تعتبر الإمامة في الفكر الشيعي، أس الإسلام النامي وفرعه السامي، وخير ما نبتدأ به كلام مولانا الرضا عليه السلام : (( ... الامام واحد دهره لا يدانيه أحد ولا يعادله عالم ولا يوجد منه بدل وله مثل ولا نظير مخصوص بالفعل كله من غير طلب منه له ولا اكتساب بل اختصاص من المفضل الوهاب فمن ذا الذي يبلغ معرفه الامام ويمكنه اختياره؟! هيهات هيهات! )) (١) .
وعلى ما تقدم قامت فكرة النص على الإمام، والتي تعني إن إختيار الإمام لا يكون إلا من عند الله، وليس هنالك أي تدخل بشري في الأختيار، حتى لو كان الإمام الذي سبقه، فالله يختار من عباده من يشاء، ويصطفي من بينهم من يحب، ((اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَه)) (٢)، وليس لنا إلا الإذعان والتسليم، وقد ورد عن عمرو بن الأشعث قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: ((أترون الموصي منّا يوصي إلى من يريد؟! لا والله, ولكن عهد من الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم لرجل فرجل حتّى ينتهي الأمر إلى صاحبه))(٣) .
وعن معاوية بن عمّار، عن أبي عبد الله، عليه السلام، قال: ((إنّ الإمامة عهد من الله عزّ وجلّ معهود لرجال مسمّين، ليس للإمام أن يزويها عن الذي يكون من بعده..))(٤) .
إننا حين نتحدث عن إمامة إمامنا الجواد عليه السلام، نتحدث عن ظاهرة الإمامة المبكرة، والتي كانت إفتتان عظيم للناس حينها، بل شك في ذلك القريب قبل البعيد، والصديق قبل العدو، وما زاد من ظلومية الامام عليه السلام هو التشكيك بنسبه الشريف، بعد أن شاهدو سمرته الشديدة .
إن سياسة التشكيك والطعن بإمامة كل إمام عند توليه للإمامة كانت قائمة بشكل عجيب، فلم تثبت إمامة الكاظم والرضا عليهما السلام للشيعة من قبل إلا بعد اللتيا والتي، فكيف الأمر بالجواد صلوات الله عليه وهو ابن سبع سنين ...
ولعل من أصعب الإمتحانات ما مر به الشيعة في إمتحان تثبيت إمامة الإمام الجواد عليه السلام، حيث أثارت إشكالية صغر السن ضجة كبيرة في الوسط الموالي، ولم تكن هذه الضجة قد أثيرت بعد إستشهاد الإمام الرضا عليه السلام أبداً، بل أيام حياته الشريفة، حيث أنه رزق بالجواد عليه السلام أواخر عمره، وقد أوصى بالإمامة له وهو لازال في سن الثالثة من العمر، مما حدا بالإمام الرضا عليه السلام إلى أن يتصدى لهذه الهجمة مؤكداً إن التعيين إلهي، والأمر لله سبحانه، وهكذا جرت إرادته من قبل في العديد من أنبيائه .
روي عن صفوان بن يحيي قال: قلت للرضا عليه السلام: (( قد كنّا نسألك قبل أن يهب الله لك أبا جعفر فكنت تقول: يهب الله لي غلاماً، وقد وهب الله لك، فأقرّ عيوننا، فلا أرانا الله يومك، فإنْ كان كون فإلى مَنْ؟
فأشار بيده إلى أبي جعفر عليه السلام وهو قائم بين يديه .
فقلت: جعلت فداك وهذا ابن ثلاث سنين .
فقال عليه السلام : وما يضرّه من ذلك فقد قام عيسى بالحجة وهو أقلّ من ثلاث سنين ))(٥) .
وقد ذكر شيخنا الكليني رحمه الله في الكافي احتجاج الإمام الرضا عليه السلام على إمامة الجواد عليه السلام مع صغر سنه باستخلاف نبي الله داود لسليمان عليهما السلام وهو صبي يرعى الغنم فأنكر ذلك عباد بني إسرائيل وعلماؤهم .
وقد وصل الاعتراض والتشكيك إلى نفس الأصحاب حتى سأل أحدهم الإمام الجواد عليه السلام فقال: (( يا سيدي إنّ الناس ينكرون عليك حداثَة سنك .
