من خصائص أمير المؤمنين عليه السلام

قال أمير المؤمنين عليه السلام في الخطبة القاصعة :

(أَنَا وَضَعْتُ فِي اَلصِّغَرِ بِكَلاَكِلِ اَلْعَرَبِ وَ كَسَرْتُ نَوَاجِمَ قُرُونِ رَبِيعَةَ وَ مُضَرَ وَ قَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعِي مِنْ رَسُولِ اَللَّهِ ص بِالْقَرَابَةِ اَلْقَرِيبَةِ وَ اَلْمَنْزِلَةِ اَلْخَصِيصَةِ وَضَعَنِي فِي حِجْرِهِ وَ أَنَا وَلَدٌ وَلِيدٌ يَضُمُّنِي إِلَى صَدْرِهِ وَ يَكْنُفُنِي فِي فِرَاشِهِ وَ يُمِسُّنِي جَسَدَهُ وَ يُشِمُّنِي عَرْفَهُ وَ كَانَ يَمْضَغُ اَلشَّيْ‌ءَ ثُمَّ يُلْقِمُنِيهِ وَ مَا وَجَدَ لِي كَذْبَةً فِي قَوْلٍ وَ لاَ خَطْلَةً فِي فِعْل) .

في هذا المقطع من الخطبة القاصعة يتحدث عليه السلام عن نفسه الزكية المباركة ، وعن دوره في الإسلام منذ نعومة أظفاره وكذلك عن طفولته التي عاشها في كنف النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

أولاً : دوره عليه السلام في إخضاع العرب لدين رسول الله صلى الله عليه وآله.

معنى الكلاكل _ وهي جمع كلكل _الصدر، ويريد بذلك رؤساء الكفار الذين قتلهم الإمام، ويكون المعنى وضعت كلاكلهم _والباء زائدة يراد منها التوكيد_ أي صدورهم على الأرض فصرعتهم وأذللتهم.

وأيضا يحتمل أنه يريد بكلاكل العرب، أي الَّذين لهم الصَّدارة من أكابر العرب، ويرجح هذا الاحتمال ما ورد في العبارة التالية وهي قوله: (وكسرت نواجم قرون ربيعة ومضر).

وهؤلاء الأكابر والأعيان هم أصحاب النفوذ والمكانة في جميع المجتمعات، وقد استعمل القرآن الكريم كلمة الملأ، لمن لهم الصدارة من الأكابر، والملأ أي الذين يملؤون صدور المجالس والذين يملؤون العيون، فقد يصف بهذه الكلمة أعداء الأنبياء الذين كانوا يقفون في وجوههم ويعترضونهم، أولئك كانت لهم الصدارة في كل شيء، نقرأ في القرآن الكريم في أكثر من آية، (قال الملأ من قومه)، (قال الملأ الذين استكبروا)، (قال الملأ الذين كفروا)، (قال الملأ من قوم فرعون).

وتارة يصف بها عموم الكبراء والأعيان من غير أعداء الأنبياء والمرسلين، كخطاب بلقيس لقومها (قالت يا أيها الملأ إني ألقيَ إلي كتاب كريم)، أو خطاب ملك مصر في زمن يوسف عليه السلام، (يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون).

ومن مناقبه عليه السلام أنه تجرأ على وجوه القوم وكبرائهم دون غيره نصرة لرسول الله صلى الله عليه وآله، ونحن نقرأ وصفا لعلي عليه السلام في دعاء الندبة يوضح ذلك، حيث ورد في الدعاء : (يحذو حَذْوَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِما وَآلِهِما، وَيُقاتِلُ عَلَى التَّأويلِ وَلا تَأخُذُهُ فِي اللهِ لَوْمَةُ لائِمٍ، قَدْ وَتَرَ فيهِ صَناديدَ الْعَرَبِ وَقَتَلَ اَبْطالَهُمْ وَناوَشَ ذُؤْبانَهُمْ، فَاَوْدَعَ قُلُوبَهُمْ اَحْقاداً بَدْرِيَّةً وَخَيْبَرِيَّةً وَحُنَيْنِيَّةً وَغَيْرَهُنَّ، فَاَضَبَّتْ عَلى عَداوَتِهِ وَاَكَبَّتْ عَلى مُنابَذَتِهِ، حَتّى قَتَلَ النّاكِثينَ وَالْقاسِطينَ وَالْمارِقينَ) .

وهذه الشجاعة لا تجدها عند غير أمير المؤمنين عليه السلام إلا النبي صلى الله عليه وآله، لذلك اقترنت الشجاعة بذكره عليه السلام، فعندما يذكر علي أول ما ينقدح في الأذهان شجاعته وبسالته وهو القائل: (والله لو تظاهرت العرب على قتالي لما وليت عنها) وأيضا: (إن ابن أبي طالب لآنس بالموت من الطفل بمحالب أمه)، ولنعم ما قال الشاعر واصفا شجاعته:

على عَتبَتَي معناهُ تزدَحِمُ الصّرعى

لينزعَ في حدّيهِ أرواحهم نزْعَا

فبعضٌ بوصلِ الحُبّ يُفني وبعضَهم

هواناً بحدّ السّيفِ يجتثُّهم قطْعا

لوطْءِ صماخِ الحربِ يمتدّ سيلُه

نواصٍ لهُ تهوي يُقرّعُها سَفْعَا

إذا قدَّ مدّ البرقَ من باطِنِ السّما

وإنْ قطَّ خطَّ المشرقانِ لهُ صَدْعا

فسلْ عنهُ ضبحَ العادياتِ وقدحَها

أثرنَ به نقعاً وسطنَ به جمعا

وهذه الجرأة العلوية الكبيرة كانت سببا في وقوع الظلم والاضطهاد على أهل بيته إلى يومنا هذا.

