قدسية فاطمة الزهراء (عليها السَّلام)

 اكتسبت فاطمة (عليها السَّلام) القدسية منذ صغرها، بل وهي جنين في بطن أمِّها، حيث كانت تحدثها، وتسليها، وتكلمت الملائكة مع الزَّهراء (عليها السَّلام) بل أنزل الله سبحانه وتعالى ملكانا؛ ليدور الرَّحى عندما كانت (عليها السَّلام) ضعيفة كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ونامت، وعلى صدرها ولدها الحسين، (عليه السَّلام)، إلى آخر الرواية مما يدل على قدسية فاطمة (عليها السلام).

وفي حديث نبوي مروي عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((إنَّ الله (عَزَّ وجَلَّ) خلقني وخلق عليًا وفاطمة والحسن والحسين من نور، فعصر ذلك النَّور عصرة فخرج منه شيعتنا، فسبحنا فسبحوا، وقدسنا فقدسوا، وهلَّلنا فهللوا، ومجدنا فمجدوا، ووحدنا فوحدوا، ثمَّ خلق السموات والأرضين، وخلق الملائكة، فمكثت الملائكة مائة عام، لا تعرف تسبيحًا ولا تقديسًا، فسبحنا، فسبحت شيعتنا، فسبحت الملائكة، وكذلك في البواقي، فنحن الموحدون حيث لا موحد غيرنا....))[1].

وبات مؤكدًا أنّ الله خلق نور فاطمة (عليها السَّلام) من عظمة نوره، علَّق نورها في ساق العرش يوم لا سماء مبنية ولا أرض مدحية حتَّى أنَّ الله سبحانه وتعالى استجاب دعاء آدم (عليه السَّلام) عندما دعا الله بالأنوار المعلقة بساق العرش، وهذا يدل على قرب منزلة أصحاب الأنوار منه تعالى ومحبته لهم، وأنَّها أرواح مقدسة مطيعة له آمرة بأمره ناهية عن نهيه، وإلَّا كيف يستجاب الدعاء بفضلهم وجعلهم بهذه المنزلة والقرب الإلهي وخلقهم بهذه الهيئة والكيفية ((السَّلام على الدَّعاة إلى الله، والأدلاء على مرضاة الله، والمستقرين في أمر الله، والتامّين في محبة الله، والمخلصين في توحيد الله، والمظهرين لأمر الله ونهيه... وحجته وصراطه ونوره وبرهانه...))[2].

إنّ فاطمة (عليها السَّلام) امرأة ليس كباقي النَّساء، فلها فضل وقدسية عند الله (عَزَّ وجَلَّ)، لأنّها سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين، ولها تمجيد وثناء من الله تعالى، فيرضى لرضاها، ويغضب لغضبها. وكانتْ علاقتها مع الله من نوع خاص حتَّى تورمت رجلاها من الوقوف لعبادته، فوصلت درجتها إلى أنْ يقول عنها نبيُّه وحبيبُه محمد صلى الله عليه وآله وسلم: فداها أبوها، فداها أبوها، فداها أبوها.

إنَّه صلى الله عليه وآله وسلم إذا قدم من سفر أتى بيت فاطمة (عليها السلام) وأطال المكوث عندها، مرة صنعت لها مِسكَين من ورق وقلادة وقرطين وستر باب بيتها فقدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودخل عليها ثم خرج وقد عرف الغضب في وجهه حتَّى جلس على المنبر، فظنَّت أنَّه إنَّما فعل ذلك لما رأى ما صنعته فأرسلت اليه ليجعله في سبيل الله فقال: ((فعلت فداها ابوها ثلاث مرات...))[3].

 

القدوة في شخصية الزهراء (عليها السَّلام)

 

عندما جاء الإسلام وجاءت معه العقائد والمفاهيم والتشريعات بواسطة خاتم الأنبياء وسيد المرسلين محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وعندما أهتم بهذه القواعد وبتحديد الجيد في السلوك الإنساني؛ لكي يتصرف الإنسان ضمن الدائرة المرسومة له، فلا يتجاوزها، ويعبّر عنها في الإسلام بالحلال والحرام أو الواجب فافعله والحرام فاتركه.

فأهتم بموضوع تجسيد هذه القواعد والمفاهيم، وهذا السلوك المطروح في التشريعات الإسلامية، وهذا الاهتمام من قبل الشَّريعة المقدسة المتمثلة بنبيها محمد صلى الله عليه وآله وسلم أسهم في بناء شخصيات بشرية تمثل الكمالات التَّي أرادها الله سبحانه وتعالى للإنسان، ويتحرك باتجاهها بحيث يصبح انسانًا متخلقًا بأخلاق الأنبياء والأوصياء باعتبارهم الكمال المطلق، وبطبيعة الحال أنَّ الإنسان لا يستطيع أنْ يصل إلى هذه الدرجة من الكمال؛ لأنها مختصة بأولياء الله، لكنْ على البشر أنْ يتحركوا نحو الكمال، ويعملوا لأجله، كل حسب طاقاته وقابلياته، وكانت الزَّهراء (عليها السَّلام) تمثل النموذج الكامل للمرأة في هذا الجانب السلوكي حتَّى أصبحت أفضل النساء وسيدتهن من ضمنهن النساء الثلاث: (وهن من أهل الجنة)، مريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وآسيا بنت مزاحم امرأة فرعون، عن أنس قال: قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): ((خير نسائها مريم وخير نسائها فاطمة بنت محمد))[4].

