هذه اللوحة النادرة لمقام الراس الشريف للإمام الحسين عليه السلام في القاهرة ، رسمها الفنان الفرنسي المستشرق "جان ليون جيروم" في القرن التاسع عشرفي فترة الغزو الفرنسي لمصر بقيادة نابليون بونابرت ، قام الفنان شأنه شأن اي مستعمر بدراسة مستفيضة لواقع الدولة المحتلة من شتى الجوانب ، وكان من ضمن تلك الجوانب التراث والمشاهد الدينية والتأريخية كدورالعبادة والمقامات الدينية وحتى الاسواق الشعبية، فبدأ بتصوير المشاهد التي يراها سعياً منه لنقل واقع تلك البلدان لشعوب الغرب حسب رؤاه بغية اطلاع الاخر على الواقع الشرقي كون الشرق بمعزل عن الغرب لصعوبة التنقل والتواصل فيما بينهم ، فقام جيروم بتصوير الاسواق ومشاهد من واقع الحياة اليومية والكثير من المعالم التأريخية والدينية في مصر وغيرها من البلدان العربية التي زارها وصورها في لوحاته الفنية بأسلوب يتميز بلكنة المدارس الفنية التشكيلية الغربية بعيداً عن واقع العرب المسلمين ، ولكن ! مما يثير الانتباه انه استعمل اسلوبا خاصا في هذه اللوحة ،فمن خلال تجواله في شوارع القاهرة وسعيه لرصد كل ماهومميز من المعالم والمواقع التأريخية فوجئ بمقام الرأس الشريف للامام الحسين عليه السلام ومايحمله من قداسة واهتمام من قبل الناس ، فاطلع بفضول على تاريخ هذا المقام وعلى واقعة الطف الاليمة كحدث تأريخي انساني وماحل بالرأس الشريف ومنها برزت فكرة هذه اللوحة التي اثارت في نفسه انفعالات وجدانية خالصة تركت انطباعاً دفعه الى تكريس خبرته الفنية لتجسيد قدسية وعظمة هذا المقام الشريف.
تمت معالجة هذا العمل الفني برمته بطريقة واقعية ممزوجة بروحية الاسلام ومقدساته إذ نُشاهد في هذه اللوحة مجموعة من التكوينات الفنية تشكل مجتمعةً بنية العمل الفني المتكاملة والتي تشغل مساحة اللوحة طولياً لاكثر من ثلاثة أرباع السطح التصويري .
تقسم اللوحة الى ثلاثة أقسام طولية، القسم الأول منها يمثل رجل في حالة ابتهال ودعاء وثلاثة اشخاص اخرون منهم من هو يتبرك بالقبر واخران ساجدان وقد رُسم هولاء بحرفية عالية ، ، أما المقطع الوسطي والذي يمثل ارضية و محور اللوحة فهو القبر الشريف والذي اكسبه الفنان بطريقة معالجته اللونية هيبة وروحية مقدسة أما القسم الثالث من اللوحة فيتمثل بالرايات والوانها المتناغمة والتي اكسبت اللوحة تكوينا طوليا وقد استخدم الفنان الالوان الغامقة في خلفية العمل والتي تتمثل على هيئة جدارمقوس في بنائه يحيط بقبر يوحي للمشاهد بأحد المراقد الإسلامية المقدسة كدلالة مكانية .
عمد الفنان على توزيع اللون والخط والفضاء بشكل يجعل المشاهد متأثراً بقدسية المكان مما يجعله حافزاً للاستقصاء عن شخص الامام الحسين عليه السلام لدى الغرب او الشرق ممن يجهلون من هو الحسين عليه السلام وما حكاية هذا الرأس دون الجسد .
أما ألوان اللوحة فذات تناغم خاص تتراوح مابين البني الغامق والأصفر وتدرجاتهما فضلا عن الازق والاخضر فقد شكلت الألوان الغامقة بنية مهيمنة على أجواء العمل الفني حيث إتجهت ( المتمثلة بالاشخاص والرايات ) صوب نقطة التلاقي (شاخص القبر) لتشكل تكوينا عاما تتركز فيه الأشكال بواقعية قدسية مؤثرة ذات ايحاء ديني ، مما يعكس ذكاء الفنان بنقل صورة المقدس الى الاخر فالالوان الغامقة المستخدمة في بناء اللوحة وطريقة اسقاطها على اللوحة بحرفية الفنان الغربي وتعبيريته الحدسية العالية من حيث المعالجات الشكلية اللونية تعمق قوة التعبير الفني من خلال تناوله لهذه الموضوعة الإنسانية التي تعج بالأسى واللوعة و تعكس الاجواء الحزينة والمأساة التي تعم هذا المكان وتدفع المتلقي للتأمل بهذا المشهد متأثرا بواقعية نقله .
وُفِق الفنان في هذه اللوحة في إثارة الانفعالات الدينية للمشاهد من خلال استخدامه لغة العاطفة والوجدان فضلاً عن انتقائه موضوعة اللوحة للتعبير عن مضمون فكري وروحي مقدس يقترب من جوهر الحياة العربية الاسلامية بالمعتقدات والتقاليد المتوارثة وما تمليه العقيدة الدينية الإسلامية ومدى ما هو معروف عنها من دور بارز تشغله في حيز التفكير الإنساني للشخص العربي المسلم حيث استطاع التوفيق بين الشكل والمضمون مقتربا بذلك من مفردات البيئة العربية الاسلامية بتمسكها المستمر بكل ماهو مقدس .
سامر قحطان
اترك تعليق