فهم سُفن النجاة، مَن ركبها نجا، ومَن تخلَّف عنها غرق وهوى، واللازم لهم لاحق، والمتخلِّف عنهم زاهق. وجاءت الروايات في هذه المعاني الجليلة متواترة تواتراً معنوياً لا مجال لاستقصائها في هذه العجالة، وإنما نسجل بعض الروايات التي ذكرت أن الرجوع إليهم هو صِمَام الأمان المنجي من الفتن، لأنهم عِدْلُ القرآن الكريم، ومفِّسروه، والحجة على الخلق، وقد عصمهم الله (عزّ وجل) من الفتن، وقد ورد كثيراً في زياراتهم عليهم السلام قول:
(وعصمكم من الزلل، وآمنكم من الفتن).
وليس معنى عصمتهم من الفتن أنهم لا يُفتنون ولا تُصيبهم الفتنة حسب. فهذا بديهي، لأنه من لوازم معنى (وعصمكم من الزلل) ومن بديهيات لوازم العصمة، وإنما معناه إضافةً إلى ذلك أن اتّباعهم أمان من الفتن فإن الفتن لا تقرب إليهم ولا تحوم حولهم. فلذلك سوف يعمّ الأمان كلَّ مَن يلوذ بهم وهم شيعتُهم.
روى الأربلي في كشف الغمة عن أربعين الحافظ أبي نعيم، عن علي بن أبي طالب عليه السلام قال:
(قلت: يا رسول الله أمِنّا المهدي أم من غيرنا؟.
فقال رسول الله: لا، بل مِنَّا؛ يختم الله به الدين كما فتح بنا، وبنا ينقذون من الفتن كما أنقذوا من الشرك، وبنا يؤلِّف الله بين قلوبهم بعد عداوة الفتنة إخواناً كما ألَّف بينهم بعد عداوة الشرك، وبنا يُصبحون بعد عداوة الفتنة إخواناً كما أصبحوا بعد عداوة الشرك إخواناً في دينهم)[1].
وروى فرات الكوفي بالإسناد إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام أنه قال:
(أنا ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الحوض ومعنا عترتنا، فمَن أرادنا فليأخذ بقولنا، وليعمل بأعمالنا؛ فإنّا أهلُ البيت لنا شفاعة، فتنافسوا في لقائنا على الحوض فإنَّا نذود عنه أعداءنا ونسقي منه أولياءنا، ومَن شرب منه لم يظمأ أبداً، وحوضنا مترع فيه مَثعبان[2] ينصبان من الجنة أحدهما تسنيم والآخر مَعين، على حافتيه الزعفران وحصباه الدر والياقوت، وإن الأمور إلى الله وليست إلى العباد ولو كانت إلى العباد ما اختاروا علينا أحداً، ولكنه يختص برحمته مَن يشاء من عباده، فاحمدوا الله على ما اختصكم به من النعم وعلى طيب المولد، فإن ذكرنا أهل البيت شفاءٌ من الوعك والأسقام ووسواس الريب، وإن حبَّنا رضا الرب، والآخذ بأمرنا وطريقتنا معنا غداً في حظيرة القدس، والمنتظر لأمرنا كالمتشحِّط بدمه في سبيل الله، ومَن سمع واعيتنا فلم ينصرنا أكبَّه الله على منخريه في النار.
نحن الباب إذا بُعثوا فضاقت بهم المذاهب. نحن باب حِطَّة وهو باب الإسلام مَن دخله نجا ومَن تخلَّف عنه هوى.
بنا فتح الله وبنا يختم، وبنا يمحو الله ما يشاء ويُثْبِت، وبنا يُنَزِّل الغيث، فلا يغرَّنــكم بالله الغرور.
لو تعلمون ما لكم في القيام بين أعدائكم، وصبركم على الأذى لقرّت أعينكم، ولو فقدتموني لرأيتم أموراً يتمنى أحدكم الموت مما يرى من الجور، والعدوان، والإثْرة، والاستخفاف بحق الله والخوف. فإذا كان كذلك فاعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تَفَرَّقوا، وعليكم بالصبر والصلاة والتقية.
