العلاقة بين العلم والدين*

إنّ هذه المسألة من المسائل المهمة التي طُرحت في العصر الحديث الذي تطورت فيه العلوم التجريبية في ضوء الاكتشافات الباهرة للعلوم والتقنية، وقد حصل الإنسان في هذا العصر على قدرة وسلطة قاهرة في تسخير الطبيعة له، وقام بابتكار الأنواع والتقنيات والأدوات والأجهزة للحصول على الرفاهية والراحة واللذة في حياته، فاغتّر بهذا التطور والتقدم العلمي، الأمر الذي أدى به إلى جعل العلم محل الدين والتشريع الإلهي، ومن هنا بدأ موضوع تعارض العلم والدين، وهذا ما شغل ذهن المتدينين والمثقفين في كيفية معالجة التعارض بين العلم والدين وحلّه، وقد استغل بعض الملحدين مسألة تعارض العلم والدين وجعلوا منها سببًا لإقصاء الدين وتضعيفه وتشويه صورته الناصعة.

والإنصاف العلمي يقتضي أن لا نجعل الدين أو العلم محورًا في البحث، بل المقارنة بينهما سويًا، للحفاظ على الموضوعية في البحث وعدم الحكم المسبق لصالح أحدهما في مجال البحث العلمي.

      كما أنّه لا بدّ من بيان المقصود من (الدين) و(العلم) في هذا الجانب. المراد من الدين هنا، هو: (مجموعة مؤلفة من المعتقدات والرؤية الكونية التي تبحث عن المسائل النظرية المبدأ والمعاد، ومجموعة من القيم الأخلاقية التي تُرشد الإنسان إلى الفضائل الإنسانية وتنهيه عن الرذائل النفسانية، ومجموعة من القوانين والأحكام الفرعية السلوكية والعبادات الفردية والاجتماعية التي جاءت من قِبل الله تعالى عن طريق أنبيائه العظام، لتحقيق السعادة الدنيوية والأخروية للإنسان). والمراد من العلم، هو: (العلوم التجريبية التي تكشف عن الواقع المادي بالمنهج التجريبي الحسي الشامل للعلوم التجريبية الطبيعية والعلوم التجريبية الإنسانية، في قبال مطلق العلم).    

    ومن المهم التذكير به هنا: أنّ المنهج التجريبي محدود ولا يستطيع أن يعثر على العلل والأسباب غير المحسوسة في تحقق الأشياء والأحداث، ولا يحق للتجربة الحسية أن تنفي ما لا تثبته بالأدوات التجريبية المتأثرة بإطار الحس والمادة، والحصول على ما وراء الحس والمادة يحتاج إلى أدوات ومناهج تنسجم معها.   

 

     ثُمّ إنّه هناك جدلية في العلاقة بين العلم والدين، نتجت عنها أربع نظريات، هي: نظرية التعارض، ونظرية التمايز، ونظرية التداخل، ونظرية التعاضد.

      النظرية الأولى - التعارض بين العلم والدين:

والمراد من التعارض هو التنافي بين شيئين على وجه التناقض والتضاد، بحيث يكذب أحدهما الآخر في الحكاية عن الواقع، والمقصود منه في المقام خصوص التعارض على مستوى المسائل والقضايا المتعلقة بالأمور الطبيعية، المذكورة في النصوص الدينية، وذلك كالتعارض المزعوم بين الآيات الشريفة من سورة الطارق: (فلينظر الإنسان ممّا خُلق * خُلق من ماء دافق * يخرج من بين الصلب والترائب)، وبين المعلومات الطبية المخالفة لخروج الماء من الصلب والترائب.

    وممّا تمسك به القائل بالتعارض هو: أنّ العلم يعتمد على المعطيات التجريبية المتخذة من الواقع العيني الملموس المسلمة عند الجميع، بينما الدين يعتمد على الوحي الذي هو أمر إيماني وإن كانت مقدماته عقلية، ولكن يعتبره البعض تجربة شخصية غير مسلمة للآخرين.

يلاحظ عليها:

   أولًا - أنّها تعتمد على تعريف خاص للدين الذي يتجسد في المسيحية المحرفة والتجربة العرفانية الشخصية، وبما أنّ أسباب التعارض بين العلم والدين وأرضياته لم تتحقق في العالم الإسلامي وفي القرآن الكريم، فينتفي التعارض بانتفاء أسبابه، فليس هناك معلومات وقضايا قطعية في العلوم الطبيعية تتنافى مع المعطيات الدينية القطعية، لأنّ الدين هو كتاب التشريع، والطبيعة هي كتاب التكوين، فلا تعارض بين الكتابين في الواقع، لأنّ كليهما من كاتب ومؤلف واحد وهو الله تعالى، ولهما غاية واحدة وهي التقرب والسير الى الله تعالى، فإذا حصل تعارض ظاهري بين العلم والدين فهو يرجع إلى معرفتنا القاصرة عن هذين الكتابين الإلهيين.

