في عيد العام المنصرم كُنّا نهنّئ بعضنا الآخر بكلمات (أعاده الله عليكم ..) هي في واقعها مواساة لرحيل الشهر الفضيل .. شهر انقضى بأيّامه ولياليه وقوّض خيامه وطوى بساطه وشدّ رحاله بما قدّمناه من صيامٍ وقيام, مودّعاً لا علم لنا بعودته مجدّداً.. وها قد أعاده الله علينا بالخير والرحمة , إلّا أنّ بعض من كان صائماً معنا في العام الماضي وصلّى العيد , لم يدرك ما أدركناه ..فقد غيَّبه الموت!! ونحن كذلك قد لا نُدرك غير هذا الشهر الكريم, إذ أنّنا نُساق إلى آجالنا وأعيننا تنظر, الدقائق والثواني المنقضية من أعمارنا لن تعود ولو افتدينا لذلك كلَّ غالٍ ونفيس، بل لو أنفقنا جبال الأرض ذهباً وفضّة, وقد جاء الإرشاد بذلك«اغتنم حياتك قبل موتك» فماذا تنتظر؟!!.. فكم حدَّثنا أنفسنا باغتنام فرصة رمضان، وكم منيناها بصلاحها فيه، ولطالما عاهدنا أنفسنا قبل دخوله بأوبةٍ حقّةٍ، وتوبةٍ صادقةٍ، ودمعةٍ حارّةٍ، ونفسٍ متشوّقةٍ، ولكن كلّما أتى قضى الشيطان على الأمنية، وخاست النفسُ الأمّارةُ بالسوء بعهدها وغدرت، فثابت ليالٍ ورجعت أيام ثمّ عادت لسالف عهدها كأن لم تغن بنور رمضان وضيائه...فماذا تنتظر«وهل تنتظر أن يأتيك جبرئيل و يقول لك : يأتيك في الساعة الفلانيّة عزرائيل؟», ماذا لو أُخبرتَ بأنّ ما تدركه من شهر رمضان في هذه السنة هو آخر ما في حياتك , فماذا أنت فاعل؟
مؤكَّد سيكون صومك أيّامه بانقطاع وتوجّه لم تشهد له مثيلاً في أيّام حياتك , وستجهد في استغلالها بالعبادة والدعاء والبكاء, وسيكون إقبالك على الله عز وجل إقبالاً لا تشوبه الدنيا بزينتها ومغرياتها , فإذا كنتَ قد ودّعتَ في عامك الماضي شهراً فستودّع في شهرك هذا كلّ لحظةٍ لحظة .. فالشعور بالوداع وتضايق الفرص يبعث في النفس من الاهتمام والجد والتوجّه شيئاً لا يبعثه التسويف وطول الأمل.
قال أمير المؤمنين عليٌّ(عليه السلام): «من أطال الأمل أساء العمل»فهو لطول أمله في الحياة ومدافعته للموت يسوء تصرّفه ويقبح عمله , بخلاف من قصر أمله وجعل الموت بين عينيه فهو في كلّ ساعة يزداد من العمل الصالح .
فهلمَّ معي لنستحضر روح الوداع في صيام هذا الشهر العظيم وننظر إليه أنّه مقبل يلوح بالوداع , لنستحضر تلك الأحاسيس ولوعة الفراق, لعلّه بتوديعنا إيّاه نودّع دَعةً أتلفت إيماننا.. وكسلاً أذهب أعوامنا وقصَّر أعمارنا وأمانيَ عادت علينا وبالاً فما نلناها وأضاعت علينا إيماننا ..
بعضٌ يستقبل الشهر الكريم بقلبٍ شغوفٍ كعاشقٍ فارق معشوقته فجرَّد النفس ممّا يحيط بها ليقضي ليالي تواجده بقربها سهراً وسمراً.. فحالُ أولئك كحال هذا العاشق في استقبال معشوقه شهر﴿رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْـهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾ شهر نفحات الخير ونسائم الرحمة والمغفرة والرضوان, شهر الله.. شهر أعدّ له العدّة منذ عامٍ مضى, يستقبله بقائمةٍ سوَّد صفحاتها بإخلاص نيّته وصدق سريرته, يتقدّمها دوام الاستغفار ثمّ الدعاء وصلاة الليل والاغتسال في لياليه المباركة وزيارة الأئمّة (عليهم السلام) والاستغاثة بهم ووو...إلى غير ذلك من أعمال ذُكرت في استقباله وخلاله وإلى يوم وداعه,﴿وَأُزْلِفَتِ الـْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الـْخُلُودِ * لَـهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ﴾, ثلاثون يوماً هم في ضيافة الرحمـٰن, فالواحد منهم لو فارق الدنيا سيقول : رَبِّ ارجعونِ .. لَعلّي من عملي الصالح أستزيد..