فقال عليه السلام: وما ينكرون من ذلك قول الله عزّ وجلّ، لقد قال الله عزّ وجلّ لنبيه صلى الله عليه وآله: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾، فوالله ما تبعه إلّا علي وله تسع سنين وأنا ابن تسع سنين))(٦) .
بل الأعظم من ذلك ما أبرزه دناءة القوم بتشكيكهم في نسب الإمام، حيث إنه صلوات ربي عليه كان شديد الأدمة؛ أي السمرة، فاستغل المنكرون هذا الأمر وأشاعوا التشكيك في المدينة، خصوصاً بعد بقائه عليه السلام في مكة وانتقال الإمام الرضا عليه السلام إلى خراسان فازداد الضغط عليه، إلى درجة تجرأ القوم وعرضوه على "القافة" وهم أصحاب الخبرة في معرفة نسب الشخص، وكان له عليه السلام من العمر حينها خمس وعشرون شهراً، فلما نظروا إلى وجهه الشريف قالوا: ((يا ويحكم أمثل هذا الكوكب الدرّيّ والنور الزاهر تَعرِضون على مثلنا، وهذا والله الحسب الزكي والنسب المهذّب الطاهر ولَدتْه النجوم الزواهر والأرحام الطواهر والله ما هو إلّا من ذريّة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين عليه السلام ))(٧) .
عندها نطق الإمام الجواد عليه السلام قائلاً : (( الحمد لله الذي خلَقنا من نوره، واصطفانا من بريّته، وجعلنا أمناء على خَلقه ووحيه، أيّها الناس، أنا محمد بن علي الرضا ابن موسى الكاظم ابن جعفر الصادق ابن محمد الباقر ابن علي سيد الساجدين ابن الحسين الشهيد بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ابن فاطمة الزهراء بنت محمد عليهم السلام أجمعين، أفي مثلي يُشَكّ؟ وعلى الله تبارك وتعالى وجدّي محمد المصطفى يفترى وأُعرض على القافّة ؟ ... ))(٨)
فبلغ أمر العرض هذا الإمام الرضا عليه السلام وما حصل فيه وهو في خراسان فقال عليه السلام: (( الحمد لله الذي جعل في ابني محمد أسوة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وابنه إبراهيم))(٩) .
وهنا قد إشار الإمام الرضا عليه السلام لما تعرض إليه إبراهيم ابن النبي محمد صلى الله عليه وآله، من زوجته ماريا القبطية، حيث كان لونه يميل إلى السمرة الحادة فبدأ المشكّكون ببث سمومهم، فنصر الله تعالى نبيه عليهم وأبطل خبثهم، فكان ما حصل مع الإمام الجواد عليه السلام مواساة لرسول الله صلى الله عليه وآله ولما حصل معه.
واللطيف أيضاً أن أم الإمام الجواد عليه السلام هي من أهل بيت ماريا القبطية زوجة النبي صلى الله عليه وآله، وأن أهل "النوبة" في مصر لهم السمرة الحادة كلون طبيعي لبشرتهم، والخال أحد الضجيعين كما يقال، وإن العرق لدساس، فمن الطبيعي جداً أن يشبه الولد أخواله، ولكن المغرضين دائماً يقلبون الحقائق ويزرعون الشك إلّا أن كيد الشيطان كان ولا زال ضعيفاً .
في ظل هذه الأجواء المشحونة بالتيه الحيرة والتشكيك في إمامته للشيعة، فكان البرهان الأكبر بعد النص عليه من أبيه الرضا عليه السلام، والذي يزيل كل شك وشبهة حول إمامته، هو أسلوب المحاورة والمناظرة، والذي ابدع فيه إمامنا الجواد عليه السلام، فكان حقاً الإمام المعجزة، بعد أن تعرض لحملة أعلامية بدأت بالتشكيك بنسبه الشريف، مروراً بحداثة سنه، حيث زعم القوم أنه لا يفقه من الدين شيئاً، ولذا كانت المناظرات مع أكابر الفقهاء تبرز مقامه العلمي الذي لا يدانيه أحد في زمانه، فهو واحد دهره، لا يدانيه عالم ولا يوجد منه بدل ...
وقد روي عن الريان بن شبيب قال: لما أراد المأمون أن يزوّج ابنته أم الفضل من أبي جعفر عليه السلام، بلغ ذلك العباسيين، فغلظ عليهم واستنكروه وخافوا أن ينتهي الأمر معه إلى ما انتهى مع الإمام الرضا عليه السلام .
