لا يمكن أن تترك الزيارة أثرها إلا إذا توفرت في المؤمن الزائر شروط عديدة نذكر أهمها:
1 . الإيمان بدور المزور في قوة علاقته بالله جل جلاله، وكونه من عباده الصالحين، أو من أوليائه المخلصين، أو أنبيائه المرسلين، فإذا كانت الزيارة عن إيمان عميق، واعتقاد سليم، ويقين قاطع لا تردد فيه تركت في نفس الزائر أعمق الآثار الطيبة، حيث يرجع الزائر ونفسه طافحة بالنور، والبصيرة، والعزيمة والرجاء، خاضعاً خاشعاً متوسلا بالله جل جلاله قائلاً:
«اللهم إني تعرضت لزيارة أوليائك رغبة في ثوابك، ورجاء لمغفرتك، وجزيل إحسانك، فأسألك أن تصلي على محمد وآله الطاهرين، وأن تجعل رزقي بهم داراً وعيشي بهم قاراً، وزيارتي بهم مقبولة، وحياتي بهم طيبة، وأدرجني إدراج المكرمين واجعلني ممن ينقلب من زيارة مشاهد أحبائك مفلحاً منجحاً قد استوجب غفران الذنوب والستر العيوب، وكشف الكروب، إنك أهل التقوى والمغفرة»(1).
وبعد زيارة عاشوراء يقول الزائر:
«انقلبت يا سيدي عنكما تائباً حامداً لله شاكراً راجياً للإجابة غير آيس ولا قانط»(2).
2 . المعرفة الواعية المعمقة بدور المزور، ومعرفة أبعاد شخصيته الرسالية، وموقفه من الحياة الدنيا، وهذا الشرط هو الشرط الأساسي في تأثير الزيارة في نفس الزائر وبهذا وردت أحاديث كثيرة نذكر منها: فعن بن عباس قال: «دخلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والحسن على عاتقه والحسين على فخذه يلثمهما ويقبّلهما ويقول:
اللهم والي من والهما وعاد من عاداهما.
ثم قال: يا ابن عباس كأني به وقد خضبت شيبته من دمه يدعو فلا يجاب ويستنصر فلا ينصر.
قلت: فمن يفعل ذلك يا رسول الله؟
قال: شرار أمتي ما لهم لا أنالهم الله شفاعتي.
ثم قال: يا ابن عباس من زاره عارفاً بحقه كتب له ثواب ألف حجة وألف عمرة....»(3).
وعن أبي عبد الله الصادق عليه السلام:
«من زار أمير المؤمنين عارفاً بحقه غير متجبر ولا متكبر كتب الله له أجر مائة ألف شهيد وغفر الله له....»(4).
فعن الصادق عليه السلام قال:
«من أتى الحسين عارفاً بحقه كتبه الله في أعلى العليين» وفي رواية أخرى «في عليين»(5).
3 . تجاوز الجانب الذاتي إلى الجانب الرسالي: ونقصد بذلك أن يتوجه المؤمن في الزيارة لا لقضاء مصلحة شخصية ذاتية تتعلق به؛ وإنما يزور ليعمق إيمانه بالمُرْسِل والرسالة، والرسول، ولكن مع الأسف الشديد أن الجانب الذاتي في الزيارة هو الغالب في معظم الزائرين كما نراه عند الأغلب من الناس. يروي العارف الطهراني عن شيخه السيد هاشم الحداد إنه كان يقول: «أرى الناس في جميع المشاهد المشرفة يلصقون أنفسهم بالضريح، ويضرعون باكين بالدعاء، فيقولون: أضف إلى خرق لباسنا المتهرئ ليصبح أثقل وليس هناك من يقول: خذ هذه الخرقة مني؛ ليخف كاهلي؛ وليصبح ردائي أبسط وألطف وأرق!»(6).
4 . التخلق بخلق المزور ما لم يتخلق الزائر بأخلاق من يزوره، أو يحاول على الأقل أن يكتسب شيئاً من خلقه فلا تعد زيارته ذات جدوى... ولهذا ينبغي للزائر أن يقف على سيرة من يزوره من أولياء الله جل جلاله، أو أنبيائه ورسله، ليحاول أن يحيا حياته ويموت موته بالسير على هداه.
«اللهم اجعلني في مقامي هذا ممن تناله منك صلوات ورحمة ومغفرة، اللهم اجعل محياي محيا محمد وآل محمد، ومماتي ممات محمد وآل محمد صلى الله عليه وآله وسلم»(7).
5 . أن يبذل جهده في تخليص نيته من كل شائبة غير التقرب لله تعالى، وتحصيل رضاه، وليحاول في جعل كل خطوة يخطوها، وكل كلمة ينطق بها خالصة لوجه الله وهذا الشرط من أهم الشروط التي تحقق للإنسان السمو والرفعة بالقرب من الله تعالى فإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى وعلى هذا جاء التأكيد في أحاديث أهل البيت عليهم السلام فعن أبي عبد الله عليه السلام قال:
«من زار قبر الحسين وهو يريد الله عز وجل، شيعه جبريل وميكائيل وإسرافيل حتى يرد إلى منزله»(8).
