنى متعينٌ في حقه تعالى وهو القضاء والقدر الذي ندبنا إليه أهل البيت عليه السلام للرضا به فلم يتعرض له الإمام عليه السلام لأن السائل كان يسأل أهو مجبرٌ أم مخيرٌ فنفى الإمام الجبر والاختيار.

الثالثة: نفي الجبرية من الأفعال الإنسانية وقد دل عليه قول الإمام عليه السلام (لو كان كذلك بطل الثواب والعقاب).

الرابعة: نفي الارادة المطلقة للإنسان وخروجه عن سلطان الله وإرادته مطلقًا أي نفي التفويض دل عليه قوله عليه السلام (إن الله لم يُعصَ مغلوبًا ولم يُطع مكرهًا ولم يُملِّك مفوضًا).

الخامسة: القول بالأمر بين الأمرين وأنه لاجبر ولا تفويض وقد دل عليه قول الإمام عليه السلام إن الله تعالى كلف تخييرًا ونهى تحذيرًا، فالأمر بين الأمرين هو بين التحذير والتخيير.

إنما نصب الله الأئمة عليهم السلام لطفًا منه للناس ليسهل عليهم إدراك مقاصد الشريعة وأحكامها وأبوابها.

وكما قال خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه واله وسلم: عليٌّ بابٌ من دخله كان آمنا، ليبينوا للناس ما يطرأ عليهم من مقالات المبطلين وشبهات الملحدين وذلك أنهم الوسائط بين الله وخلقه في الأداء والتبليغ وإيصال التكاليف لأنّ أحدًا لم يصل إلى الأزل فيخبر عن مراده والأزل لم ينـزل إلى الإمكان ليخبر عن مراده لذلك جعل الرسل والأئمة مبشرين ومنذرين ﴿وَجَعَلۡنَا مِنۡهُمۡ أَئِمَّةٗ يَهۡدُونَ بِأَمۡرِنَا﴾[24].

ولو أن طوائف القدرية وغيرهم التزموا بما قال باب مدينة علم رسول الله صلى الله عليه واله وسلم لاختصروا الطريق وقللوا النـزاع الذي أثير بينهم سنين عديدةً لا سيما في هذه المسألة (القضاء والقدر وخلق الأعمال) فقد تنازعوا فيها كثيرًا وكفّر بعضهم بعضًا وربما كفّر بعضهم من غير أن يُكّفره أحدٌ ثم آلت المسألة بكامل حلولها وفصولها إلى ما قاله الإمام المنصوب من قبل الله – كما رآيت – وإنما كان نصبه إماما لهذه المسألة وأمثالها. وهذا ما نرمي إليه في بحثنا هذا والذي نقصده هو التمسك بولاية أهل البيت عليه السلام بكل ما قالوا وما فعلوا وليس فقط بحفظ الرواية عنهم ولكن بدراية أقوالهم وفهمها فإن (رواة العلم كثيرٌ ورعاته قليلٌ)[25] وحديث تدريه خيرٌ من ألفٍ ترويه كما قال أمير المؤمنين عليه السلام. فإنهم حجج الله على عباده وأمناؤُه على سره في بلاده وحملة علوم أنبيائه ورسله ﴿وَلَوۡ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰٓ أُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنۡهُمۡ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسۡتَنۢبِطُونَهُۥ﴾[26].

والسلام على أمير المؤمنين وصي رسول رب العالمين وعلى أولاده الطاهرين واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين والحمد لله رب العالمين.

الهوامش:

[1] نهج البلاغة ج4 ص 527.

[2] البحراني، الكشكول 1/ 30.

[3] تفسير الإمام العسكري (ع) 536؛ البحار 3/265 مستدرك الوسائل 12/ 250; العاملي، الفصول المهمة: 80.

[4] الصدوق، عقاب الأعمال ص 213.

[5] الصدوق، عقاب الأعمال ص 213.

[6] المصدر نفسه.

[7] المصدر نفسه.

[8] المصدر نفسه.

[9] الصدوق، التوحيد ص 368، 368; المجلسي، البحار 5/ 113.

[10] المصدر نفسه.

[11] الصدوق، التوحيد ص 375.

[12] التوحيد ص 379.

[13] التوحيد ص 379.

[14] المصدر نفسه.

[15] المتقي الهندي، كنز العمال 1/ 347; ح1564.