واعلموا أنَّ الله (تبارك وتعالى) يبغض من عباده المتلِّون، فلا تزولوا عن الحق، وولاية أهل الحق. فإنه مَن استبدل بنا هلك، ومَن اتَّبَع أثرَنا لحق، ومَن سلك غيرَ طريقنا غرق، وإن لمحبينا أفواجاً من رحمة الله، وإن لمبغضينا أفواجاً من عذاب الله.
طريقنا القصد، وفي أمرنا الرُّشد.
أهلُ الجنة ينظرون إلى منازل شيعتنا كما يُرى الكوكب الدُّريّ في السماء.
لا يضلُّ من اتبعنا، ولا يهتدي من أنكرنا، ولا ينجو من أعان علينا عدَّونا، ولا يُعان من أسلمنا، فلا تخلَّفوا عنا لطمع دنيا بحطام زائل عنكم، وأنتم تزولون عنه فإنه مَن آثر الدنيا علينا عظُمت حسرته. وكذلك قال الله تعالى:
((يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ)).
سراج المؤمن معرفة حقنا، وأشد العمى من عمي من فضلنا، وناصبنا العداوة بلا ذنب، إلا إنَّا دعوناه إلى الحق ودعاه غيُرنا إلى الفتنة فآثرها علينا.
لنا راية الحق من استظل بها كنته، ومن سبق إليها فاز، ومن تخلَّف عنها هلك ومن تمسَّك بها نجا، أنتم عُمَّارُ الأرض الذين استخلفكم فيها لينظر كيف تعملون، فراقبوا الله فيما يرى منكم، وعليكم بالمحجّة العظمى فاسلكوها لا يُستبدل بكم غيركم،
((سابقوا (الأصح: سَارِعُواْ) إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)).
فاعلموا أنكم لن تنالوها إلا بالتقوى، ومن ترك الأخذ عمَّن أمر الله بطاعته قيَّض اللهُ.
((لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ)).
ما بالكم قد ركنتم إلى الدنيا، ورضيتم بالضَّيم، وفرَّطتم فيما فيه عزّكم وسعادتكم وقوتكم على مَن بغي عليكم، لا من ربكم تستحيون ولا لأنفسكم تنظرون، وأنتم في كل يوم تُضامون ولا تَنتبهون من رقدتكم، ولا تنقضي فترتكم، أمَا ترون إلى دينكم يبلى وأنتم في غفلة الدنيــا قــال الله (عــزّ ذكــره):
((وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ)))[3].
وروى إبراهيم بن محمد الثقفي المتوفى سنة 283هــ في كتابه الغارات بإسناده عن أمير المؤمنين عليه السلام في خطبته عليه السلام بعد وقعة النهروان. وقد سئل عن الفتنة فأجابه عليه السلام بجواب طويل.
فقام رجل فقال: ما هذا يا أمير المؤمنين؟.
قال:
(هذا هكذا، يقتل هذا هذا، ويقتل هذا هذا، قطعاً جاهلية ليس فيها هدى ولا علم يرى، نحن أهل البيت منها بمنجاة ولسنا فيها بدعاة.
فقام رجل فقال: يا أمير المؤمنين ما نصنع في ذلك الزمان؟.
قال:
انظروا أهل بيت نبيكم فإن لَبَدوا فالْبدوا، وإن استصرخوكم فانصروهم تؤجروا، ولا تسبقوهم فتصرعكم البلية.
فقام رجل آخر فقال: ثم ما يكون بعد هذا يا أمير المؤمنين؟.