وقال عليه السلام:
«من زار قبر الحسين لله وفي الله أعتقه الله من النار، وآمنه يوم الفزع الأكبر، ولم يسأل الله حاجة من حوائج الدنيا والآخرة إلا أعطاه»(9).
6 . رعاية الأدب في لقاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو أحد خلفائه وأوصيائه في التواضع والاحترام، والخشوع، والحب، والشوق، فلقاؤه عند قبره كلقائه حياً؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
«من زارني بعد وفاتي كمن زارني في حياتي»(10).
وفي حديث آخر:
«من حج فزار قبري بعد وفاتي فكأنما زارني في حياتي»(11).
وفي حديث ثالث:
«من زارني بعد موتي فكأنما زارني وأنا حي»(12).
وعلى ضوء هذه الأحاديث المروية من طريقي السنة والشيعة يجب على الزائر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أو أحد أهل بيته الطاهرين عليهم السلام أن يراعي أدب الزيارة واللقاء، امتثالاً لقوله تعالى:
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ))(13).
أي «إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله تأدباً واحتراماً ومراعاة للجو الروحي الرفيع الذي يصنعه حضور رسول الله في المجلس وللموقع الذي يمثله الرسول في ساحة الرسالة مما يفرض على الحاضرين حوله أن يغضوا أصواتهم عند الحديث معه، أو مع بعضهم البعض؛ ليحصلوا على الاستيعاب الفكري والروحي لكلماته فيما يعظهم به أو يوجههم إليه، أو يخطط لهم من سبل، أو يفتح لهم من آفاق مما يحتاج إلى الكثير من الهدوء الذي يحتاجونه فيما يسمعون ويتعلمون، أو فيما يريد الآخرون من الحضور أن يستمعوا إليه، ويرتفعوا به ويتعلموه من كلامه»(14).
وقال العلامة الطباطبائي قدس سره في تفسير قوله تعالى:
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ))(15).
«وذلك بأن تكون أصواتهم عند مخاطبته وتكليمه صلى الله عليه وآله وسلم ارفع من صوته وأجهر؛ لأن في ذلك كما قيل أحد شيئين: إما نوع استخفاف به وهو الكفر، وإما إساءة الأدب بالنسبة على مقامه، وهو خلاف التعظيم والتوقير المأمور به»(16).
فكما يجب التوقير له حياً يجب التأدب عند قبره؛ لأن زيارته ميتاً كزيارته حياً(17) وما لم يدخل الإنسان خاشعاً متأدباً متأملاً في سيرته لا يمكن أن يحصل المرجو من زيارته صلى الله عليه وآله وسلم ولهذا «ينبغي للزائر أن يكون واقفاً وقت الزيارة كما هو الأليق بالأدب، فإذا طال فلا بأس متأدّباً جاثياً على ركبته، غاضاً لطرفه في مقام الهيبة والإجلال، فارغ القلب مستحضراً بقلبه جلالة موقفه وأنه صلى الله عليه وآله وسلم حي ناظر إليه ومطلع عليه»(18).
وعند جمهور المسلمين «يتوجه إلى القبر الكريم مستعيناً بالله في رعاية الأدب في هذا الموقف العظيم فيقف متمثلاً صورته الكريمة في خياله بخشوع وخضوع تامَيْن بين يديه صلى الله عليه وآله وسلم... عالم بحضوره وقيامه وزيارته، وأنه يبلغه سلامه وصلاته»(19).
والى هذا المعنى تشير بعض زيارات أئمة أهل البيت عليهم السلام:
«وأشهد أنك تسمع الكلام وترد الجواب»(20).
وفي نص آخر:
«أشهد أنك تسمع كلامي وتشهد مقامي»(21).
وفي نص آخر:
«عارفاً عالماً أنك تسمع كلامي وترد سلامي»(22).
وأما آداب الزيارة في مدرسة أهل البيت فقد ذكرها العلماء الأعلام في كتب الزيارات، ونحن نذكر ما كتبه الشهيد الأول رحمه الله في الدروس قال قدس سره: «وللزيارة آداب:
أحدها: الغسل قبل دخول المشهد، والكون على الطهارة، فلو أحدث أعاد الغسل، قاله المفيد رضي الله عنه وإتيانه بخضوع وخشوع في ثياب طاهرة.
وثانيها: الوقوف على بابه والدعاء والاستئذان بالمأثور، فإن وجد خشوعاً ورقة دخل، وإلا فالأفضل له تحري زمان الرقة، لأن الغرض الأهم حضور القلب لتلقي الرحمة النازلة من الرب، فإذا دخل قدم رجله اليمنى، وإذا خرج فباليسرى.
