مأساة هدم البقيع

مقبرة البقيع كانت متألقة بقبابها ومشاهدها المقدسة ، والتي لا يمتلك من يراها سوى الحديث عنها ، يمرّ عليها ابن جبير فيصف قبري الامام الحسن والعباس بن عبد المطلب فيها فيقول :

«وقبراهما مرتفعان عن الأرض ، متسعان مغشيان بألواح ملصقة أبدع الصاق ، مرصعة بصفائح الصفر ، ومكوكبة بمساميره على أبدع صفة وأجمل منظر» (1)

ويصف ابن بطوطة قبة الامام الحسن عليه‌السلام فيقول : «هي قبة ذاهبة في الهواء ، بديعة الاحكام (2).

وعن السمهودي : «وعليهم قبة شامخة في الهواء» ، قال ابن النجار : «وهي كبيرة عالية قديمة البناء ، وعليها بابان يفتح أحدهما في كلّ يوم» (3).

ويقول الرحالة ريتشارد بورتون : «وقبل أن نترك البقيع وقفنا وقفتنا الحادية عشرة عند القبة العباسية (4) أو قبة العباس عمّ النبي ، وهي أكبر وأجمل جميع القبب الأخرى .. وتوجد في القسم الشرقي قبور الحسن بن علي سبط النبي ، والإمام زين العابدين بن الحسين ، وابنه محمد الباقر ، ثمّ ابنه الإمام جعفر الصادق ، وهؤلاء جميعاً من نسل النبي ، وقد دفنوا في نفس المرقد الذي دفن فيه العباس» (5).

إلى أن دمر التيار السلفي الوهابي المتحجر قبور آل البيت وكبار الشخصيات الاسلامية بالبقيع ، وذلك في الثامن من شهر شوال المكرم عام ١٣٤٤ ه‍ ، وهؤلاء قد تجاهلوا أو لم يعتنوا بمشاعر ملايين المسلمين في أنحاء العالم ، وفرضوا رأيهم ونفّذوه قهراً وقسراً ، وبقوة الحديد والنار ، مع العلم أنهم يحرصون على المحافظة على لباس بعض الملوك وأثاث منزله وسيارته وسيوفه واسلحته ، وحتى سريره الخاص وأدواته الخاصة ، وأنفقوا ١٢ مليون ريال سعودي لصيانة قلعة في الدرعية (6)، مع أنهم قاموا بتخريب كثير من الآثار والمعالم التاريخية الاسلامية التى تعتبر هوية المسلمين ، بحجة الدفاع عن التوحيد ومحاربة مظاهر الشرك والبدع!.

 

لقد بادروا بإزالة وهدم كثير من المعالم والآثار الاسلامية التي نعتبرها تاريخاً وهوية لجميع المسلمين على مدى العصور ، مثل :

ـ بيت الإمام زين العابدين عليه‌السلام.

ـ بيت (7) الامام الصادق عليه‌السلام.

ـ بيت الأحزان.

ـ مشربة أم إبراهيم.

ـ قبر اسماعيل بن جعفر الصادق.

ـ قبر النفس الزكية (8).

ـ قبر عبد الله والد الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ـ مسجد فاطمة (9).

ـ مولد النبي.

ـ بيت خديجة ومولد فاطمة.

ـ قبة ابن عباس بالطائف.

ـ قبة حواء بجدة.

ـ قباب عبد المطلب وأبي طالب ، وأم المؤمنين خديجة.

ـ قباب عبد الله وآمنة أبوي النبي ، وأزواجه ، وعثمان بن عفان ، ومالك امام دار الهجرة.

ـ قبة حمزة وشهداء أحد (10).

ـ أثر مبرك ناقة النبي صلى‌ الله‌ عليه‌ وآله.

 

كما أنهم هدموا :

ـ قبور الشهداء في وادي بدر.

ـ مكان العريش التاريخي الذي نصب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (11).

ـ مسجد السيدة فاطمة بنت الحسين (12).

ـ بيت الأرقم بن الأرقم (13).

ـ ودار أبي أيوب الأنصاري (14).

ـ وأخيراً قاموا بهدم : مسجد الفضيخ (15).

ـ وقبر علي بن جعفر الصادق العريضي بالعُريض.

ومما نخاف عليه غداً إزالة جبل الرماة بأحد ، وهدم مسجد البيعة في منى.

وجاء في دائرة المعارف الاسلامية : بمرور الزمن أصبح مما يشرف المرء أن يرقد رقدته الأخيرة في هذه البقعة بين آل محمد والأئمة والأولياء ، وأقام أحفاد أكابر من دفن في هذه المقبرة شواهد وقباباً على قبور ذويهم ، مثل قبة الحسن بن علي التي يقول ابن ... (16) : انهابلغت من الارتفاع مبلغاً كبيراً ، وزار بورخارت Burckhardt هذا المكان بعد غزوة الوهابيين ، فوجد أنه أصبح أتعس المقابر حالاً في المشرق (17).

وقال السيد حسن الأمين : «لم يتعرض البقيع للأذى ، ولرفات هؤلاء (المدفونين به) بالإنتقاص والإمتهان إلا في عهد الوهابيين ، وبقي البقيع على حاله هذه تقريباً مع ملاحظة تعميره بين مدة وأخرى .. إلى أن جاءت نكبة الوهابيين في مطلع القرن التاسع عشر الميلادي ، فدمروا المشاهد ، وأهانوا الموتى والشهداء والصالحين ، وتعرضوا لبقية المسلمين بالتكفير والحرب والقتال بما لم يفعله مسلم ولا كافر في التاريخ من قبل» (18).