قال:
ثم إن الله تعالى يُفرِّج الفتن برجل منّا أهلَ البيت كتفريج الأديم، بأبي ابن خيرة الإماء يسومهم خسفاً، ويسقيهم بكأس مصبّرة فلا يعطيهم إلا السيف، هرجاً هرجاً، يضع السيف على عاتقه ثمانية أشهر، ودَّت قريش عند ذلك بالدنيا وما فيها لو يروني مقاماً واحداً قَدَر حَلْب شاة أو جَزْر جزور لأقبل منهم بعضُ الذي يردُّ عليهم حتى تقول قريش: لو كان هذا من ولد فاطمة لرحمنا، فيغريه الله ببني أُمية فيجعلهم ملعونين أينما ثُقفوا أُخذوا وقُتّلوا تقتيلاً؛
((سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا)))[4].
وفي خطبة لأمير المؤمنين عليه السلام نقلها السبط بن الجوزي في تذكرة الخواص أنه عليه السلام قال:
(أيها الناس شقوا أمواج الفتن بسفن النجاة، وعرّجوا عن طريق المنافرة وضعوا تيجان المفاخرة، فقد أفلح من نهض بجناح، واستسلم فارتاح، ماء آجن، ولقمة يغص بها آكلها أجدر بالعاقل من لقمة تخشى بزنبور، ومن شربة يلذ بها شاربها مع ترك النظر في عواقب الأمور)[5].
وروى الشيخ الصدوق في كمال الدين قال: توقيعٌ من صاحب الزمان عليه السلام كان قد خرج إلى العَمْري وابنه (رضي الله عنهما) رواه سعد بن عبد الله، قال الشيخ أبو عبد الله جعفر (رضي الله عنه) وجدته مثبتاً عنه (رحمه الله) ــ والتوقيع الشريف طويل ــ وقد جاء فيه:
وأنا أعوذ بالله من العمى بعد الجلاء، ومن الضلالة بعد الهدى، ومن موبقات الأعمال ومرديات الفتن فإنه (عز وجل) يقول:
((ألم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لايُفْتَنُونَ)).
كيف يتساقطون في الفتنة، ويتردّدون في الحَيرة، ويأخذون يميناً وشمالاً، فارقوا دينهم، أم ارتابوا، أم عاندوا الحق، أم جهلوا ما جاءت به الروايات الصادقة والأخبار الصحيحة، أو علموا ذلك فتناسَوْا ما يعلمون أن الأرض لا تخلو من حجة إما ظاهراً وإما مغموراً.
أوَ لم يعلموا انتظام أئمتهم بعد نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم واحداً بعد واحد إلى أن أفضى الأمر بأمر الله (عزّ وجل) إلى الماضي ــ يعني الحسن بن علي عليه السلام ــ فقام مقام آبائه عليهم السلام يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم، كانوا نوراً ساطعاً، وشهاباً لامعاً، وقمراً زاهراً، ثم اختار الله (عزّ وجل) له ما عنده، فمضى على منهاج آبائه عليهم السلام حذَو النعل بالنعل على عهد عهده، ووصية أوصى بها إلى وصيٍّ ستره الله (عزّوجل) بأمره إلى غاية، وأخفى مكانه بمشيئة للقضاء السابق والقدر النافذ، وفينا موضعه ولنا فضله ولو قد أذن الله (عزّ وجل) فيما قد منعه عنه وأزال عنه ما قد جرى به من حكمه لأراهم الحق ظاهراً بأحسن حلية وأبين دلالة، وأوضح علامة ولأبان عن نفسه، وقام بحجته؛ ولكن أقدار الله (عزّ وجل) لا تُغالب، وإرادته لا تُرد، وتوفيقه لا يُسبق، فلْيَدَعوا عنهم اتّباع الهوى وليقيموا على أصلهم الذي كانوا عليه، ولا يبحثوا عمَّا سُتر عنهم فيأثموا، ولا يكشفوا ستر الله (عزّ وجل) فيندموا، ولْيعلموا أنَّ الحق معنا وفينا، لا يقول ذلك سوانا إلا كذَّاب مفترٍ، ولا يدّعيه غيرنا إلا ضالّ غوي، فليقتصروا منّا على هذه الجملة دون التفسير، ويقنعوا من ذلك بالتعريض دون التصريح إن شاء الله)[6].