ولذا اجتمع منهم فئة مع المأمون وابدوا له اعتراضهم، ودار نقاش طويل بينهم إلى أن طلب المأمون أن يمتحنوه، حتى اتفقت كلمتهم على مناظرة قاضي القضاة في زمانه يحيى بن أكثم، على أن يسأله من الفقه عما لا يتمكن من الجواب عليه ووعدوه بأموال طائلة، ثم طلبوا من المأمون تعيين يوم الاجتماع، فأجابهم إلى ذلك.
وبعد أن استقر بهم المجلس، استأذن القاضي المأمون في توجيه السؤال إلى أبي جعفر، وبعد الإذن، استأذن أبا جعفر عليه السلام في توجيه السؤال إليه، فقال له الإمام عليه السلام: سل إن شئت .
قال يحيى : ما تقول جعلت فداك في محرم قتل صيداً؟
فقال أبو جعفر عليه السلام : قتله في حل أم في حرم؟ عالماً كان أم جاهلاً؟ قتله عمداً أم خطأ؟ حراً كان المحرم أم عبداً؟ صغيراً كان أو كبيراً؟ مبتدئاً بالقتل أو معيداً؟ من ذوات الطيور كان أم من غيرها؟ من صغار الصيد أم من كبارها؟ مصراً على ما فعل أو نادماً؟ في الليل كان الصيد أو في النهار؟ محرماً كان بالعمرة إذ قتله أو بالحج كان محرماً؟».
فتحير قاضي القضاة وبان في وجهه العجز والانقطاع ولجلج، حتى عرف جماعة أهل المجلس أمره .
وقد أجاب الامام الجواد عليه السلام عن كل ما ذكره تفصيلاً، ولم يجد يحيى ابن أكثم رداً سوى الاعتراف بعظمة الجواد عليه السلام .
وكذلك ورد إن المأمون بعدما زوج ابنته أم الفضل أبا جعفر، كان في مجلس وعنده أبو جعفر عليه السلام ويحيى بن أكثم وجماعة كثيرة. فقال له يحيى بن أكثم: ما تقول يا بن رسول الله في الخبر الذي روي: أنه (نزل جبرئيل عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه وآله وقال: يا محمد إن الله عز وجل يقرئك السلام ويقول لك: سل أبا بكر هل هو عني راض فإني عنه راض).
فقال أبو جعفر عليه السلام: …يجب على صاحب هذا الخبر أن يأخذ مثال الخبر الذي قاله رسول الله صلى الله عليه وآله في حجة الوداع: (قد كثرت علي الكذابة وستكثر بعدي فمن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار فإذا أتاكم الحديث عني فاعرضوه على كتاب الله وسنتي، فما وافق كتاب الله وسنتي فخذوا به، وما خالف كتاب الله وسنتي فلا تأخذوا به). وليس يوافق هذا الخبر كتاب الله، قال الله تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد}. فالله عز وجل خفي عليه رضاء أبي بكر من سخطه حتى سأل عن مكنون سره، هذا مستحيل في العقول .
ثم قال يحيى بن أكثم: وقد روي: (أن مثل أبي بكر وعمر في الأرض كمثل جبرئيل وميكائيل في السماء).
فقال عليه السلام: (( وهذا أيضا يجب أن ينظر فيه، لأن جبرئيل وميكائيل ملكان لله مقربان لم يعصيا الله قط، ولم يفارقا طاعته لحظة واحدة، وهما قد أشركا بالله عز وجل وإن أسلما بعد الشرك. فكان أكثر أيامهما الشرك بالله فمحال أن يشبههما بهما)) .
قال يحيى: وقد روي أيضا: (أنهما سيدا كهول أهل الجنة) فما تقول فيه؟
فقال عليه السلام: ((وهذا الخبر محال أيضا، لأن أهل الجنة كلهم يكونون شبابا ولا يكون فيهم كهل، وهذا الخبر وضعه بنو أمية لمضادة الخبر الذي قال رسول الله صلى الله عليه وآله في الحسن والحسن عليهما السلام: بأنهما سيدا شباب أهل الجنة)) .
فقال يحيى بن أكثم: وروي (أن عمر ابن الخطاب سراج أهل الجنة).