ولقد انتج هذا التيار فكرة التكفير والإرهاب العالمي ، وشوهوا سمعة الاسلام وصيت المسلمين ، حتى ابتلوا بهم أنفسهم أيضاً ، ولازالوا يسيئون معاملة المسلمين في مواسم الحج والعمرة.

ثمّ ان المسلمين استنكروا عملهم الفجيع في تخريب قباب أئمة البقيع (19) ، وكتبوا في ذلك ، ومنهم ما جاء في كتب ورسائل أرسلت من قبل المسلمين في قفقاز ، وآذربيجان ، وأزبكستان ، وتركمنستان ، وقزاقستان ، وتاتارستان ، وياشقيرستان ، وقزاقان ، وأتباع دول ايران ، والعراق وتركيا ، وأفغانستان ، والصين ، ومغولستان ، والهند (20).

وكتب عبد الله بن حسن باشا : القارعة ، وما أدراك ما القارعة؟ يوم انخلعت بفاجعة البقيع قلوب المؤمنين ، واقشعرّت لها جلود العالمين ، وارتعشت بها فرائض الإسلام ، وطاشت لها عقول الأنام ، قارعة يا لها من قارعة عصفت في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه ، فنسفت ضراح الإمامة ، وطمست ضرائح القدس والكرامة ، ونقضت محكمة التنزيل ، ومطاف جبرائيل وميكائيل (21).

وأنشد المرجع الديني آية الله السيد صدر الدين الصدر قدس‌سره :

لعمري إنّ فاجــعة البقـــيع   يشيب لهولها فود الرضيع

وسـوف تكون فاتحة الرزايا   إذا لم نصحُ من هذا الهجوع

فـهل مـن مســلم لله يـرعـى   حقوق نبيّه الهادي الشفيع (22)

وأفتى الفقهاء المعاصرين بلزوم بذل الجهد لإعادة بناء مراقد أئمة البقيع عليهم‌السلام.

وبادر بعض العلماء بتأليف الكتب في ذلك ، ومنهم : السيد عبد الرزاق الموسوي آل مقرم ، المولود سنة ١٣١٢ ه‍ ، له : كتاب «ثامن شوال» ، يبحث فيه عن الحوادث التي وقعت في ذلك اليوم من سنة ١٣٤٤ ه‍ من هدم القبور في البقيع ، بأمر ابن بليهد ، والرد على فتواه ، وتاريخ الوهابية وفضائعهم (23).

أقول : ولنعم ما قال الشاعر :

قل للذي أفتى بهدم قبورهم   أن سوف تصلى في القيامة نارا

أعلمتَ أيّ مـراقد هـدمـتـها   هي للملائك لا تزال مزارا (24)

ولابدّ للمسلمين أن يستمروا في استنكارهم لهذا العمل الفجيع ، ويهتموا بإعادة بناء مشاهد أئمتهم بأحسن ما يكون.

 

الهوامش:----------------------------

1. البقيع / ٢٣ ؛ دائرة المعارف الاسلامية الشيعية ٨ / ٢٦٥ عن رحلة ابن جبير / ١٥٣.

2. رحلة ابن بطوطة / ١٣٨.

3. التاريخ الأمين / ٣٥٨.

4. هي قبة آل البيت عليهم‌السلام ، إذ العباس عم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مدفون هناك.

5. دائرة المعارف الاسلامية الشيعية ٨ / ٢٧٣.

6. انظر : البقيع (للهاجري).

7. يقع دار الإمام الصادق عليه‌السلام في قبلة مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من جهة الجنوب الشرقي. التاريخ الأمين / ٤٢١.

8. التاريخ الأمين / ٣٤٣.

9. كان في غرب الحرم النبوي في سوق المدينة القديم. التاريخ الأمين / ٣٤٣.

10. انظر : كشف الارتياب / ٥٩.

11. التاريخ الأمين / ٣٦٦ عن كتاب مكة / ٢٩١ ، الدكتور الأمين.

12. كان يقع هذا المسجد في وسط سوق المدينة المسمى بالسوق المصري ، وكان منزلها ، انتقلت إليه من بيت جدتها فاطمة الزهراء عليها‌السلام ، وقد أزيل هذا المسجد لإدخاله في المسجد النبوي الشريف ، انظر : التاريخ الأمين / ٤١٢.

13. التاريخ الأمين / ٣٦٦.

14. التاريخ الأمين / ٤٢٠.

15. لقد زرنا هذا المسجد الشريف قبل هدمه وصلينا فيه.

16. كذا في المصدر.

17. دائرة المعارف الاسلامية ٤ / ٣٥.

18. دائرة المعارف الاسلامية الشيعية ٨ / ٢٧١.

19. انظر أعيان الشيعة ١١ / ٤٤.

20. تخريب وبازسازي بقيع / ٥٥ ـ ٥٦ عن وثائق الوزارة الخارجية سنة ١٣٠٢ ه‍ ش ، و ١٣٠٤ هش.

21. التاريخ الأمين / ٣٦٢ عن صدق الخبر ، عبد الله بن حسن باشا / ١٥٢.

22. موسوعة طبقات الفقهاء ١٤ / ق ٢ / ٧٥٧.

23. الذريعة إلى تصانيف الشيعة ، الطهراني ١٧ / ٢٧١.

24. البقيع / ١٩٣.

: الشيخ محمّد أمين الأميني