وفي خبر سلمان الذي رواه الكشي بإسناده عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام قال:
خطب سلمان فقال ـــ ثم ذكر خطبة طويلة جاء فيها: فإذا رأيتم أيها الناس الفتنَ كقطع الليل المظلم يهلك فيها الراكب الموضع والخطيب المصقع والرأس المتبوع فعليكم بآل محمد فإنهم القادة إلى الجنة، والدعاة إليها يوم القيامة، وعليكم بعلي فوالله لقد سلّمنا عليه بالولاء مع نبينا، فما بال القوم؟ أحَسَدٌ؟! قد حسد قابيلُ هابيلَ، أو كفرٌ؟! فقد ارتدَّ قومُ موسى عن الأسباط، ويوشع، وشمعون، وابني هارون شبّر وشبير، والسبعين الذين اتهموا موسى على قتل هارون فأخذتهم الرجفة من بغيهم، ثم بعثهم الله أنبياء مرسلين وغير مرسلين، فأمر هذه الأُمة كأمر بني إسرائيل. فأين يذهب بكم ما أنا وفلان وفلان، ويحكم والله ما أدري أتجهلون؟! أم تتجاهلون؟! أم نسيتم؟! أم تتناسون؟! أَنزلوا آلَ محمد منكم منزلةَ الرأس من الجسد، بل منزلة العينين من الرأس، والله لترجعُنَّ كُفّاراً يضرب بعضُكم رقابَ بعض بالسيف، يشهد الشاهد على الناجي بالهلكة، ويشهد الناجي على الكافر بالنجاة، إلا أني أظهرتُ أمري، وآمنتُ بربي، وأسلمتُ بنبيي واتَّبعتُ مولاي ومولى كلِّ مسلمٍ)[7].
ولذلك فإنه سيتم الفرج الأعظم على يدي خاتمهم ( عجل الله فرجه الشريف) كما في الأخبار المتواترة.
ــ التمسُّك بالعلماء
روى الشيخ المفيد في الاختصاص بالإسناد عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال:
(المتعبّد على غير فقه كحمار الطاحونة يدور ولا يبرح، وركعتان من عالم خيرٌ من سبعين ركعة من جاهل؛ لأن العالم تأتيه الفتنة فيخرج منها بعلمه وتأتي الجاهل فتنسفه نسفاً)[8].
وكان طبيعياً من ذلك أنْ أُعطي العلماءُ دورَ الحفاظ على الإسلام حينما عبَّرت الروايات الشريفة عن الفقهاء بــ(حصون الإسلام) كما روى الكليني في الكافي بسندٍ معتبر عن علي بن أبي حمزة قال: سمعتُ أبا الحسن موسى بن جعفر عليه السلام يقول:
(إذا مات المؤمنُ بكت عليه الملائكةُ وبقاع الأرض التي كان يعبد الله عليها، وأبوابُ السماء التي كان يصعد فيها بأعماله، وثُلم في الإسلام ثلمة لا يسدها شيء، لأن المؤمنين الفقهاء حصون الإسلام كحصن سور المدينة لها)[9].
وهكذا كان دور العلماء عظيماً في مجابهة الانحراف والفتنة بتزييف البدع، فقد روى الكليني عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:
(إذا ظهرت البدعُ في أُمتي فليُظهِر العالمُ علمَه، فمَن لم يفعل فعليه لعنة الله)[10].
ولم يكن الانتساب إلى العلم وحده مؤهّلاً للإنسان أن يرتقي هذا المنصب الإلهي الخطير، وإنما كان العمل الصالح، وصدق النية، والصلاح هو المائز بين المنتسبين إلى العلم، فبمقدار ما بُيّن فُضِّل الصالحون منهم، فقد حذّر من أولئك الطالحين أيضاً.
