بسم الله الرحمن الرحيم
من الأمور التي يكثر الكلام حولها هو عالم ما بعد الموت اين يذهب الانسان هل يعدم ويفنى ام ينتقل الى حياة أخرى.
الله سبحانه وتعالى بين لنا ان الموت ليس بعدم بل هو من الأمور الوجودية " الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ"[1] وان الانسان له نشأة أخرى بعد هذه النشأة، وهذا ما يبحث في علم الكلام في مبحث المعاد، وان هناك جزاء وحساباً على كل عمل فعله الانسان؛ اما يثاب عليه الجنة او يعاقب عليه بالنار- وليس هذا هو محل كلامنا- انما الكلام فيمن يأتي يفسر القران على هواه بدون علم مجرد تخرصات لا تغني ولا تسمن، فينكر وجود عالم البرزخ \عالم القبر الذي يعتبر كواسطة وحد ما بين عالم الدنيا وعالم الاخرة أي يوم القيامة، فيقول ان الانسان لا يمر بهذه المرحلة البرزخية الوسطية ولا وجود لها مدعيا ان القران يكذّب عالم البرزخ، وما يترتب عليه من ثواب وعقاب، تاركا وراءه كل الموروث الإسلامي الذي ينص على وجود هذا العالم، وان الايمان بعذاب القبر ونعيمه من الأمور المجمع عليها عند المسلمين سنة وشيعة، ولكن سنذكر شبهتين ونحاول الإجابة عنها:
اما الشبهة الأولى: ان القران الكريم يكذب وجود عذاب القبر وهناك آيات تدل على ذلك:
فمنها : قوله تعالى : " وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ ۚ كَذَٰلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَىٰ يَوْمِ الْبَعْثِ ۖ فَهَٰذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَٰكِنَّكُمْ كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56)"[2]. ومنها قوله تعالى: "يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ ۚ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103) نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104)"[3].
فهذه الآيات تدل بظاهرها على انه لا وجود لحياة في القبر وانهم كانوا في حالة النوم والغفلة والسبات ولم يكونوا في حالة عقاب شديد وعذاب اليم، الى ان يأتي يوم البعث فيُسألون كم لبثتم؟ يقولون ظنا منهم: لبثنا يوما او بعض يوم!.
وهذا النوم والسبات له نظير حيث قال عز وجل : " أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحْيِي هَٰذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ۖ فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ ۖ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ ۖ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ۖ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ ۖ وَانظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ ۖ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا ۚ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ"[4]. هنا مات مائة عام ولم يحدث القران انه مر في وفاته بنعيم او عذاب، وهذا ما قد يذكر في الاستدلال على انكار الحياة في عالم البرزخ قرانياً.
وفي مقام الرد عليه نقول: ان صاحب الشبهة استدل ببعض الكتاب مما لا دلالة فيه على انكار الحياة في البرزخ، وسنناقش ما ذكر من آيات ولكن أولاً نقول له: الم تقرأ قوله تعالى: حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ۚ كَلَّا ۚ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا ۖ وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)"[5] ؟ حيث روي عن الامام الصادق عليه السلام في تفسير هذه الآية: " البرزخ القبر وهو الثواب والعقاب بين الدنيا والاخرة "[6].
فالآية تشير الى مرحلة وسطية بين الحياة الدنيا والاخرة وهو البرزخ، وكما عن العلامة الطباطبائي: ان " المراد بكونه وراءهم كونه امامهم محيطا بهم وسمي وراءهم بعناية انه يطلبهم كما ان مستقبل الزمان امام الانسان"[7].
وأيضا قوله تعالى: "..وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ ۖ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ"[8] ، الآية قالت: اليوم تجزون عذاب الهون، لا في المستقبل فحمل الآية على الاخبار عن المستقبل المحقق الوقوع خلاف الظاهر، بل اليوم تجزون العذاب بمجرد خروج النفس.
ومن الآيات الدالة على العذاب في القبر قوله تعالى: " فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا ۖ وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا ۖ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)"[9].
الآية صرحت بعذاب القبر وحيث انها فصلت بين عذاب يوم القيامة وبين العذاب الأول المذكور قال تعالى: " ويوم تقوم الساعة ادخلوا ال فرعون اشد العذاب" لان عذاب الاخرة اشد وانكى من عذاب البرزخ.