وثالثها: الوقوف على الضريح ملاصقاً له أو غير ملاصق، وتوهم أن البعد أدب وهم، فقد نص على الاتكاء على الضريح وتقبيله.
ورابعها: استقبال وجه المزور واستدبار القبلة حال الزيارة، ثم يضع عليه خده الأيمن عند الفراغ من الزيارة ويدعو متضرعاً، ثم يضع عليه خده الأيسر ويدعو سائلاً من الله تعالى بحقه وبحق صاحب القبر أن يجعله من أهل شفاعته، ويبالغ في الدعاء والإلحاح، ثم ينصرف إلى ما يلي الرأس، ثم يستقبل القبلة ويدعو.
وخامسها: الزيارة بالمأثور، ويكفي السلام والحضور.
وسادسها: صلاة ركعتي الزيارة عند الفراغ، فإن كان زائراً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ففي الروضة وإن كان لأحد الأئمة عليهم السلام فعند رأسه، ولو صلاهما بمسجد المكان جاز... ولو استدبر القبر وصلى جاز، وإن كان غير مستحسن إلا مع البعد.
وسابعها: الدعاء بعد الركعتين بما نقل وإلا فبما سنح له في أمور دينه ودنياه وليعمم الدعاء فإنه أقرب إلى الإجابة.
وثامنها: تلاوة شيء من القرآن عند الضريح وإهداؤه إلى المزور، والمنتفع بذلك الزائر، وفيه تعظيم للمزور.
وتاسعها: إحضار القلب في جميع أحواله مهما استطاع، والتوبة من الذنب والاستغفار والإقلاع.
وعاشرها: أنه إذا انصرف من الزيارة إلى منزله استحب له العود إليها ما دام مقيماً، فإذا حان الخروج ودع ودعا بالمأثور، وسأل الله تعالى العود إليه.
وحادي عشرها: أن يكون الزائر بعد الزيارة خيراً منه قبلها، فإنها تحط الأوزار إذا صادفت القبول.
وثاني عشرها: تعجيل الخروج عند قضاء الوتر من الزيارة، لتعظيم الحرمة ويشتد الشوق، وروي أن الخارج يمشي القهقرى حتى يتوارى.
وثالث عشرها: الصدقة على المحاويج بتلك البقعة، فإن الصدقة مضاعفة هنالك وخصوصاً على الذرية الطاهرة كما تقدم بالمدينة.
ويستحب الزيارة في المواسم المشهورة قصداً، وقصد الإمام الرضا عليه السلام في رجب، فإنه من أفضل الأعمال»(23).
وقال العلامة المجلسي: «وأم تقبيل الأعتاب فلم نقف فيه على نص نعتد به»(24).
والحمد لله رب العالمين الذي وفقنا لتحرير هذا القليل لخدمة الإسلام والمسلمين الذي تم في النجف الأشرف جوار سيد الأوصياء في التاسع من شعبان سنة 1427 هـ.
نسأل الله تعالى أن يتقبله منا ويجعله ذخراً لنا (( يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ))(25).
__________________________________________
الهوامش:
(1) الشيخ عباس القمي، مفاتيح الجنان بعد زيارة العباس عليه السلام.
(2) الشيخ عباس القمي، مفاتيح الجنان.
(3) المحدث المجلسي، بحار الأنوار: 36/286.
(4) المصدر نفسه: 59/176.
(5) المصدر نفسه: 100/70.
(6) محمد حسين الطهراني، الروح المجرد: 261.
(7) ابن قولوية، كامل الزيارات.
(8) المحدث المجلسي، بحار الأنوار: 101/20.
(9) المصدر نفسه.
(10) المصدر نفسه: 100/143.
(11) السبكي، شفاء السقام في زيارة خير الأنام: 89.
(12) المصدر نفسه.
(13) سورة الحجرات، الآيتان: 2 ــ 3.
(14) السيد محمد حسين فضل الله، من وحي القرآن: 21/165.
(15) سورة الحجرات، الآية:2.
(16) السيد محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن: 18/308.
(17) قال الشيخ المجلسي في تفسير قوله تعالى: ((لَا تَرْفَعُوا))، «الآية تومئ إلى إكرام الروضات... لما روي أن حرمتهم بعد موتهم كحرمتهم في حياتهم». بحار الأنوار: 100/125.
(18) العلامة الأميني، الغدير: 5/134.
(19) العلامة الأميني، الغدير: 5/134.
(20) مفاتيح الجنان: في زيارة الحسين عليه السلام ؛ ليلة النصف من رجب.
(21) المصدر نفسه: بعد زيارة مولد أمير المؤمنين عليه السلام: 378.
(22) المحدث المجلسي، بحار الأنوار: 100/295.
(23) ابن إدريس الحلي، الدروس: 22 ــ 24.
(24) المحدث المجلسي، بحار الأنوار: 100/136.
(25) سورة الشعراء، الآيتان: 88 ــ 89.
اترك تعليق