هل يحلّ لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟!

خطب الإمام الحسين عليه السلام خطبتين يوم عاشورا، ومما قاله في الخطبة الأولى مشيرا إلى قتله:

"أيها الناس انسبوني من أنا، ثم ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها وانظروا هل يحلّ لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟!

ألستُ ابن بنت نبيكم وابن وصيه وابن عمه وأول المؤمنين بالله والمصدّق لرسوله بما جاء من عند ربه؟

أوليس حمزة سيد الشهداء عمّ أبي؟

أوليس جعفر الطيار عمّي؟

أولم يبلغكم قول رسول الله لي ولأخي: هذان سيّدا شباب أهل الجنة؟"[1]، إذ يطلب منهم بوساطة فعل الأمر (انسبوني) الرجوع إلى نسبه الشريف، ثم يذكر لهم هذا النسب العظيم، فهو ابن فاطمة الزهراء عليها السلام ابنة النبي صلى الله عليه وآله، وابن علي ابن أبي طالب عليه السلام، كما أن حمزة سيد الشهداء عمّ أبيه، وجعفر الطيار عمّه، ثم يذكّرهم بقول النبي صلى الله عليه وآله فيه وفي أخيه بأنهما سيدا شباب أهل الجنة، ثم يطلب منهم بوساطة فعلي الأمر (ارجعوا) و(عاتبوها) الرجوع إلى أنفسهم الأمّارة بالسوء التي تريد الإقدام على قتله ومعاتبتها على ما تريد فعله من فعل إجرامي كبير وخطير، ثم يطلب منهم النظر بوساطة فعل الأمر (انظروا)، وموظّفا (هل) الاستفهامية، سائلا إياهم هذا السؤال: (هل يحلّ لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟!) الذي ينطوي على بنية احتجاجية عالية يحتجّ بها عليهم؛ لكي يمنعهم من الإقدام على قتله، ليس خوفا منهم، ولا خوفا على حياته؛ لأنه يعلم أن مصيره القتل على أيديهم، والشهادة الموعود بها من جدّه النبي صلى الله عليه وآله، بل خوفا عليهم وعلى مصيرهم بعد قتله، وحرصا عليهم لكي لا يلقوا بأنفسهم إلى التهلكة ونار جهنم التي لا تبقي ولا تذر، فضلا عن أن هذا الاستفهام يحمل معاني الإنكار والتوبيخ والتعجّب من فعلهم الشنيع الذي يرومون فعله، وهو قتله وانتهاك حرمته، وهو بإنكاره سعيهم إلى قتله، وتوبيخهم عليه، وتعجّبه من إقدامهم على هذه الجريمة النكراء يريد منهم عدم التورّط بقتله، هذا القتل الذي سيجرّ عليهم الويلات تلو الويلات والندم تلو الندم في الدنيا والآخرة، ولكن.. هل من مستمع؟.. وهل من مدّكر؟.

والله لا نبرح حتى نقتل صاحبك ومن معه

بعد خطبة الحسين عليه السلام الأولى يوم عاشوراء، خطب زهير بن القين بالقوم ناصحا إياهم بعدم التورط بقتال الحسين عليه السلام وقتله، وعدم نصرة أعدائه عليه، "فسبّوه، وأثنوا على ابن زياد وقالوا:

والله لا نبرح حتى نقتل صاحبك ومن معه، أو نبعث به وبأصحابه إلى الأمير عبيد الله بن زياد سلما.

فقال لهم: يا عباد الله إن ولد فاطمة عليها السلام أحقّ بالودّ والنصر من ابن سميّة، فإن لم تنصروهم فأعيذكم بالله أن تقتلوهم. خلوا بين هذا الرجل وبين ابن عمه يزيد بن معاوية، فلعمري إن يزيد ليرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين عليه السلام.

فرماه شمر بسهم وقال: أسكتْ. أسكتَ الله نأمتك، أبرمتنا بكثرة كلامك.