اما الآية الدالة على نعيم البرزخ التي اغفل صاحب الشبهة ذكرها والتفكر في مدلوها فمنها: قوله تعالى: " وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170)"[10].
فدلالة الاية غاية في الوضوح الذي لا يقبل الشك ان الشهداء في نعيم الله في جنة البرزخ فهم في حالة من السرور، فرحين بما انعم الله عليهم، والاستبشار طلب السرور بالبشرى والمعنى؛ أنهم فرحون بما وجدوه من الفضل الإلهي الحاضر المشهود عندهم، ويطلبون السرور بما يأتيهم من البشرى بحسن حال من لم يلحقوا بهم من خلفهم أن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
هذا ما أردنا ان نشير اليه من ذكر الآيات القرانية الدالة على نعيم القبر وعذابه ناهيك عن ذكر الروايات فالمسالة من ضرويات الدين الإسلامي التي أخبر عنها النبي الاكرم محمد صلى الله عليه واله ونحن اجبناه من خلال القران.
اما الآيات التي ذكرها المستشكل فنقول في رد مدعاه: ان ما ذكر من الآيات ليس له ارتباط بعالم البرزخ وانما هي تتحدث عن النفخ في الصور قال تعالى: " وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ ۖ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ"[11].
وكما هو معلوم ان النفخة الأولى في الصور هي موت لمن في السموات والأرض الا من شاء الله، وهذا الاستثناء كما ورد في بعض التفاسير انه استثناء لبعض الملائكة الذين يؤخر موتهم كصاحب الصور اسرافيل او ملك الموت عزرائيل عليهم السلام، ففي النفخة الأولى الصعق يشمل الكل حتى من مات قبل ذلك وانتقل الى البرزخ، والنفخة الثانية هي لإعادة الحياة ليبعثوا من قبورهم الى المحشر ويؤيد ذلك قوله تعالى: " قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَىٰ خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ"[12].
والشاهد ان المراد من السبات هو الحاصل ما بين النفختين ما ورد عن ابي الله عليه السلام : " ... قال السائل أفيتلاشى الروح بعد خروجه عن قالبه أم هو باق؟ قال: بل هو باق إلى وقت ينفخ في الصور، فعند ذلك تبطل الأشياء وتفنى فلا حس ولا محسوس، ثم أعيدت الأشياء كما بدأها مدبرها، وذلك أربعمائة سنة يسبت فيها الخلق وذلك بين النفختين.."[13].
فيتضح من خلال ما ذكرناه من ادلة ان سؤالهم كم لبثتم ؟ فيأتي الجواب: ما لبثنا الا عشرا! او يوما! هذا انما هو ما بين النفختين فلا وجه لإنكار عالم البرزخ وعذاب القبر ونعيمه .
اما الشبهة الثانية التي طرحوها: قالوا ان الروايات تتحدث عن عذاب القبر وعن سؤال الملكين منكر ونكير للميت ما ان يوضع في قبره وتعود اليه الحياة ويجلسانه للسؤال [14] ، وان هناك العقارب والحيات والنيران وضغطة القبر، وفي بعض الروايات عبرت بضمة القبر هذا في جانب العذاب، اما في الجانب الاخر وهو النعيم فتحدثت الروايات عن الجنان والقصور، لكن العلم الحديث يكذب ذلك! حيث وضعوا الات تسجيل صوتية وكذلك كامرات، فلم تشاهد ما اخبرت به الروايات؛ فلم تتحطم أجهزة التصوير بضغطة القبر، ولم تحرقها النيران، ولم نشاهد أياً مما ذكرته الروايات، بل على العكس نرى ان هذا الجسد يتفسخ و يتحلل ولا وجود لشيء مما ذكرته الروايات، اذن لا وجود لعذاب القبر!.
وفي مقام الرد عليه نقول: هذه الشبهة انما نشأت من خلال الاعتقاد ان المساءلة في القبر ومن ذكر من نعيم وعذاب فيه انما هي مسلطة على بدن الميت المادي في قبره الترابي الذي يدفن فيه، بينما هذه الأمور انما تحدث وتجري على البدن البرزخي والقبر البرزخي!
