محاولة في معالجة روايات تحليل الخمس

يُثار في الآونة الأخيرة من قِبل جهاتٍ متعدّدة الكثير من الشبهات حول فريضة الخمس، ومن أبرزها شبهة إباحة الخمس في زمن الغيبة الكبرى، بدعوى أنّ الأئمّة -صلوات الله عليهم- بالروايات المستفيضة قد أسقطوا الخمس مطلقًا عن شيعتهم إلى حين ظهور الإمام المهدي -عجّل الله تعالى فرجه الشريف-، والظاهر أنّ مَنْ أثار هذه الشبهة أراد إيهام القُرّاء بأنّ مفاد كلّ روايات التحليل هو سقوط الخمس مطلقًا عن الشيعة بلا قيد وشرط، والحال أنّ روايات التحليل على كثرتها لم يتّفق مضمونها على مورد واحد، بل يمكن تصنيفها إلى طائفتين:

 

   الطائفة الأولى- وهي أكثر روايات التحليل، وقد عمل بها مشهور فقهاء الشيعة وَأفتوا بمضمونها(1)، ومفادها أنّ ما أحلّه الأئمّة -صلوات الله عليهم- لشيعتهم هو خصوص الأموال التي تعلّق بها الخمس عند أصحابها فلم تخمّس من قِبلهم، ثمّ انتقلت إلى أحد الشيعة ببيع أو هبة أو وصيّة أو غير ذلك من وسائل الانتقال، فليس عليه إخراج ما تعلّق بها من خمس قبل التّصرف فيها، بل له التصرّف في مطلق المال غير المخمّس المنتقل إليه ممّن لا يعتقد بوجوب الخمس من الكفّار والمخالفين، أو ممّن يعتقد بوجوبه لكنّه لا يخمّس عصيانًا. 

   منها: معتبرة يونس بن يعقوب قال: "كنت عند أبي عبد الله -عليه السلام- فدخل عليه رجل من القمّاطين، فقال: جعلت فداك تقع في أيدينا الأموال والأرباح وتجارات نعلم أنّ حقّك فيها ثابت، وإنَّا عن ذلك مقصرون، فقال أبو عبد الله -عليه السلام-: ما أنصفناكم أن كلّفناكم ذلك اليوم"(2).

  فإنّها تدلّ على تحليل الأموال التي تعلّق بها الخمس عند أصحابها ولم تخمّس، ثمّ وقعت في أيدي الشيعة من الغير بشراء ونحوه، فلا يجب على من انتقلت إليه من الشيعة إخراج خمسها، فإنّ الأئمّة -صلوات الله عليهم- قد حلّلوا ذلك لشيعتهم.

  ومنها: معتبرة سالم بن مكرم أبي خديجة -الصّريحة في تحليل خصوص الأموال التي تعلّق بها الخمس، ثمّ انتقلت إلى الشيعة بشراء ونحوه-، عن أبي عبد الله -عليه السلام- قال: "قال رجل وأنا حاضر: حلّل لي الفروج؟ ففزع أبو عبد الله -عليه السلام- فقال له رجل: ليس يسألك أن يعترض الطريق، إنّما يسألك خادمًا يشتريها أو امرأة يتزوجها، أو ميراثًا يصيبه، أو تجارة أو شيئًا أعطيه، فقال -عليه السلام-: هذا لشيعتنا حلال، الشاهد منهم والغائب، والميّت منهم والحي، وما يولد منهم إلى يوم القيامة، فهو لهم حلال، أما والله لا يحلّ إلّا لمن أحللنا له…"(3).

  الطائفة الثانية- وهي التي قصدها مَنْ أثار الشبهة، ومفادها تحليل الخمس بنحو مطلق للشيعة (أي إباحة الخمس المتعلّق بأموال الشيعة أنفسهم، وما ينتقل إليهم من الأموال غير المخمّسة)، وعمدتها روايتان -وما بقي من روايات هذه الطائفة إمّا ضعيف السّند، أو غير تامّ من حيث الدلالة-:

  أحدهما- صحيحة الفضلاء، عن أبي جعفر -عليه السلام- قال: "قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -عليه السلام-: هلك النّاس في بطونهم وفروجهم؛ لأنّهم لم يؤدّوا إلينا حقّنا، ألا وأنّ شيعتنا من ذلك وأبنائهم في حلّ"(4).

  وثانيهما- صحيحة زرارة عن أبي جعفر -عليه السلام- قال: "إنّ أمير المؤمنين حلّلهم من الخمس -يعني الشيعة- ليطيب مولدهم"(5).