فقال له زهير رحمه الله: يا ابن البوّال على عقبيه ما إياك أخاطب، إنما أنت بهيمة. والله ما أظنك تحكم من كتاب الله آيتين، فأبشر بالخزي يوم القيامة والعذاب الأليم.

فقال له شمر: إن الله قاتلك وصاحبك عن ساعة.

قال: أ فبالموت تخوفني، فو الله للموت معه أحبّ إلي من الخلد معكم.

قال: ثم أقبل على الناس رافعا صوته فقال:

يا عباد الله لا يغرنّكم من دينكم هذا الجلف الجافي وأشباهه، فو الله لا تنال شفاعة محمد صلى الله عليه وآله قوما أهرقوا دماء ذريته وأهل بيته، وقتلوا من نصرهم وذبّ عن حريمهم"[2].

لقد حاول زهير بن القين إنذار القوم ونصحهم بعدم الإقدام على قتال الإمام الحسين عليه السلام وقتله، لذلك يبدأ خطبته بقوله: "نذار لكم من عذاب الله، نذار إن حقّا على المسلم نصيحة أخيه المسلم، ونحن حتى الآن أخوة على دين واحد وملّة واحدة ما لم يقع بيننا وبينكم السيف، وأنتم للنصيحة منّا أهل"[3]، فهو يحاورهم حوارا حضاريا، وينصحهم نصيحة الأخ لأخيه، وينذرهم بصيغة المصدر النائب عن فعل الأمر (نذار) التي كررها مرتين؛ ليحذّرهم من عذاب الله، وخطورة ما يريدون الإقدام عليه، إلا أنهم يجيبونه بالسبّ واللعن، والثناء على ابن زياد، وإذا حلّلنا الحوار الدائر بينهم وبين زهير بن القين تحليلا سيميائيا، مع التركيز على العلامات اللغوية الدالّة على القتل سنجدهم مصرّين إصرارا كبيرا على قتل الإمام، وهذا ما ظهر بشكل واضح في قولهم: (والله لا نبرح حتى نقتل صاحبك ومن معه، أو نبعث به وبأصحابه إلى الأمير عبيد الله بن زياد سلما)، فهم يقسمون بالله أنهم لا يتركون أماكنهم، ولا يتحرّكون أو ينتقلون إلى مكان آخر حتى يحقّقوا غايتهم التي جاؤوا من أجلها، والتي أظهرتها (حتى) الغائية، وهي قتل الحسين عليه السلام ومن معه، وهذا ما بيّنه الفعل المضارع (نقتل)، أو تسليمه وأصحابه إلى ابن زياد، فقد وظّفوا في كلامهم حرف العطف (أو) الذي يفيد التخيير. إلا أن إصرارهم على قتل الإمام الحسين عليه السلام ومن معه جعلهم يقدّمون خيار القتل على خيار التسليم، فهم لقتله أشوق وأقرب، وبذلك يظهر التحليل على وفق المسار السيكو نصي حقد هذه النفوس على الإمام وأصحابه، وتفضيلهم قتله وأصحابه على تسليمهم أحياء لابن زياد، ولو سألنا سؤالين مفادهما:

ما سبب هذا الحقد الكبير على الإمام ومن معه؟

وما سبب هذه الساديّة التي ملأت قلوبهم؟

إن هؤلاء الناس قد أعمى حبّ الدنيا عيونهم وقلوبهم عن التمييز بين الحق الذي يمثّله الإمام الحسين عليه السلام، والباطل الذي يمثله يزيد وابن زياد، كما أن حب الجوائز والمناصب التي وعدهم بها أعداء الحسين عليه السلام قد خرّب نفوسهم وجعلهم لا يرون الحقّ، فضلا عن عقدة النقص التي تعاني منها نفوسهم المريضة في قبال شخصية كبيرة وعظيمة كالإمام الحسين عليه السلام، فأمام عظمة الحسين عليه السلام وكبريائه، وسموّ نفسه، وشرف انتمائه، وشجاعته في الوقوف ضدّ الظالمين تصغر هذه النفوس المريضة وتضمحل، فضلا عن ابتعادهم عن الدين والعقيدة والمثل العليا والأخلاق الكريمة، فقد مُسِخت أرواحهم، وأصبحوا كالوحوش الكاسرة التي لا همّ لها إلا إشباع ملذّاتها دون الالتفات إلى أي محذور شرعي أو أخلاقي أو نفسي أو اجتماعي، فقد استحالت نفوسهم إلى نفوس ساديّة شرّيرة تتلذّذ بأذى الآخر والتنكيل به وقتله، وأضحت أرواحهم أرواحا مخرّبة لا تأبه بالأفعال غير الإنسانية ولا ترتدع عنها، لذلك نراهم غير متأثّرين بإنذار زهير بن القين لهم ونصحه إيّاهم، كما لم يتأثّروا بخطبة الإمام الحسين عليه السلام الأولى، مع سعيه إلى هدايتهم وبيان حقيقة الأمور لهم ونصحهم بعدم قتله.

بعد هذا التهديد الشديد بقتل الإمام الحسين عليه السلام ومن معه الذي كشف عن هذه النفوس المريضة التي تعاني من عقدتي النقص والساديّة، نجد زهير بن القين يجيبهم بحوار حضاري، مفتتحا كلامة بقوله: (يا عباد الله إن ولد فاطمة عليها السلام أحق بالودّ والنصر من ابن سميّة)، مناديا إياهم بوساطة (يا) النداء، واصفا إياهم ب(عباد الله)، مع أنهم عبيد الشيطان، محاولا إصلاح ما خرب من نفوسهم وأرواحهم، مبيّنا لهم أن أبناء فاطمة الزهراء عليها السلام أحقّ بالودّ والنصر من ابن سميّة، وهو هنا يقارن بين أم الحسين عليه السلام فاطمة الزهراء بنت النبي محمد صلى الله عليه وآله، وبين أم زياد بن أبيه والد عبيد الله (سميّة) التي يعلم الجميع من هي، ويعلم قصّة حملها بزياد بن أبيه، إذ يبعث في كلامه هذا إشارات واضحة إلى الفرق الكبير بين نسب الإمام الحسين عليه السلام الذي تقاعس هؤلاء الناس عن نصرته، وغدروا به، وجاؤوا لقتله، وبين نسب عبيد الله ابن زياد الذي جاؤوا لنصرته على ابن بنت نبيّهم، فشتّان بين النسبين، كما أنه يعرّض بنسب ابن زياد، ولكن مع هذا الفرق الكبير بين النسبين نراهم ينصرون صاحب النسب الوضيع على صاحب النسب العالي، فقد عميت عيونهم وقلوبهم عن التفكير و التمييز والإدراك. ثم قال لهم: (فإن لم تنصروهم فأعيذكم بالله أن تقتلوهم)، موظّفا أسلوب الشرط، مفتتحا الجملة الشرطية بأداة الشرط الجازمة (إن)، محذرا إيّاهم، في حالة عدم نصرهم لهم، من التورّط في قتلهم، ويستمر الحوار السجالي من الشمر مع زهير بن القين، إلى أن ينهيه زهير بحوار حضاري مع القوم، ناصحا إياهم ومحذّرا لهم مما يريده منهم الشمر وأمثاله، إذ يقول: (يا عباد الله لا يغرنّكم من دينكم هذا الجلف الجافي وأشباهه، فو الله لا تنال شفاعة محمد صلى الله عليه وآله قوما أهرقوا دماء ذريّته وأهل بيته، وقتلوا من نصرهم وذبّ عن حريمهم)، فهو يكرّر نداءه لهم ب (عباد الله)، ناهيا إياهم عن الغرور، ثم يقسم بلفظ الجلالة أن شفاعة النبي محمد صلى الله عليه وآله لا تشمل قوما أهرقوا دماء ذريّته وأهل بيته، وقتلوهم وقتلوا من قاتل معهم، ودافع عنهم، وذبّ عن حريمهم، وبذل روحه من أجل دفع القتل عنهم، إلا أن هذا الحوار الحضاري من لدن زهير بن القين، وهذه النصائح التي نصحهم بها لم تنفع معهم، مما دفع أحد رجال معسكر الإمام الحسين عليه السلام إلى ندائه قائلا: "إن أبا عبد الله يقول لك: أقبل، فلعمري لئن كان مؤمن آل فرعون نصح لقومه وأبلغ في الدعاء، لقد نصحت لهؤلاء وأبلغت لو نفع النصح والإبلاغ"[4]، فهذا الكلام من الحسين عليه السلام يشير إلى أن هؤلاء الناس قد وصلوا مرحلة يمكن أن نسميها بمرحلة اللاتوبة واللاعودة، فلا حوار حضاري، ولا نصيحة مخلصة، ولا كلام مؤثّر وبليغ يفيد معهم؛ ليتوبوا ويعودوا عمّا يريدون اقترافه من ذنب كبير، لذلك أمره الإمام بالرجوع بوساطة الفعل (أقبل).