[16] توحيد الصدوق، باب القضاء والقدر: 365; البحار 5/ 110; كنز العمال 1/ 346 ح1561; الصواعق المحرقة: 201. قال أمير المؤمنين (ع) في القدر: ألا إن القدر سرٌّ من سر الله وسترٌ من ستر الله وحرزٌ من حرز الله مرفوعٌ في حجاب الله مطويٌّ عن خلق الله مختومٌ بخاتم الله سابقٌ في علم الله وضع الله العباد من علمه ورفعه فوق شهاداتهم ومبلغ عقولهم لأنهم لا ينالونه بحقيقة الربانية ولا بقدرة الصمدية ولا بعظم النورانية ولا بعزة الوحدانية لأنه بحر زاخرٌ خالصٌ لله تعالى عمقه ما بين السماء والأرض عرضه ما بين المشرق والمغرب أسودُ كالليل الدامس كثير الحيات والحيتان يعلو مرةً ويسفل أخرى في قعره شمسٌ تضئ لا ينبغي أن يطلع إليها إلا الله الواحد الفرد فمن تطلع إليها فقد ضاد الله عز وجل في حكمه ونازعه في سلطانه وكشف عن ستره وسره وباء بغضبٍ من الله ومأواه جهنم وبئس المصير (التوحيد ص 391).

[17] عن أبي إبراهيم (ع) قال: مرّ أمير المؤمنين (ع) بجماعةٍ بالكوفة وهم يختصمون في القدر، فقال لمتكلّمهم: أبالله تستطيع أم مع الله، أم من دون الله تستطيع؟ فلم يدر ما يردّ عليه، فقال أمير المؤمنين (ع): إنّك إن زعمت أنّك بالله تستطيع فليس لك من الأمر شيءٌ، وإن زعمت أنك مع الله تستطيع فقد زعمت أنك شريكٌ مع الله في ملكه، وإن زعمت أنك من دون الله تستطيع فقد ادّعيت الربوبيّة من دون الله عزّ وجلّ، فقال: يا أمير المؤمنين لا، بالله أستطيع، فقال: أما أنّك لو قلت غير هذا لضربت عنقك (توحيد الصدوق، باب الاستطاعة: 352; البحار 5/ 39).

[18] تاريخ ابن عساكر، ترجمة الإمام علي 3/ 233.

[19] عن الإمام الصادق (ع) قال: إن القدرية مجوس هذه الأمة وهم الذين أرادوا أن يصفوا الله بعدله فأخرجوه من سلطانه وفيهم نزلت هذه الأية ﴿يَوۡمَ يُسۡحَبُونَ فِي ٱلنَّارِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمۡ ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ 48 إِنَّا كُلَّ شَيۡءٍ خَلَقۡنَٰهُ بِقَدَرٖ﴾ أما وجه تسمية القدرية بمجوس الأمة فقد قال أبو الحسن البصري ومحمود الخوارزمي: وجه تسميته (ع) المجبرة بالمجوس من وجوهٍ:

الأول: إن المجوس اختصوا بمقالاتٍ سخيفةٍ واعتقاداتٍ واهيةٍ معلومة البطلان وكذلك المجبرة.

الثاني: إن مذهب المجوس هو ان الله تعالى يخلق فعله ثم يتبرأ منه كما خلق إبليس ثم انتفى منه وكذلك المجبرة قالوا أنه تعالى يفعل القبائح ثم يتبرأ منها.

الثالث: إن المجوس قالوا أن نكاح الأخوات والأمهات بقضاء الله وقدره وإرادته.

الرابع: إن المجوس قالوا إن القادر على الخير لا يقدر على الشر وبالعكس، والمجبرة قالوا بأن القدر موهبةٌ للفعل غيرُ متقدمةٍ عليه، فالإنسان القادر على الخير لا يقدر على الشر وبالعكس (كشف المرادص 342).

وانما أخذ المعتزلة كل هذه الوجوه لأنهم خصماء المجبرة غير أن الإمام شملهم بالقول فقال (ع): قدرية هذه الأمة ومجوسها. وأبو الحسن البصري والخوارزمي من المعتزلة.