وقوله : (كسرت نواجم قرون ربيعة ومضر)، النواجم جمع ناجمة وهي ما يظهر من الشيء، قال تعالى :(والنجم والشجر يسجدان)، فالنجم هو أول ما نبات الزرع وظهوره، ونواجم القرون يعني القرون الظاهرة الرفيعة، والعبارة كناية عن إذلاله لهؤلاء الذين وقفوا في وجه رسول الله صلى الله عليه وآله، وقد استعملت الزهراء عليها السلام في خطتها الفدكية تعبيرا مماثلا حيث قالت: (أو نَجَمَ قرنٌ للشيطان)، وقرن الشيطان كناية عن أمره وسلطانه.

ثانيا: موضعه من النبي صلى الله عليه وآله وطفولته التي عاشها في كنفه.

قال : (وقد علمتم موضعي من رسول اللّه بالقرابة القريبة)، فهو ابن عمّه، وأخوه في الرّوح، حيث كانا نورا واحدا في صلب عبد المطلب ثم انتقل النبي إلى صلب عبد الله وعلي إلى صلب أبي طالب، ففي الرواية عن النبي صلى الله عليه وآله: كنّا أنا وعلي نوراً بين يدي الله عزّوجلّ، يسبح الله ذلك النور ويقدسه قبل أن يخلق الله آدم بألف عام، فلما خلق الله آدم ركّب ذلك النور في صلبه فلم يزل في شيء واحد حتى افترقنا في صلب عبد المطلب، ففيّ النبوة وفي علي الخلافة.

وهو صهره، ونفسه بنص القرآن، وهو ورسول الله من شجرة واحدة والناس من شجر شتى، كما قال النبي صلى الله عليه وآله، فهل أحد أقرب إلى رسول الله منه؟ وقد احتجّ أمير المؤمنين عليه السلام بهذه القرابة فيمن احتجّ عليهم حيث قال :

وإنْ كنت بالقربى حججتَ خصيمهم

فغيرُك أولى بالنبيّ وأقربُ

وقوله : (والمنزلة الخصيصة)

حيث قال رسول اللّه(صلى الله علیه و آله) بحقّه: أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي، وقال أيضاً:

أنا مدينة العلم وعليّ بابها، وغيرها من الأحاديث التي تدل على هذه المنزلة الخاصة لعلي عليه السلام.

قال: وَضَعَنِي فِي حِجْرِهِ وَ أَنَا وَلَدٌ وَلِيدٌ يَضُمُّنِي إِلَى صَدْرِهِ وَ يَكْنُفُنِي فِي فِرَاشِهِ وَ يُمِسُّنِي جَسَدَهُ وَ يُشِمُّنِي عَرْفَهُ.

لقد تربى علي عليه السلام في حجر النبي صلى الله عليه وآله وقد كان صغيرا، ففي الرواية كان علي عليه السلام من نصيب النبي حيث كفله رسول الله بعد ست سنوات من ولادته حين افتقر أبو طالب عليه السلام، كأن النبي أراد أن يرد لأبي طالب جميله في كفالته إياه، وكان قبل ذلك يأخذه النبي إلى حجره ويعطف عليه، ويضمه إلى صدره وينام علي مع النبي في فراشه، حتى رباه رسول الله على الفداء ليأتي ذلك اليوم الذي يبيت علي في فراس النبي صلى الله عليه وآله مقدما نفسه قربانا لرسول الله صلى الله عليه وآله.

ويذكر عليه السلام في كلامه تفاصيلَ مهمة في رعاية رسول الله إياه، منها مس الجسد بالجسد وذلك حبا وحنانا لأجل التقبيل والتلطيف، وهذا كله يزيد الارتباط بين الاثنين، وكذلك كان رسول الله يُشم عليا عرفه أي طيبه ورائحته، فشم الطيب أيضا يزيد من أواصر الحب، لذلك ترى الأب يحب أن يشم ولده، والرائحة من أكثر الأشياء التي تعلق في ذاكرة الطفل، هذه كلها دروس للآباء والأمهات حتى يمارسوها مع أطفالهم ليوطدوا معهم علائق الحب والتي ستثمر في المستقبل، فلا يجوز للأب أو الأم أن يكونا جافيين عاطفيا وإلا سينعكس ذلك سلبا على الأولاد.

ثم يقول عليه السلام : وكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه، يعني في ذلك العمر الذي لم تنبت به أسنان علي عليه السلام، كان رسول الله يفعل ذلك، ولا شك أن في ذلك من البركة التي لا حدود لها على علي لأن لعاب رسول الله في فمه، فكان لا ينطق إلا عن لسانه بهذه البركة.

ثم قال : وَمَا وَجَدَ لِي كَذْبَةً فِي قَوْلٍ وَ لاَ خَطْلَةً فِي فِعْلٍ.

ومن يكون مع الصادق الأمين ملازما له كيف يكون كاذبا؟ ومن يجالسه ويأكل من ريقه كيف يكون ذا خطل في فعله؟، والخطل هو الخطأ في الفعل لسوء التدبير.

وهكذا ترعرع علي عليه السلام في كنف رسول الله صلى الله عليه وآله ليكون كما عرفناه، وبهذا نعلم أن القرب من النبي صلى الله عليه وآله لا يكون بالمصاحبة فحسب، بل يكون بالعمل والسير على خطاه وانتهاج منهجه بعد التعلم منه والاهتداء بهديه.

: الشيخ مصطفى النصراوي