وآخر يستقبل الشهر الكريم بقلبٍ غافلٍ لاهٍ خَرِبٍ يُسوِّد في استقباله قائمةً يسطِّر فيها أوقات عرض الأفلام والمسلسلات الأجنبيّة(التركيّة) والعربيّة التي لاهدف لها إلّا إفساد المسلم وحرفه عن تعاليم دينه بنشر الثقافة الغربيّة بطريقةٍ مدروسةٍ ومخطَّطٍ لها أيّما تخطيط , يدسّون في تلك الأفلام والمسلسلات الأفكار الخبيثة كما يُدَسُّ السُّمُ في العسل .. فتراهم في بعضها بادئَ الأمر يعرضون عاداتٍ اعتاد عليها المسلم تمهيداً لجذبه وشدّه إلى المتابعة كي تنطلي عليه هذه المقدّمة حتّى يتمَّ استدراجه إلى هاوية الانحلال والسقوط في الرذيلة التي ألبسها البعضُ ثوبَ الثقافة الأُسريَّة ليشاهدها الأبناء وتتعلَّم منها البنات, تلك القنوات التي لا تنفكُّ هادفةً إلى بثِّ جرثومة التفكُّك والانحلال الفكريّ والأُسريّ، ناهيك عن الانحراف الدينيّ.
وكثيرةٌ هي المفاهيم الخاطئة التي تسود في شهر رمضان، فنلحظها داخل الأُسر وفي الشوارع وخاصًّة ليالي رمضان، حيث تنتشر المقاهي والكازينوهات التي تستقطب الشباب.. وجلسات اللهو والمرح التي تُبعدُهم وتُلهيهم عن أعظم العبادات في أعظم ليالٍ على الإطلاق،إن فاتت قد لا تعود ..
أهٰكذا يكون استقبالك لهذا الشهر الكريم؟!! ..
أهٰكذا أنت فاعلٌ في أيّامه ولياليه؟!! ..
وقد يجد القارئ في هذه الأسطر بعضاً من هذه الأمور في نفسه، وقد يتجدّد عزمه لاستقبال هذا الشهر الكريم بروحٍ مفعمةٍ بالإيمان والشوق والوَلَه، ليكون في ضيافة الله أيّاماً معدودات، يستبدل ما عزم عليه في كلِّ عامٍ بأفضل الأعمال، فبدلاً من الافتراش في الأماكن العامّة يطيِّب أسماعَه بحضور المجالس الحسينيّة، وبدلاً من البرامج والمسلسلات والأفلام، يصل رَحمَه أو يعود مريضاً، ويسأل عن مؤمنٍ فقيرٍ لا يجدُ ما يقتاتُ به.. وبدلاً من تكثير سواد أهل الذنوب والمعاصي بالتواجد في نواديهم ومنتدياتهم(المقاهي والكازينوهات) ليرتاد المكتبات العامّة وقراءة الكتب والدورات الثقافيّة و... إلى غير ذلك من البدائل والفضائل.
وقبل الختام نوجّه التساؤل لمن أصرّ وأخذته العزّة بالإثم: ماذا لو فارقتَ الدنيا وأنت على هذه الحال.. ماذا ستقول لربِّ هذا الشهر العظيم.. ألا تقول كما قال الله عز وجل حكايةً عن لسان حال أمثالك: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْـمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾.
والحمد لله ربِّ العالمين وأفضل الصلاة وأتمُّ التسليم على سيّد الخلق أجمعين محمّد الصادق الأمين وعلى أهل بيته الطيّبين الطاهرين.
الكاتب / السيد مهدي الجابري
اترك تعليق