أضحت مسألة الانتظار مسألة مهمّة لدى المدارس الإسلاميّة جميعاً، فالمدارس الإسلاميّة _ عدا الإمامية _ تنظر إلى مسألة الانتظار على أنها حالة سلبية يعيشها الفرد، فهي حالة سكون وانطواء على النفس، بل هي حالة تجميد الطاقات بحجة انتظار الموعود، وهذه النظرة وليدة تراكمات ظروف معرفية خاصة، إضافة إلى حالة عدم الوعي والقصور في فلسفة الغيبة المهدوية المباركة.
فالظروف السياسية التي مرَّت بها الأمّة الإسلاميّة خلفت لديها حالة عكوف على رؤية مهدوية خاصة تبتعد عن واقع الأحاديث التي رواها الفريقان، فالأحاديث تؤكّد على وجوب ظهور المهدي عليه السلام، ومن ثَمَّ فإنّ الشواهد تؤكّد كذلك على إمكانية حياته وبقائه لمدة طويلة، والإقرار بوجود المسيح عليه السلام الذي سيكون ظهيراً للمهدي عليه السلام في نهضته وادخاره لهذه المهمّة الإلهية، والتسليم للخضر عليه السلام بحياته وبقائه لهذه السنين المتطاولة يوجب قبول أطروحة المهدي عليه السلام وكونه حيّاً يعيش بين أوساط الأمّة حتّى يأذن الله له بالظهور.
كل هذه المسائل تطرح على الذهنية الإسلاميّة العامة وينتظر منها الإجابة عن سبب إمكانية قبول بقاء عيسى عليه السلام حيّاً والتردد في إمكانية بقاء الإمام المهدي عليه السلام حيّاً كذلك ، أليس مهمّة السيدين واحدة وهي إقامة الدولة المهدوية الكبرى؟ أليس التسليم بأن بقاء عيسى عليه السلام مذخوراً لمهمّة الإمام المهدي عليه السلام؟ ما الفرق بين الحالتين! خصوصاً أنهما يشتركان في هدف واحد؟
هذه التساؤلات لها إجاباتها ارتكازاً في غضون العقلية السُنّية وإمكانية قبولها كأمر منطقي تفرضه براهينها ودلائلها، فلماذا يتخلف المنطق السني عن قبول مثل هذه المسلّمات على المستوى العملي إذن؟
وللإجابة على ذلك فإنّ الإحاطة بالسير التأريخي وانسيابية المعلومة التأريخية في خضم هذه المباحث يعطي الإجابة الجديدة في هذا المجال.
وبما أن البحث مبني على الاختصار فلا يمكننا بعد ذلك الغور في أعماق المعطيات التأريخية التي لا بدّ أن تشارك في تكوين فكرة أوّلية _ على الأقل _ في هذا المجال.
ومع هذا فسوف لا نغفل عن التعرض إلى شيء مقتضب يساهم في بحثنا هذا.
من المعلوم أن الظروف التأريخية التي زامنت فترة الغيبة أضفت واقعاً آخر على فلسفة الغيبة، إلاّ أنه واقع يتعلق بمصلحة الأنظمة السياسية وليس في ذات الغيبة وحقيقتها، لأن المشتركات يبن الفريقين يقرها الحاكم السياسي وغيره ويعترف بها كأمر واقع لا يمكن رفضه، إلاّ أنه يسعى إلى إلغاء القضية المهدوية، أو على الأقل التقليل من شأنها ، لذا سعى جاهداً في إخفاء معالم هذه المسألة، وتعامل معها على أساس أمني حذر، وفكري يضمن مصالحه كذلك.
من هنا حاولت الأنظمة الأموية والعبّاسية التعامل مع الدعاوى المهدوية الكاذبة بكل جدية، فالنظام الأموي سعى إلى إيجاد علاقة ما مع عمر بن عبد العزيز ومع الأحاديث المهدوية وادعى أن عمر بن عبد العزيز هو المهدي الذي ملأها عدلاً وقسطاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً، وركزت جهودها على تصوير عدالته وتقواه وزهده، وبموته فقد مات المهدي وانتهى دوره بعد ذلك، وهكذا أثبتت مدوناتهم التأريخية قصص ودعاوى عدالة عمر بن عبد العزيز، إلاّ أنها لا تلقى اهتماما على مستوى الأمّة التي قرأت أحاديث المهدي بكل وعي وتيقنت من حتمية ظهوره وإقامة دولته الإلهية ليملأها عدلاً وقسطاً.
أما النظام العبّاسي فقد أضفى على حركة محمّد النفس الزكية دعوى المهدوية وادعى أن محمّد النفس الزكية هو المهدي المنتظر، وادعى ذلك إبّان حركته، وحاول تحريف أحاديث المهدي وروى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن المهدي اسمه اسمي، وبدل: كنيته كنيتي، ذيّل الحديث هكذا: واسم أبيه اسم أبي، أي صار الحديث المروي بين الفريقين المهدي اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي.
في حين عند متابعة حركة النفس الزكية لم تجد دليلاً واضحاً يساعد على هذه الدعوى، وأن محمّداً لم يدع المهدوية كما صورته وسائل النظام العبّاسي وأثبته في ذهنية بعضهم.
وبهذا تعامل النظام العبّاسي مع حركة المهدي على أنها حركة محمّد النفس الزكية الذي قتل في واقعة دير الجماجم، وبهذا حاولت إنهاء مسألة المهدي وإغلاق ملف المهدوية من أذهان الأمّة، وتعاملت معها على أنها مسألة تأريخية انتهت في حينها. إلاّ أن ذلك لم يقنع الأمّة وهي أمام هذا السيل من الأحاديث الصحيحة في مسألة الظهور، نعم أمكن إقناع العقلية السلفية بهذه المحاولات غير الجادة على المستوى العلمي ومستوى الواقع العملي.
بل حتّى أن النظام أخفى عدم قناعته بهذه المحاولات الفاشلة وأظهر قلقله حيال المسألة المهدوية، بعدما تعامل مع الإمام الحسن العسكري عليه السلام على أنه المولود منه المهدي فعلاً، لذا فبعد شهادته عليه السلام ألقي القبض على نسائه للبحث عن الوليد الموعود أو الحمل الجديد، اعترافاً منهم بحتمية ظهور المهدي عليه السلام.
وبذلك فإنّ ما أقدم عليه النظام الأموي والحكم العبّاسي كذلك هو محاولة إلغاء المسألة المهدوية من أذهان العامة وكونها قضية تأريخية انتهت بانتهاء ظروفها.
لذا لم تعد لمسألة الانتظار أهمية على مستوى المذاهب الإسلاميّة الأخرى، ولم تتعامل معها بجدية، كونها قضية تأريخية.
وبذلك فإنّ مسألة الانتظار صارت من (مختصات) الفكر الإمامي الذي تعامل مع الإمام المهدي عليه السلام على أساس الروايات الصحاح التي أقرها الفريقان، وصار الانتظار واقعاً عملياً يتعامل معه أتباع أهل البيت عليهم السلام.
الكاتب : السيد محمد علي الحلو
كتاب : الغيبة والانتظار قراءة تاريخ ورؤية مستقبل
تحقيق: مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي
اترك تعليق