قال العلامة الطباطبائي في تعليقه على أصول الكافي: واعلم أيضا أن تسمية هؤلاء بالقدرية مأخوذٌ مما صح عن النبي (ص) أن القدرية مجوس هذه الأمة فأخذت المجبرة تسمى المفوضة بالقدرية لأنهم ينكرون القدر ويتكلمون عنه أما المفوضة فتسمي المجبرة بالقدرية لأنهم يثبتون القدر. والذي يستحصل من أخبار أهل البيت (ع) أنهم يسمون كلتا الفرقتين بالقدرية ويطبقون الحديث النبوي عليهما، أما المجبرة فلأنهم ينسبون الخير والشرّ والطاعة والمعصية جميعا إلى غير الإنسان، كما أن المجوس قائلون بكون فاعل الخير والشر جميعا غير الإنسان، وقوله (ع) في هذا الخبر مبنيٌّ على هذا النظر، وأما المفوّضة فلأنهم قائلون بخالقين في العالم هما الإنسان بالنسبة إلى أفعاله والله سبحانه بالنسبة إلى غيرها، كما أن المجوس قائلون بإله الخير وإله الشر، وقوله (ع) في الروايات التالية: لا جبر ولا قدر، ناظرٌ إلى هذا الاعتبار. (الطباطبائي).

[20] الكافي 1: 155; الاحتجاج 1: 490 باب احتجاجه (ع) على القضاء والقدر؛ توحيد الصدوق، باب القضاء والقدر: 380؛ كشف الغمة، باب أنّ الكلّ قضاء خير: 165; روضة الواعظين، باب القضاء والقدر: 40؛ كنز العمال 1: 344 ح1560؛ السيرة الحلبية 1: 185؛ تاريخ ابن عساكر، كتاب ترجمة عليّ 3: 231؛ تحف العقول: 349.

[21] احتجاج الطبرسي 1: 311; أمالي السيد المرتضى 1: 104; مصابيح الأنوار 1: 115 ح22.

[22] خصال الصدوق ( ره) ص 78 في باب الثلاثة، قال الصدوق (رحمه الله) المعاصي بقضاء الله معناه بنهي الله لأن حكمه عز وجل فيها على عباده بالانتهاء عنها ومعنى قوله بقدر الله أي بعلم الله بمبلغها ومقدارها ومعنى قوله وبمشيته فإنه عز وجل شاء ألّا يمنع العاصي من المعاصي إلا بالزجر والقول والنهي والتحذير دون الجبر والمنع بالقوة والدفع بالقدرة.

[23] مسألة انتقاش الأعمال في اللوح المحفوظ من المسائل الغيبية المهمة جدّا والتي فيها يظهر سر البداء في الكونيات.. ولو لا بيان أهل البيت (ع) لبقينا منها في عمياء مدلهمة.. وجاء في تعريفه أنه جوهرةٌ نورانيةٌ شفافةٌ براقةٌ عليها تمثال كل ما خلق الله في عالم الأكوان قد نقشها كاتب الأزل بقلم الاختراع الذي هو أول غصنٍ أخذ من شجرة الخلد من مداد بحر الصاد واللوح على ثلاث ورقاتٍ.

الاولى: فيها كتابة الذوات والحقائق واللطائف من الأفئدة والعقول والنفوس والطبائع والمواد والأجسام.

الثانية: كتابة الصفات والاقتضاءات والنسب والإضافات والأعمال التي تأتي بها الحفظة.

الثالثة: فيها كتابة الأشباح والصور المنـتزعة من الورقة الأولى مما في الأذهان وسائر المدارك وكل من هذه الثلاثة فيها ثلاث صفحاتٍ:

الاولى: فيها مكتوبٌ الأمور المحتومة التي لا يمكن تغييرها.

الثانية: فيها من الأمور المحتومة التي يمكن تغييرها أي محوها وإثباتها ولكن الحكمة لا تقتضي ذلك من جهة وعد الله.

الثالثة: مكتوبٌ فيها من الأمور المشروطة فإذا تم الترابط حتمت وإلا لا يجوز وقوعها وعدمه.

ومجموع هذه الأمور تسعةٌ وهي مأخوذه من كتابين:

الأول: كتاب الأبرار في عليين ﴿وَمَآ أَدۡرَىٰكَ مَا عِلِّيُّونَ ١٩ كِتَٰبٞ مَّرۡقُومٞ ٢٠ يَشۡهَدُهُ ٱلۡمُقَرَّبُونَ﴾.

الثاني: كتاب الفجار في سجين فيكون مجموع اللوح ثمانية عشر وهذا هو اللوح المحفوظ عن التغير والتبدّل والزوال لأن كل ما يتغير ويتبدل فإنما هو في نفسه محفوظٌ. (جواهر الحكم 1 / 277).

[24] سورة السجدة، الآية 24.

[25] الكليني، الكافي: 1/389.

[26] سورة النساء، الآية 83.

: رسول كاظم عبد السادة