نعم هذه الشبهة تصح وترد على قول المتكلمين والمحدثين الذي اعتبروا ان السؤال والعذاب واحكام القبر تجري على هذا القبر الترابي، واستدلوا على ذلك بقدرة الله، وان الله قادر على كل شيء، لكن نحن نفصل بين القبر الترابي الذي هو محل الاحكام الشرعية الفقهية من حيث عمق القبر وتوجيه الميت الى القبلة وما ذكر الفقهاء من احكام القبر وبين القبر البرزخي، وكذلك بين بدن الميت المادي وبدنه البرزخي، وهذا ما ذهب اليه الحكماء ومنهم العلامة الطباطبائي حيث قال:" والمراد بهذا البرزخ عالم القبر وهو عالم المثال الذي يعيش فيه الانسان بعد موته الى قيام الساعة"[15]، وقال في موضع اخر:" ان شخصية الانسان بروجه لا ببدنه والروح لا تنعدم بالموت وانما يفسد البدن وتتلاشى اجزاؤه ثم انه اذا سوي ثانيا مثل ما كان في الدنيا تعلقت به الروح كان الانسان عين الانسان الذي في الدنيا كما كان زيد الشائب مثلا عين زيد الشاب لبقاء الروح على شخصيتها مع تغير البدن لحظة بعد لحظة"[16]، وأيضا يذهب الى ذلك بعض المتكلمين كالشيخ المفيد رحمه الله حيث قال:" قد ورد بان الله تعالى يجعل روح المؤمن في قالب مثل قالبه في الدنيا في جنة من جنانه ينعمه فيها.... والكافر يجعله في قالب كقالبه في الدنيا في محل عذاب يعاقب به"[17]. وهذا ما اشارت اليه الروايات بوضوح الى عالم ما بعد الموت، فعن الصادق عليه السلام:" ما يقول الناس في أرواح المؤمنين ... فاذا قبضه الله عز وجل صير تلك الروح في قالب كقالبه في الدنيا فيأكلون ويشربون فاذا قدم عليهم القادم عرفوه بتلك الصورة التي كانت في الدنيا"[18]. وغيرها من الروايات الدالة على ان الروح حين خروجها تتمثل في البدن البرزخي وان ما ذكر من عالم البررخ عالم القبر وما فيه من نعيم وجنات او عذاب وحيات انما هو للروح في بدنها البرزخي لا المادي كما توهم ذلك صاحب الشبهة.
وأيضا اذا رجعنا الى علماء علم الأرواح فإن معظمهم يعتقدون بوجود نوعين من البدن عند الانسان؛ وهو البدن الطبيعي والأخر البدن الروحي او الاثيري"[19]، وان انفصال الروح وخروجها هو خروج للبدن المثالي من البدن المادي، وهذه النظرة تتوافق مع نظرة العرفاء وفلاسفة الاشراق لعالم البرزخ، ووجود البدن المثالي عند الانسان في الدنيا.
ونقرب لك الفكرة؛ كما شبه العلماء عالم البرزخ بعالم المنام والرؤيا، حيث ان النائم تارة يرى في منامه انه يتألم بسبب ضربه، او سقوطه من شاهق، او احساسه بالتعب والعطش، او الاكل والشرب، والاحساس بطيب الطعام والمناظر الجميلة التي لم يشاهدها في حياته، مع ان الجالس بقربه لا يحس بأي شيء مما شاهده النائم، اذن حمل عذاب البرزخ على هذا القبر المادي والجسد المادي غير صحيح بل عالم البرزخ والقبر انما هو عالم اخر ليس كالحياة الدنيا وله احكامه الخاصة .
الهوامش:------
[1] الملك: 2.
[2] الروم: الاية:55-56.
[3] طه: الاية103-104.
[4] البقرة:259.
[5] المؤمنون: الاية99-100.
[6] بحار الانوار: الشيخ محمد باقر المجلسي ج6، ص218.
[7] تفسير الميزان: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي، ج15،ص72
[8] الانعام:93.
[9] غافر:الاية45-46.
[10] آل عمران: الاية 169-170.
[11] الزمر:68.
[12] غافر:11.
[13] بحار الانوار: العلامة الشيخ محمد باقر المجلسي: ج59، ص35.
[14] انظر بحار الانوار: العلامة محمد باقر المجلسي : ج6،ص270.
[15] تفسير الميزان: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي، ج 15، ص72.
[16] تفسير الميزان: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي، ج 19ً، ص153.
[17] الشيخ المفيد سلسلة المؤلفات: ج7.
[18] الكافي: الشيخ محمد بن يعقوب الكليني: ج3،ص245.
[19] راجع الانسان روح لا جسد: رؤوف عبيد ص 666، ا الروح والعلم الحديث: ايزنغ واتسن: ص44.
اترك تعليق