فقال عليه السلام: ((وهذا أيضا محال، لأن في الجنة ملائكة الله المقربين، وآدم ومحمداً، وجميع الأنبياء والمرسلين، لا تضيء الجنة بأنوارهم حتى تضيء بنور عمر)).
فقال يحيى : قد روي أن النبي صلى الله عليه وآله قال: لو لم أبعث لبعث عمر.
فقال عليه السلام: كتاب الله أصدق من هذا الحديث، يقول الله في كتابه: {وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح} فقد أخذ الله ميثاق النبيين فكيف يمكن أن يبدل ميثاقه، وكل الأنبياء عليهم السلام لم يشركوا بالله طرفة عين، فكيف يبعث بالنبوة من أشرك وكان أكثر أيامه مع الشرك بالله، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: نبئت وآدم بين الروح والجسد.
فقال يحيى بن أكثم: وقد روي أيضا أن النبي صلى الله عليه وآله قال: (ما احتبس عني الوحي قط إلا ظننته قد نزل على آل الخطاب).
فقال عليه السلام: وهذا محال أيضا، لأنه لا يجوز أن يشك النبي صلى الله عليه وآله في نبوته قال الله تعالى: {الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس} فكيف يمكن أن ينتقل النبوة ممن اصطفاه الله تعالى إلى من أشرك به .
قال يحيى: روي أن النبي صلى الله عليه وآله قال: لو نزل العذاب لما نجا منه إلا عمر.
فقال عليه السلام: وهذا محال أيضا، لأن الله تعالى يقول: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} فأخبر سبحانه أنه لا يعذب أحدا ما دام فيهم رسول الله صلى الله عليه وآله وما داموا يستغفرون .
قال أبي داوود: صرت إلى المعتصم وقلت: إن نصيحة الأمير واجبة وأنا أكلمه بما أعلم أني أدخل النار منه، قال وما هو؟ قلت: إذا جمع الأمير في مجلسه فقهاء رعيته وعلماءهم لأمر وقع من أمور الدين وسألهم عن رأيهم فيه فأخبروه بما عندهم، وقد حضر مجلسه أهل بيته وقواده ووزراؤه وكتّابه، وقد تسامع الناس من وراء بابه، ثم يترك أقاويلهم كلهم لقول رجل يقول شطر هذه الأمة بإمامته ويدّعون أنه أولى منه بمقامه ثم يحكّم حكمه دون حكم الفقهاء، قال: فتغير لونه وتنبه بما تنبه له، وقال: جزاك الله عن نصيحتك خيراً.
ثم أمر أحد كتابه في اليوم الرابع أن يدعو الإمام الجواد إلى منزله، فدعاه فأبى أن يجيبه، وقال عليه السلام: «قد علمتَ أني لا أحضر مجالسكم»، فقال: إنما أدعوك على الطعام…، ثم دس له السم، فاستشهد عليه السلام وذلك آخر شهر ذي القعدة سنة 220 هجرية.
السلام عليك يا مولاي يا أبا جعفر يا محمد ابن علي ايها الجواد النقي التقي يابن رسول الله، السلام عليك وعلى ابائك السلام عليك وعلى ابنائك، لعن الله من ظلمك وأستخف بحرمتك و تجرأ عليك يا مولاي برئت إلى الله وإليكم منهم ومن أشياعهم واتباعهم وأوليائهم ، يا مولاي يا أبا جعفر إني سلم لمن سالمكم وحرب لمن حاربكم الى يوم القيامة .
السلام عليك يا مولاي يوم ولدت ويوم أستشهدت ويوم تبعث حيا ..
حررت بتأريخ
٣٠ ذو القعدة ١٤٤٢ ه
الهوامش :------
١ - الكافي - الشيخ الكليني - ج ١ - ص ٢٠١
٢ - سورة الانعام - اية ١٢٤
٣- الكافي - الشيخ الكليني - ج ١ - ص ٢٧٨
٤ - بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج ١٤ - ص ١٣٢
٥ - الكافي - الشيخ الكليني - ج ١ - ص ٣٨٣
٦ - الكافي - الشيخ الكليني - ج ١ - ص ٣٨٤
٧ - مناقب آل أبي طالب - ابن شهر آشوب - ج ٣ - ص ٤٩٣
٨ - المصدر نفسه .
٩ - نوادر المعجزات - محمد بن جرير الطبري ( الشيعي) - ص ١٧٩
اترك تعليق