وهكذا عندما تتكامل الشخصية الإنسانية؛ نتيجة حركتها تكون المصداق الواضح لخليفة الله في الأرض، الذَّي نفخ فيه من روحه ومطبقًا لتعاليم السماء والتشريعات الإلهية التي أرادها للبشر، هذا جانب من شخصيتها (عليها السَّلام).

أمَّا إذا أخذنا الجانب الآخر من شخصيتها، وهو علميتها نراها القدوة في الحركة العلمية بحيث كانت عالمة غير معلمة يأتي إليها بعض أصحاب رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، فيتعلمون منها العلم، فعن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلم): فأنزل الله (((مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ)))[5] يقول: ((أنا والله أرسلت البحرين علي بن أبي طالب بحر العلوم وفاطمة بحر النبوة يلتقيان يتصلان أنا والله أوقعت الوصلة بينهما...))[6].

وعن الإمام الصَّادق (عليه السَّلام) قال: قالت: فاطمة (عليها السَّلام)..... ثم أقبل علي فقال: يا فاطمة، إنَّها لم تنزل فيك، ولا في أهلك، ولا في نسلك أنت مني وأنا منك... واعلم أنَّ الله ذكر اثنتي عشرة امرأة في القرآن على وجه الكناية

 (((اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ)))[7] حواء، (((ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا)))[8] امرأة نوح وامرأة لوط (((مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ))) فاطمة (عليها السَّلام)... وأنَّ الله تعالى أعطى عشرة أشياء لعشرة من النساء: التوبة لحواء زوجة آدم والجمال لسارة زوجة ابراهيم والعلم لفاطمة زوجة المرتضى[9].

ذكرت هاتان الروايتان عِلم فاطمة (عليها السَّلام) مرة بتعبير (فاطمة سر النبوة) والأخرى صرحت وقالت: (والعلم لفاطمة زوجة المرتضى)، والعلم الذي عند فاطمة (عليها السَّلام)، هو من الله كما نصت الرواية على ذلك؛ لأنّ الله هو صاحب العلم المطلق فينهل الإنسان منه بقدره، والزَّهراء (عليها السَّلام) صاحبة الإناء الأوسع، بل البحر المعبَّر عنه بالرواية، وهي بحر؛ لسعته فتكون صاحبة العلم الغزير، ويشهد على ذلك مصحف فاطمة والجفر والجامعة، الذَّي هو ليس بقرآن بل يوجد فيه علم ما يكون.

عن أبي عبيدة قال: سأل أبا عبد الله (عليه السَّلام) بعض أصحابنا عن الجفر فقال: ((هو جلد ثور مملوء علماً))، فقيل له ما الجامعة؟ فقال: ((تلك صحيفة طولها سبعون ذراعاً في عرض الأديم، مثل: فخذ الفالج فيها كل ما يحتاج الناس اليه، وليس من قضية إلَّا وفيها حتَّى أرش الخدش))، قيل له فمصحف فاطمة؟ فسكت طويلاً ثمَّ قال: ((إنَّكم لتبحثون عمَّا تريدون، وعمَّا لا تريدون أنَّ فاطمة مكثت بعد رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلم) خمسة وسبعين يوماً، وقد كان دخلها حزن شديد على أبيها، وكان جبرائيل يأتيها فيحسن عزاءها على أبيها، ويطيب نفسها ويخبرها عن أبيها ومكانه، ويخبرها بما يكون بعدها في ذريتها، وكان علي (عليه السَّلام) يكتب ذلك فهذا مصحف فاطمة))[10].

هذا علمها (عليها السَّلام) أمَّا عبادتها فكانت (عليها السَّلام) تعبد الله في الليل والناس نيام، فما زالت راكعة وساجدة حتَّى يتبيَّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، وكانت من ديدنها لا تدعو لنفسها أو تدعو للمؤمنين والمؤمنات أولاً وبعد ذلك تدعو لنفسها.

ففي رواية عن عبادة الكلبي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي بن الحسين عن فاطمة الصغرى عن الحسين بن علي عن أخيه الحسن بن علي بن أبي طالب (عليهم السَّلام) قال: ((رأيت أمي فاطمة (عليها السَّلام) قامت في محرابها ليلة جمعتها فلم تزل راكعة ساجدة حتَّى اتضح عمود الفجر، وسمعتها تدعو للمؤمنين والمؤمنات وتسميهم وتكثر الدعاء لهم، ولا تدعو لنفسها بشيء فقلت لها: يا أماه لم لا تدعين لنفسك كما تدعين لغيرك؟ فقالت: يا بني الجار ثم الدار))[11].

وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((فاطمة سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين، وأنَّها لتقوم في محرابها فيسلم عليها سبعون ألف ملك من المقربين، ويناديها بما نادت به الملائكة مريم فيقولون يا فاطمة أنَّ الله اصطفاك، وطهرك، واصطفاك على نساء العالمين...))[12].

الهوامش:_______________________________

[1] المحقق أبو الفتح الاربلي، كشف الغمة: 1/ 458.

[2] الشيخ عباس القمي، مفاتيح الجنان، الزيارة الجامعة.

[3] ابن حجر، الصواعق المحرقة: 182.

[4] الاربلي، كشف الغمة:1/ 450.

[5] سورة الرحمن: 19.

[6] ابن شهر أشوب، مناقب آل ابي طالب:3/ 101.

[7] الأعراف: 19.

[8] التحريم: 10.

[9] مناقب آل أبي طالب: 3/ 103.

[10] العلامة المجلسي، بحار الأنوار: 43/ 79.

[11] الشيخ الصَّدوق، علل الشرائع: 1/ 182.

[12] الفتال النيسابوري، روضة الواعظين: 149.

المرفقات

: السيد شبيب مهدي الخرسان