الانتظار بمفهومه الذي تؤكّده الروايات الواردة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة الأطهار عليهم السلام هو حالة ترقب يصاحبه عمل يمارسه المنتظر لاستقبال اليوم الموعود ، وهذا العمل يجمعه مصطلح واحد ليكون من أظهر مصاديقه وهو التقوى، فالانتظار إذن هو عمل المنتظر بتقوى عملية يحققها واقعه المعاش.
من هنا أمكننا أن نجد مفاهيم متعددة تحقق هذه التقوى على مستواها العملي، وهذا يعني أن الانتظار هو آلية لبناء الفرد وتكامله، وكذا بناء المجتمع المتكامل حينئذٍ.
وبذلك سيكون الانتظار منهجية للبناء الحضاري المنشود الذي لم تحققه أيّة فلسفة وضعية أو عقيدة دينية خارجة عن إطار ولاء أهل البيت عليهم السلام والانتساب إليهم.
منهجية البناء الحضاري لجماعة الانتظار:
إذا كانت الحضارة هي مجموع ثقافات الأفراد للمجتمع الواحد ومن ثَمَّ هي حصيلة ثقافات ذلك المجتمع، وإذا كانت الثقافة بمعناها الأعم هي السلوك (الراقي) الذي يتحقق بطاعته لله تعالى وذلك من خلال انتهاج التعاليم الشرعية المأمور بها الفرد، وهذه بمجموعها تسمى التقوى التي من خلالها تتحقق سمة الالتزام الشرعي لذلك الفرد، ومعلوم أن هذه التقوى التي حث عليها الأئمّة الأطهار عليهم السلام إحدى أهم آليات الانتظار.
ففي الكافي بسنده عن أبي الجارود قال: قلت لأبي جعفر: يا بن رسول الله هل تعرف مودتي لكم وانقطاعي إليكم وموالاتي إيّاكم؟ قال: فقال: (نعم)، قال: فقلت: فإني أسألك مسألة تجيبني فيها فإني مكفوف البصر قليل المشي ولا أستطيع زيارتكم كل حين، قال: (هات حاجتك)، قلت: أخبرني بدينك الذي تدين الله تعالى به أنت وأهل بيتك لأدين الله تعالى به، قال: (إن كنت أقصرت الخطبة فقد أعظمت المسألة، والله لأعطينك ديني ودين آبائي الذي ندين الله تعالى به، شهادة أن لا إله إلاّ الله، وأنّ محمّداً رسول الله والإقرار بما جاء به من عند الله والولاية لولينا والبراءة من أعدائنا، والتسليم لأمرنا، وانتظار قائمنا والاجتهاد والورع)(1).
على أن أئمّة أهل البيت عليهم السلام حدّدوا تكليف أتباعهم وما يجب أن يعملوه إبّان غيبة إمامهم، وما هي حدود مسؤولية كل واحدٍ منهم اتجاه نفسه واتجاه الآخرين، أي تحديد التكافل الاجتماعي الذي من خلاله يتاح للمكلف أن يتكامل وللمجتمع الإسلامي أن يرقى إلى درجة الكمال والبناء.
روى المجلسي بسندٍ صحيح عن جابر قال: دخلنا على أبي جعفر محمّد بن علي عليهما السلام ونحن جماعة بعدما قضينا نسكنا فودعناه وقلنا له: أوصنا يا ابن رسول الله، فقال: (ليعين قلوبكم ضعيفكم، وليعطف غنيكم على فقيركم، ولينصح الرجل أخاه كنصحه لنفسه، واكتموا أسرارنا، ولا تحملوا الناس على أعناقنا، وانظروا أمرنا وما جاءكم عنّا، فإن وجدتموه في القرآن موافقاً فخذوا به، وإن لم تجدوه موافقاً فردوه، وإن اشتبه الأمر عليكم فقفوا عنده، وردوه إلينا حتّى نشرح لكم من ذلك ما شرح لنا، فإذا كنتم كما أوصيناكم ولم تعدوا إلى غيره فمات منكم ميّت قبل أن يخرج قائمنا كان شهيداً، ومن أدرك قائمنا فقتل معه كان له أجر شهيدين، ومن قتل بين يديه عدواً لنا كان له أجر عشرين شهيداً)(2).
والرواية بذلك تحدد المعالم العامة للسلوكية الشيعية إبّان الغيبة ووظيفة المكلف عند الانتظار، فقد حدّد الإمام عليه السلام سلوكية المكلف على المستوى العملي وعلى المستوى العلمي الفكري كذلك.
الاستقرار النفسي لجماعة الانتظار:
لعلَّ أهم ما يميز أتباع أهل البيت عليهم السلام المتطلعون لانتظار اليوم الموعود هو حالة الاستقرار النفسي الذي يميزهم عن غيرهم.
وهذا الاستقرار ناشئ من حالة الاطمئنان المنبعثة من التطلع إلى مستقبل مشرق ترتسم صورته في ذهنية المنتظِر _ بالكسر _ من خلال فلسفة الانتظار التي يدين بها إلى الله تعالى، فحالات الإحباط الناشئة من ظروف سياسية تحيط بأتباع أهل البيت عليهم السلام لم تعد ذات أثر على مستقبل وجودهم، بل وحتّى على ما يتطلع إليه هؤلاء الأتباع من بناء هيكلتهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية كذلك، وهذا راجع إلى ما تحمله فلسفة الانتظار من آمال تعقدها النفسية الشيعية على قيام دولة المنتظَر _ بالفتح _ فعلى المستوى الفردي يشعر الفرد وهو يعيش حالة الانتظار بالأمل الكبير في تحقق أهدافه تحت ظل الدولة المهدوية المباركة.