   فيجب التفكيك بين العلم المطلوب المطابق للواقع والكاشف عن الحقيقة، وبين العلم الموجود الذي يمتزج فيه الحق والباطل ويختلط فيه الصادق والكاذب. كذلك بالنسبة إلى الدين فلا بدّ أن نفرق بين المعرفة الدينية الحقيقية المطابقة للواقع، وبين المعرفة الدينية الموجودة في الكتب، نعم، هناك معايير وموازين لتمييز الحق عن الباطل في المعرفة الدينية والقضايا العلمية، والتمييز بين المستوى المطلوب والموجود في كل من العلم والدين ضروري ولازم، فليس ثمة تعارض حقيقي بين العلم المطلوب والدين المطلوب الصحيح، ولكن يمكن أن يحدث تعارض بين العلم الموجود وبين المعرفة الدينية الموجودة بين أيدينا، وهذا التعارض يرجع الى قصور فهمنا وعجزنا عن كشف الواقع الديني أو الواقع العلمي لا إلى جوهر الدين والعلم.

   ثانيًا - ليس هناك نظريات قطعية نهائية غير قابلة للنسخ والنقض في العلوم التجريبية، لأنّ العلم التجريبي متكئ على الاستقراء المفيد للظن والتخمين إلا أن يُضم هذا الاستقراء الناقص إلى برهان عقلي صحيح فتكون القضايا العلمية دائمية أو أكثرية.

   النظرية الثانية - التمايز بين العلم والدين:

أي أنّ كل واحد من العلم والدين يتعلق بنطاق مستقل على حدة، من دون أن يتدخل أحدهما في شأن الآخر، وفي الحقيقة هذه النظرية محاولة لرفع التعارض بين العلم والدين وحصر كل واحد منهما بإطاره الخاص.

أدلة القول بالتمايز:

   أولًا - تمايز الموضوع والغاية والمنهج بين العلم والدين، فإذا كان لكل واحد من العلم والدين نطاق وإطار محدد ومسؤولية مهمة معينة، فلا يتحقق التعارض بين الحقلين، حيث إنّ الدين موضوع الدين هو تجلي الله تعالى في المسيح، وموضوع العلم هو عالم الطبيعة، وكذلك الغاية من الدين هي إعداد الإنسان وتهيئته لمواجهة الأمر القدسي، وأمّا العلم فهي كشف العلاقة السببية والعلية بين الأشياء والظواهر الطبيعية وتبيينها، وكذلك المنهج المتبع في الدين هو التجلي والكشف الباطني، والمنهج الشائع في العلوم الطبيعية هو المنهج الحسي التجريبي عبر الملاحظات والاختبارات، وكذلك أنّ المعرفة الدينية هي معرفة ذهنية فردية، والمعرفة العلمية هي معرفة عينية عامة غير فردية، وكذلك القضايا العلمية تخضع للاختبار والتقييم التجريبي، بخلاف المعتقدات والقضايا الدينية التي لا تخضع للمعايير التجريبية والاختبارات العلمية فهي ليست عينية ملموسة قابلة للإثبات لكل الناس.

    ثانيًا - إنّ لغة الدين ولغة العلم تختلفان، بمعنى أنّ لغة الدين لا تكشف عن الواقع التجريبي المحسوس، فهي فارغة من المعنى، خلافًا للغة العلم التي تزيح الستار عن الواقع المحسوس وتمنحه معنى محصلًا للإنسان.

يلاحظ عليها:

    أولًا - الفهم الخاطئ عن الدين، وحصر نطاقه في العلاقات الفردية بالله وفي التجليات الباطنية والتجربة العرفانية، فالدين الذي يتجسد في الكتب السماوية والأديان التوحيدية كالاسلام الحنيف لا تقتصر تعاليمه ومعارفه في الدعاء والمناجاة الفردية مع الله تعالى، وإنّما تشتمل التعاليم الإسلامية على كل الجوانب الفردية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والقانونية في حياة البشرية.