خطبة برير بن خضير

وخطب برير بن خضير بعد زهير بن القين، فقد استأذن الحسين عليه السلام في أن يتحدث مع القوم، فأذن له، ومما قال لهم:

"أنسيتم كتبكم وعهودكم التي أعطيتموها وأشهدتم الله عليها وعليكم؟ أدعوتم أهل بيت نبيّكم وزعمتم أنكم تقتلون أنفسكم دونهم، حتى إذا أتوكم أسلمتموهم إلى ابن زياد، وحلأتموهم عن ماء الفرات؟ بئسما خلفتم نبيكم في ذريته"[1]. إن كلام برير بن خضير يشير إلى المفارقة الواضحة والانقلاب الكبير الذي أصاب هؤلاء الناس، فبعد أن دعوا الحسين عليه السلام؛ ليقيم حكم الله فيهم، وبعد أن أرسلوا آلاف الكتب، وعاهدوه على نصرته والقتال معه والقتل دونه، فإذا بهم ينكصون ويغدرون، وبدل أن يُقتلوا دون الإمام الحسين عليه السلام وأهل بيته دفاعا عنهم، كما وعدوا، فإذا بهم يسعون عامدين ومصرّين على قتله؛ لذلك يوبّخهم برير، وينكر فعالهم، ويتعجّب من هذه المفارقة وهذا الانقلاب السريع وغير المبرّر بوساطة همزتي الاستفهام في قوله: (أنسيتم) و (أدعوتم)، ثم يذمّهم ويذمّ فعلهم اللئيم في قوله: (بئسما خلفتم نبيّكم في ذريته)، لكن هذا الكلام وهذا الحجاج لم يؤتِ أكله مع قوم طُبع على عقولهم وقلوبهم، فهم لا يفقهون شيئا ولا يعون دورهم ومسؤوليّتهم تجاه ابن بنت نبيّهم وأهل بيته؛ لذلك قاموا برمي برير بالسهام؛ لكي لا يستمر في كلامه وتوبيخه لهم، ومحاججته إيّاهم عسى أن يعودوا إلى رشدهم، بل بقوا على غيّهم وطيشهم وإجرامهم حتى قتلوا الإمام الحسين عليه السلام ومن معه، وأراقوا دماءهم الطاهرة التي روت شجرة الإسلام.

 

الهوامش:------------------------------------------------

[1] مقتل الحسين، 237. 

[2] نفس المهموم،242 - 243.

[3] نفس المهموم، 242.

[4] نفس المهموم، 243.

[1] مقتل الحسين، 233.

المرفقات

: د. طلال خليفة سلمان العبيدي