من ذلك ما رواه الكليني بسندٍ صحيح عن أبي جعفر عليه السلام أنه سُئل عن مسألة فأجاب فيها.
قال: فقال الرجل: إن الفقهاء لا يقولون هذا. فقال:
(يا ويحك! وهل رأيت فقيهاً قط؟! إن الفقيه حق الفقيه الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة، المتمسّك بسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم)[11].
وروى بإسناده عن حفص بن غياث عن أبي عبد الله عليه السلام قال:
(إذا رأيتم العالِم محبّاً لدنياه فاتهموه على دينكم، فإن كل مُحبٍّ لشيء يحوط ما أحبّ.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم:
أوحى الله إلى داوود عليه السلام لا تجعل بيني وبينك عالِماً مفتوناً بالدنيا فيصدَّكَ عن طريق محبتي فإن أولئك قطاع طريق عبادي المريدين، إن أدنى ما أنا صانع بهم أن أنزع حلاوة مناجاتي عن قلوبهم)[12].
وروى بإسناده عن السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام قال:
(قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
الفقهاء أُمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا.
قيل: يا رسول الله وما دخولهم في الدنيا؟. قال:
اتّباع السلطان، فإذا فعلوا ذلك فاحذروهم على دينكم)[13].
وروى بإسناده عن الإمام الباقر عليه السلام قال:
(من طلب العلم ليباهي به العلماء أو يماري به السفهاء أو يصرف به وجوه الناس إليه، فليتبوأ مقعده من النار، إن الرئاسة لا تصلح إلا لأهلها)[14].
وروى بإسناده عن حفص بن غياث عن الإمام الصادق قال: قال:
(يا حفص، يُغفَر للجاهل سبعون ذنباً قبل أن يُغفَر للعالم ذنبٌ واحد)[15].
وبهذا الإسناد قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: (قال عيسى بن مريم (على نبينا وآله وعليه السلام):
ويلٌ لعلماء السوء كيف تلظّى عليهم النار)[16].
وروى بسندٍ صحيح عن جميل بن دراج قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول:
(إذا بلغت النفس هاهنا ـــ وأشار بيده إلى حلقه ـــ لم يكن للعالم توبة، ثم قرأ:
((إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ)))[17].
ولِمَا يحصل عليه العلماء بشكل عام من موقع مهم في نفوس الناس لأنهم يحملون روايات أهل البيت عليهم السلام وعلومهم التي لها وَقْعٌ خاص في قلوب المؤمنين، فتجذبهم نورانية تلك العلوم والأخبار إلى أولئك العلماء، وكما أن لهذه الحالة بالاتباع إيجابيات صحيحة لنشر الهدى واتّباع الحق، ولكن هناك خطر كبير يحدق بأولئك المتَّبعين حينما يتبعون علماء السوء والضلالة والبدعة انخداعاً بكلامهم وأقوالهم التي قد يُدخلوا فيها كلام الحق وأحاديث أهل البيت عليهم السلام تضليلاً وإضلالاً للآخرين، ولذلك وجدنا أهل البيت عليهم السلام بعدما أكدوا على الحذر الشديد والإنذار من اتّباع أولئك العلماء السيئين، فإنهم حذَّروا من السير الأعمى وراء كل أحد، ونهوا عن اتخاذ أولئك وليجة. فقد روى الكليني عن الإمام الباقر عليه السلام أنه قال:
(لا تتخذوا من دون الله وليجة فلا تكونوا مؤمنين، فإن كل سبب وقرابة ووليجة وبدعة وشبهة منقطع إلا ما أثبته القرآن)[18].