   ثانيًا - يؤدي ذلك إلى نفي الدين وعزله عن ساحة حياة البشر، لأنّ الدين بهذا المعنى الفردي لا علاقة له بواقع الحياة، ولا يلعب دورًا في رفع متطلبات الإنسان، لكن عندما نراجع الأديان التوحيدية كالدين الإسلامي - مثلًا - نرى أنّها تتضمن شطرًا من القضايا العلمية التي تخبر عن الواقع الطبيعي وتكشف عن أسراره ورموزه، وهذا يعد خدمة عظيمة للعلم، ومن جهة أخرى فإنّ العلوم الطبيعية تفتح افاقًا جديدة أمام الدين والمتدينين يمكن الاستفادة منها في ترسيخ المعتقدات الدينية.

     النظرية الثالثة - التداخل بين العلم والدين:

تعتقد هذه النظرية بأنّ الدين يتضمن القضايا العلمية في داخله، فالقضايا العلمية داخلة في نطاق الدين، وتعد من جملة القضايا الدينية، وعليه يكون الدين أعم وأشمل من العلم.

  حيث أدرجت الديانة المسيحية في القرون الوسطى القوانين العلمية برمتها في إطار الدين، واعتبرتها جزءًا من الدين ولم تكن تسمح لأحد من العلماء والمفكرين بأن يبدي رأيًا أو نظرية تخالف الآراء العلمية المذكورة في الكتاب المقدس، وإلا قامت الكنيسة بتكفيره وحكمت بارتداده عن الدين، لقد كان الفكر الشائع في القرون الوسطى هو الإيمانية، وهي تركز على أنّه مُنح الوحي للإنسان ليحل بدلًا عن جميع العلوم والمعارف البشرية من العلوم التجريبية والأخلاق والميتافيزيقيا وغيرها، فالوحي يغني الإنسان عن جميع العلوم، فيعتقد هذا الإتجاه المفرط بأنّ الله تعالى أوحى إلى الإنسان ما يحتاج إليه، فلا يحتاج إلى التفكر، بل يجب أن يصرف همّه لتحصيل السعادة، وكل ما له دور في تحقيق سعادة الإنسان موجود في الكتاب المقدس.

يلاحظ عليها:

   أولًا - إثبات أنّ الدين يحتوي على جميع العلوم والقوانين الطبيعية والتجريبية بنحو الموجبة الكلية - أعم من التي تمّ اكتشافها أو التي سيتمّ كشفها في المستقبل - يحتاج إلى الدليل والحجة، فلا قيمة لدعوى لا يدعمها دليل صحيح.

  ثانيًا - بناءً على هذه النظرية يجب أن يسند كل عالِم نظريته العلمية إلى الآيات القرآنية ويعتبرها دينية، وهذا ما لا يقتنع به العقل، حيث إنّ غرض القرآن الكريم وهدف الدين هو هداية الإنسان وإرشاده إلى الصراط المستقيم الذي ينتهي به إلى السعادة الدنيوية والأخروية ومصالحه الحقيقية.

     النظرية الرابعة - التعاضد بين العلم والدين:

وهي تركزّ على التكامل بين العلم والدين في كشف حقائق الكون، وحسب هذه النظرية ليس هناك أيّ تعارض وتنافٍ بين مسائل الدين والعلم، بل تحاول هذه النظرية أن ترسم مجموعة متناسقة متماسكة يتساهم العلم والدين فيها في تبيين الأشياء والظواهر في تحقيق رؤية كونية منسجمة، والتعاضد والتعاون بين العلم والدين يساعد على فهمٍ متكامل وتفسير شامل متوائم منسجم للعالم، وعليه، تكون غاية العلم والدين واحدة، ومنهجهما متعدد ومختلف، ولكنّهما يتكاملان ويبحثان حول موضوع واحد، وكل منهما يقدم تفسيرًا وبيانًا خاصًا من هذه الحقيقة الواحدة ويكمل بعضه البعض.

    فعلى سبيل المثال أنّ مهمة العلم تبيين العلاقات العليّة والمعلوليّة بين الوقائع والأحداث الطبيعيّة وتوصيفها، ولكن ليس هذا تمام الواقع بل فيه خلل ونقصان، فلذا يأتي دور الدين ليبين المعنى والروح السائدة على هذه الأحداث والأشياء، وهو ربوبية الله تعالى وتدبيره لها.

     كما أنّ غاية العلم هي كشف النظم السائد على الطبيعة، ويتمثل هذا النظم في القواعد العلمية، ولكن هدف الدين هو أن يتعرف الإنسان على غاية العالم ومعناه، وهو الله تعالى، وأن يعرف مكانته في الكون. كما أنّ العلم يبين صورة منسجمة ومتناغمة من العالم الطبيعي المادي، ولكن من جهة أخرى يثير العلم تساؤلات لا يقدر على الإجابة عليها فيحتاج العلم إلى الدين حاجة ماسة للإجابة عن هذه الأسئلة.