    ودلالة هذه الطائفة على سقوط الخمس مطلقًا عن الشيعة -كما هو واضح- إنّما هي بالإطلاق، فتكون علاقتها مع الطائفة الأولى علاقة الإطلاق والتقييد، وذلك يقتضي تقييد روايات هذه الطائفة بروايات الطائفة الأولى، كما هو مقتضى قاعدة الجمع العرفي المعتمدة عند جميع علماء الأصول، ويعبّر عنها بقاعدة: "حمل المطلق على المقيّد"(6).

   فمثلًا: إذا ورد خطابان عن الشارع المقدّس مفاد أحدهما التّرخيص في غيبة الفاسق المسلم مطلقاً، ثُمَّ ورد خطاب آخر مفاده الترخيص في غيبة الفاسق إذا كان متجاهراً بفسقه، فإنّ العرف يَجمعون بين هذين الخطابين بحمل الترخيص في الخطاب الأوّل على الترخيص في الخطاب الثاني، فيكون المتحصّل من مجموع الخطابين هو جواز غيبة الفاسق المتجاهر بالفسق، وبذلك تبقى غيبة الفاسق المسلم غير المتجاهر بالفسق على أصل الحرمة الثابتة بالخطاب العام.

   وهكذا الحال فيما يرتبط بمورد البحث، فَالطائفة الثانية من الروايات مفادها إباحة الخمس للشيعة مطلقًا، وأمّا الطائفة الأولى، فَتدلّ على إباحة الخمس المتعلّق بالمال المنتقل للشيعي بالبيع أو الهبة أو الوصيّة أو غيرها، ومقتضى الصناعة الأصوليّة والجمع العرفي بين الطائفتين هو البناء على أنّ المراد الجدّي من الطائفة الثانية هو الإباحة بالمقدار الذي أفادته الطائفة الأولى.

   وعليه يكون حاصل الجمع بين الطائفتين من الروايات: أنّ ما أُبيح للشيعة من الخمس هو خصوص ما كان متعلّقًا بالأموال المنتقلةِ إليهم بواحدة من وسائل الانتقال ممّن لا يعتقد بوجوب الخمس من الكفّار والمخالفين، أو ممّن يعتقد بوجوبه لكنّه لا يخمّس عصيانًا، وهذا ما أفتى به مشهور فقهاء الشيعة -رحم الله الماضين منهم وحفظ الباقين-.

   فَفي مستمسك العروة الوثقى للسيّد محسن الحكيم -قدّس سره الشريف- يقول: "وممّا ذكرنا يظهر أنّ المستفاد من النصوص المتقدّمة هو: تحليل الشيعة من الخمس الثابت فيما يكون في يد غيرهم مطلقاً، سواء أكان من المناكح، أم المساكن، أم المتاجر، أم غيرها، كما ذكر في المتن، بل يظهر من كلماتهم: أنّه من المسلمات، بل عن ظاهر البيان: أنّه ممّا أطبق عليه الإماميّة…"(7).

   وقال السيد أبو القاسم الخوئي -قدّس سره الشريف-: "والأقوى في مقام الجمع حمل نصوص التحليل على ما انتقل إلى الشيعة ممّن لا يعتقد الخمس، أو لايخمّس وإن اعتقد كما ستعرف"(8).

  وصفوة القول: إنّ المتدبّر في أخبار أهل البيت -عليهم السلام- يرى أنّ عمدة ما تعلّق به غرض الأئمّة -عليهم السلام- من الأخبار الكثيرة الواردة في التّحليل؛ إنّما هو تحليل ما ينتقل إلى الشيعة من الكفار والمخالفين الذين غصبوا خمسهم(9)، أو ممّن كان معتقدًا بوجوب الخمس، ولكنّه لا يؤدّي حقّهم عصيانًا، والسّر في هذا التّحليل هو الإرفاق بالشيعة، وإخراجهم من العسر والشّدة لو لا التحليل المذكور؛ لكثرة المعاملات على الأموال غير المخمّسة في الأسواق وغيرها مع الذين لا يؤدّون الخمس أو لا يعتقدون به. 

الهوامش:------

(1) يراجع: تعاليق مبسوطة على العروة الوثقى، ج٧، ص٢٠٥، وأيضًا: تعليقات المتأخرين على العروة.

(2) من لا يحضره الفقيه: ج٢، ص٤٤، ح١٦.

(3) تهذيب الأحكام: ج٤، ص١٨١.

(4) علل الشرائع: ج٢، ص٣٥٨.

(5) نفس المصدر السابق.

(6) يراجع: مبادئ الوصول إلى علم الأصول، البحث التاسع، ص١٥١، وأيضًا: أصول الفقه، ج١، المسألة السادسة، ص١٦٦، وأيضًا: المباحث الأصوليّة، ج٦، ص٦١٥.

(7) مستمسك العروة الوثقى: ج٩، ص٥٩٥-٥٩٦.

(8) موسوعة الإمام الخوئي: ج٢٥، ص٣٥١.

المرفقات

: الشيخ قتيبة عقيل المطوري