وقد انتشر هذا الوباء في الفتنة المعاصرة حيث وجدنا كثيراً من أتباع الضلال أنهم تمسكوا بأصحاب الفتنة والبِدعة والضلالة، إما لسلامة نياتهم هم وحسن اعتقادهم بأولئك، أو لأنَّ لأولئك القوم يداً عليهم تُعينهم على حياتهم وأرزاقهم، أو لأنهم اعتادوا على طاعتهم وأُشرب حبُّ العجل في قلوبهم، وهو كمرض الأُوَل الذين اتبعوا الباطل، وتركوا الحق الذي كان مع الإمام علي عليه السلام.
وهناك منهج انحرافي خطير سلكه أصحاب البدع بذمِّهم الفقهاء والعلماء، وربما استفادوا لأباطيلهم ببعض الروايات التي قد تقدَّم بعضها بذم فقهاء السوء، وموَّهوا على أتباعهم أنَّ المقصود بالذم هم الفقهاء والعلماء، ليتمكنوا بجهلهم أن يسيطروا على أتباعهم، ويخدعوهم بأباطيلهم.. بينما قرأنا الروايات الصحيحة والكثيرة التي تمدح العلماء والفقهاء وتجعلهم حصون الإسلام و ورثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام، وإنما وقع الذمُّ على فقهاء السوء والضلالة ويشمل هذا العنوان جميع المنحرفين عن الصراط المستقيم ومن جملتهم أولئك أصحاب الدعاوى الباطلة التي يذمون بها الفقهاء العدول (زاد الله تعالى شرفهم).
ــ التوجّه بالدعاء للنجاة من الفتن
وهذا ما نجده في مجموعة كبيرة من الأدعية الشريفة المروية عن أهل البيت عليهم السلام، وفيها التوسل إلى الله (عزّ وجل) لينجي المؤمن من الفتن، لأن الفتن إذا جاءت فقد تتلبس عليه لشباهة الشبهة بالحق، فيدعو الله (تبارك وتعالى) ليعرّفه الحق حقاً فيتبعه، والباطل باطلاً فيجتنبه، ولا يجعله عليه متشابهاً، فيتبع هواه بغير هدًى منه تعالى. وسوف يأتيك زيادة بيان إن شاء الله تعالى.
الهوامش:-----------------------------------------------------------
[1] كشف الغمة / ج2/ ص473/ الرابع والثلاثون.
[2] المثعب (بالثاء) مسيل الماء والحوض.
[3] تفسير فرات / فرات بن إبراهيم الكوفي / ص366 ــ 368/ تحت رقم 499، وفي البحار ج65/ ص61/ ح113.
[4] الغارات / ج1/ ص11 ــ 13.
[5] تذكرة الخواص / سبط بن الجوزي / ص128.
[6] كمال الدين / ص511 / ب45 / ح42.
[7] رجال الكشي / ص22 ــ 23.
[8] كتاب الاختصاص / الشيخ المفيد.
[9] الكافي / ج1/ ص38/ كتاب فضل العلم / باب فقد العلماء / ح3.
[10] الكافي / ج1/ ص54/ كتاب فضل العلم / باب البدع والرأي والمقاييس / ح2.
[11] الكافي / ج1/ ص70/ كتاب فضل العلم / باب الأخذ بالسنة وشواهد الكتاب / ح8.
[12] الكافي / ج1/ ص46/ باب المستاكل بعلمه والمباهي به / ح4.
[13] الكافي / ج1/ ص46/ باب المستأكل بعلمه والمباهي به/ ح5.
[14] الكافي / ج1/ ص47/ باب المستاكل بعلمه والمباهي به / ح6.
[15] الكافي / ج1/ ص47/ باب لزوم الحجة على العالم وتشديد الأمر عليه / ح1.
[16] الكافي / ج1/ ص47/ باب لزوم الحجة على العالم وتشديد الأمر عليه / ح2.
[17] الكافي / ج1/ ص47/ باب لزوم الحجة على العالم وتشديد الأمر عليه / ح3.
[18] الكافي / ج1/ ص59/ كتاب فضل العلم / باب البدع والرأي والمقاييس/ ح22.
اترك تعليق