    لكن لا يجوز أن نتوقع من الدين أن يبين لنا جميع القوانين والأحكام في العلوم الطبيعية والإنسانية كمًا وكيفًا، بحيث يحتوي على مجموعة شاملة من القوانين الفيزيائية والكيميائية وغيرها من العلوم البشرية، بل الدين يهيمن ويسيطر على جميع تلك العلوم من جهة دورها وتأثيرها في تحقيق السعادة الدنيوية والأخروية للإنسان.

 

طريقة رفع التعارض بين العلم والدين:

    قد ذكرت عدة نظريات في حل التعارض بين العلم والدين، وكل منها عليها مؤاخذات، وأمّا النظرية الصحيحة، هي نظرية (العلم الديني)، ومعناها: أن نبحث عن القضايا العلمية في إطار توحيدي إلهي، وفي ضمن رؤية كونية توحيدية، لأنّ الرؤية الدينية الروحانية لها دور وتأثير عميق في توظيف العلم واستخدامه في إتجاه صحيح ومطلوب، وتجعل العلم في في نطاق ونظام موحد ومنسجم، مصنوع لله تعالى وله غاية متعالية مقدسة، وهي التقرب إلى الله تعالى والوصول إلى السعادة الحقيقية.

   ولا يخفى أن لا تعارض بين القطعيّات والمسلّمات الدينية والعلمية مطلقًا؛ لأنّ الدين والعلم القطعي، نافذتان لكشف الحقائق الكونية، ولكن يحصل في بعض الأحيان التعارض بين فهم الإنسان وتفسيره للمعارف الدينية وبين القضايا العلمية التي توصل إليها البشر بأدواته التي تخطئ وتصيب.

الخدمات المتبادلة بين العلم والدين:

خدمة العلم للدين:

   أولًا - كشف رموز الطبيعة وأسرارها، ففي ضوء تطور العلوم الطبيعية والتجريبية، يتم اكتشاف أبعادًا جديدة من الإعجاز العلمي للقرآن الكريم، بما فيه من تنبؤ وإخبار عن حقائق كونية طبيعية.

    ثانيًا - إنّ العلوم الطبيعية التجريبية تكشف عن حقائق الأمور بشكل تفصيلي وجزئي، وتبين العلاقات والروابط الدقيقة والعجيبة بين أجزاء النسيج الداخلي لشيء واحد أو بين أشياء متعددة، وهذا يساعد الإنسان على معرفة الله تعالى وحكمته وإتقان صنعه وعلمه وقدرته.

   ثالثًا - إنّ تطور العلوم الحديثة الطبيعية يبيّن لنا بعض الحكم المكنونة وراء الأمور التعبدية والمناسك العبادية، ويمنح للإنسان روح التعبد والالتزام والتقيد بالعبادات الفردية والاجتماعية أكثر فأكثر.

   رابعًا - إنّ تقدم العلوم الإنسانية والطبيعية والاجتماعية له دور مهم في ترسيخ القيم الأخلاقية وإشاعتها على المستوى الفردي والاجتماعي.

 

خدمة الدين للعلم:

   أولًا - يدعو الدين إلى التعقل والتفكر في الحقائق الكونية وإثارة العقول، ويشجع على البحث والتفتيش عن أسرار الأمور والأشياء المخلوقة في عالم الطبيعة، وتعد هذه الدعوة من أهم الخدمات التي يقدمها الدين للعلم.

   ثانيًا - قدم الدين ملامح من العلوم الطبيعية وأسرارها، وفتح للعلماء والباحثين آفاقًا معرفية جديدة لم يسبقها علم من العلوم البشرية، وهذا يتجسد في الإعجاز العلمي للقرآن الكريم وإخبار أولياء الدين عن أمور خارقة للعادة من القوانين الطبيعية.

   ثالثًا - لا تستطيع العلوم الطبيعية أن تجيب عن الأسئلة المبدئية الأساسية للبشر وسكتت وعجزت عنها، وأنّ الدين قادر على الإجابة عليها وحل هذه المشاكل الفكرية.

   رابعًا - إنّ الدين يخدم العلم في ضوء إعطاء رؤية كونية توحيدية، وتفسير إلهي رباني، وهذه الرؤية التوحيدية تؤثر على اكتشاف العلوم وإبداعها تأثيرًا بالغًا.

 

*مقال مقتضب من بحث (العلم والدين) للشيخ الدكتور مصطفى عزيزي.

المرفقات

: السيد مصطفى الرضوي