فالإحباطات النفسية لأسباب متعددة يمكن للفرد أن يتفاداها بما يعقده من آمال على تلك الدولة القادمة التي تبسط العدل والسلام في ربوع هذه الأرض المقهورة، فإذا لم يتحقق هدفه عاجلاً فإنّ مستقبله في الآجل سينجزه ذلك الإمام الموعود، وبذلك فإنّ هذا الفرد سيكون في حالة أمل دائم وترقب متفاءل يصنع من خلاله غده السعيد، وبذلك فإنّ الاستقرار النفسي الذي يعيشه المنتظِر هو إحدى خصوصياته، وهذا الاستقرار سيكون سبباً في الإبداع ومن ثَمَّ التكامل الذاتي.
أما على المستوى الجماعي فإنّ جماعة الانتظار تطمح إلى تحقيق برامجها في ضوء الآمال المعقودة على ترقب الدولة المهدوية، وهذه الجماعة تستشعر معايشة قائدها معها في كل الأحوال، وتقطع أن نجاح ما تصبو إليه يكون مرهوناً بتسديد هذا القائد الإلهي ورضاه، وهو مصداق قوله تعالى: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ)(3)، قال الصادق عليه السلام: (والمؤمنون هم الأئمّة)(4)، وهذا ما يناسبه سياق الآية.
ومن غريب ما فسرته بعض المذاهب الإسلاميّة أن المقصود من قوله تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ) هم جماعة المؤمنين، وهذا من غريب ما وقع به هؤلاء دفعاً لمحذور الاعتراف بمقامات الأئمّة الأطهار عليهم السلام التي يقررها القرآن الكريم وتقتضيه شؤون خلافة الله في أرضه _ في بحث ليس هنا محل ذكره _، على أن الخطاب في الأمّة للمؤمنين، فكيف يكون بعد ذلك قول الحكيم حكيماً حينما يكون المخاطب المكلف هو نفس الشاهد على عمله؟! وما إلى غير ذلك من خروقات الرؤية السياسية التي تتدخل في التفسير القرآني والحديث النبوي من أجل (استحصال) حالات التأييد لمواقفها المناهضة لأهل البيت عليهم السلام.
وعلى كل حال فإن نجاح جماعة الانتظار يكمن في تفاؤلها الطموح بقيام دولة الحق والعدل، وهي تسعى دائماً إلى صياغة أعمالها على أساس ذلك، لذا فهي في حيوية دائمة غير مشلولة نتيجة الإحباطات السياسية المحيطة بجماعة الانتظار، فضلاً عن أن هذه الجماعة تحقق نجاحها في خضم تحديات تواجهها دائماً.
وعلى هذا فأيّ نجاح مهما تكون درجته سيكون له معناه في ظل هذه التحديات وهو مكسب مهم وقضية خطيرة في ظل ذلك.
ومقابل هذا فإن أيّ تعثر في عمل هذه الجماعات سوف لن يسلمها إلى اليأس والتردد طالما هناك البديل الذي يحققه قيام الدولة المهدوية المباركة.
وعلى هذا الأساس فإن جماعة الانتظار تعيش دائماً طموحاتها الواقعية، متحدية بذلك الصعاب والإحباطات التي تواجهها في ظل ظروف تتكالب على هذه الجماعة سعياً لإنهائها وتصفيتها.
هذه الحالة من التفاؤل التي تعيشها جماعة الانتظار تبعث على الأمل في تحقيق برامجها وبناء حضارتها والسعي من أجل التكامل في كل الميادين.
من هنا علمنا دواعي العمل الدائم الحثيث لجماعة الانتظار، وأسباب نجاحها على كل الأصعدة بالرغم من كل ما عانته وتعانيه من ظروف قاهرة يصعب معها الإبداع، فضلاً عن البقاء، لولا ذلك الأمل الذي يحدو جماعة الانتظار.
وعلمنا في الوقت نفسه إمكانية تأسيس حضارة تعيش طموحاتها هذه الجماعة في ظل فلسفة الانتظار.
إلى جانب ذلك، يعيش الفرد البعيد عن حالة الانتظار حالات التوجس من الفشل وهاجس الخوف على مستقبله المجهول، فأيّة قضية يواجهها هذا الفرد تودي بكل طموحاته وتشل قدراته، فهو يحاول أن يحقق مكسبه عاجلاً لغياب حوافز البديل فيما لو أخفق على صعيد عمله، فإن خسارته هذه ستكون فادحة فيما إذا هو أحس بعدم تعويضها بالبديل.
والانتظار حالة أمل وطيد يعيشه المنتظِر _ بالكسر _ فإذا غابت عن الإنسان هذه الرؤية فلا بدَّ أن تحيط ذاته هواجس الخوف، وبذلك سيكون مهزوماً دائماً، غير جدير بإمكانية مواجهة الصعاب والمحن التي تعصف به في كل حين من خلال ظروف عالميةِ متقلبة وإقليمية غير مستقرة، وبذلك فلم يكن مثل هذا الفرد جديراً في بناء حضارة أو السعي لتكامل ذاته وبناء شخصيته.
الكاتب: السيد محمد علي الحلو
كتاب: الغيبة والانتظار قراءة تاريخ ورؤية مستقبل
تحقيق: مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي
_________________________________________
(١) منتخب الأثر: ٤٩٨.
(٢) بحار الأنوار ٥٢: ١٢٢.
(٣) التوبة: ١٠٥.
(٤) تفسير العياشي ٢: ١٠٩.
اترك تعليق