حتميّة الانتظار

انّ فكرة الإمام المهدي عليه السلام قضيّة إسلاميّة، بل من ضرورات الإسلام، لا تختصّ بها طائفة دون اُخرى، ولا معنى للاعتقاد بأنّها قضيّة اختصّ بها الشيعة الإماميّة... نعم، إنّ اهتمام الإماميّة بقضيّة الإمام المهدي عليه السلام أعطت بُعداً آخر، وهو أنّ الإماميّة مارسوا فكرة الإمام المهدي عليه السلام ممارسةً حيّة، وتعاطوا معها بشكلٍ برز على مجمل تحرّكهم التاريخي وأنشطتهم الفكريّة، وجهودهم السياسيّة، والسعي الحثيث إلى معايشة القضيّة المهدويّة بشكل ينسجم وأهمّيتها البالغة في أحاديث النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، والتأكيد عليها من قِبل أئمّة أهل البيت عليهم السلام، ممّا دعا الإماميّة إلى إحياء هذه القضيّة وإبرازها إلى الخارج بشكلٍ يضمن حيويّتها، وكونها قضيّةً مسلّمةً تجري الاستعدادت للتهيّؤ لها، حتّى إنّ ظهور المهدي عليه السلام باتت قضيّة بديهيّة في الفكر الشيعي الديني والتنظير السياسي، وكون عملية الظهور مسألة وقت ليس أكثر، وأنّها على مشارفِ الواقع يتعامل معها الفرد الشيعي تعاملاً حيّاً يُبرزه من خلال تحرّكاته...وبمعنى آخر: أنّ الإماميّة عمدوا إلى إحياء الأحاديث النبويّة المبشّرة بظهور المهدي عليه السلام، وبعثوا فيها روحيّةً تضمن عافيتها ونظارتها.

 

إذن، فالقضيّة المهدويّة تنبعثُ أهميّتها من حتميّتها التي أكّدتها الأحاديث النبويّة المتواترة، فضلاً عن الآيات الكريمة، كما أنّ العقل والفطرة يدعوان إلى الاستجابة للحقيقة المهدويّة دون ريب، بل أضحت القضيّة المهدويّة أمل الإنسان بما هو إنسان يطمح إلى إيجاد مناخٍ حرٍّ سليم يعيش فيه الجميع ضمن الحقوق الإنسانيّة الداعية لها جميع الأديان السماويّة، فضلاً عن الإسلام الذي يطمح أن يعيش الإنسان حرّاً كريماً... وإذا كانت أهمّية الظهور تنطلقُ من حتميّة الاستعداد لمستقبلٍ جديد، فإنّ ذلك يعزّز من شعور المرتقبين لظهور الإمام عليه السلام بما يضمن لهم أهمّية هذا الترقّب المتفاءل الذي يعزّز معه إمكانيّة العمل في تكاملٍ دائمٍ، وإبداعٍ دؤوب ينفي معه حالات اليأس والتشاؤم، أو أسباب الهزيمة والانكسار... لأنّ الانتظار حالة تقويض وحركة بناء، فهو تقويضٌ لتبعاتِ الظلم والاضطهاد التي يعانيها الإنسان وما ينجم عن ذلك من حالاتِ إحباطٍ وانهزام، وفي الوقت نفسه فهو حالة بناء لأملٍ يتطلّع إليه المضطهد، ويترقّبه اُولئك المحرومون، ومعنى هذا فإنّ الانتظار حالةً إيجابيّةً تحتّمها شروط انتظار الإمام عليه السلام، وليس حالةً سلبيّة كما يظنّها البعض، فالمنتظِر (بالكسر) يكافح من أجل تشييد مواهبه التي يرقى بها إلى حالات التكامل التي تؤهّله من خلالها أن يكون فرداً فعّالاً إبّان ظهور الإمام عليه السلام، وليس حالة انكسارٍ وهزيمةٍ تمليان على المنتظِر الخنوع لظروفه الجبّارة الظالمة، بل هو سعيٌ حثيث لإيجاد قاعدةٍ متينة يستند إليها الإمام عليه السلام عند ظهوره.

 

فإذا كانت أهمّية الانتظار ترقى إلى حالات بناء الإنسان وتكامله استعداداً لذلك اليوم الموعود، فإنّ معرفة اليوم الموعود بمكانٍ يحتّم على المكلّف البحث عن علاماته وملامحه، وهذه العلامات لم تغفلها الروايات، بل تظافرت على بيانها أحاديث الفريقين، وعقد كتب الملاحم والفتن من كلا الفريقين فصولاً تنذرُ بهذا اليوم الآتي، وتبشّر بالموعود المنتظر.

 

أهل البيت عليهم السلام وحتمية الانتظار

ولم تخلُ الروايات الواردة عن أهل البيت عليهم السلام من الإشارة إلى أهمية الانتظار، والتأكيد على ضرورة التكامل الروحي الذي يتمتع به المنتظِر، وكون الانتظار حالة إعادة بناء لنفوسٍ مضطهدةٍ تحت ظروفٍ قاهرةٍ تستعيدُ النفوس من خلال ممارسة برنامج تربوي هيمنتها على الاحداث المحدقة بها وصمودها للاحداث القادمةِ المستقبلية التي تنتظرها بعد ذلك.

روى الصدوق بسندٍ صحيح عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: التاسع من ولدك يا حسين هو القائم بالحق، المظهر للدين، والباسط للعدل، قال الحسين: فقلت له: يا أمير المؤمنين وإن ذلك لكائن؟ فقال عليه السلام: أي والذي بعث محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالنبوة واصطفاه على جميع البرية، ولكن بعد غيبة وحيرة فلا يثبت فيها على دينه إلاّ المخلصون المباشرون لروح اليقين، الذين أخذ الله عز وجل ميثاقهم بولايتنا وكتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه.(1)

وعن علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام أنه قال: من ثبت على موالاتنا في غيبة قائمنا أعطاه الله عز وجل أجر ألف شهيد من شهداء بدر وأُحد.(2)

وروى جابر الانصاري عن أبي جعفر عليه السلام قال: يأتي على الناس زمان يغيب عنهم إمامهم، فيا طوبى للثابتين على أمرنا في ذلك الزمان، إن أدنى ما يكون لهم من الثواب أن يناديهم الباري جل جلاله فيقول: عبادي آمنتم بسري وصدقتم بغيبي، فابشروا بحسن الثواب مني، فأنتم عبادي وإمائي حقاً منكم أتقبل، وعنكم أعفو، ولكم أغفر، وبكم أسقي عبادي الغيث وأدفع عنهم البلاء، ولولاكم لأنزلت عليهم عذابي. قال جابر: فقلت: يا ابن رسول الله فما أفضل ما يستعمله المؤمن في ذلك الزمان؟ قال: حفظ اللسان ولزوم البيت.(3)

والظاهر أن العزلة التي أوصى بها أئمة أهل البيت عليهم السلام هي العزلة التي يُراد منها حفظ النفس وعدم الزج في متاهات الإتجاهات السطحية، أو الولوج في معترك الحياة المادية التي لا تصب مصلحتها في خط أئمة الهدى عليهم السلام، وإلا فإن أئمة أهل البيت عليهم السلام يحثون شيعتهم بالتصدي في كل ما من شأنه مصلحة مذهبهم وخدمة شيعتهم، بل الحث على ذلك يظهر من روايات ليس هنا محل التعرض لها.

وقال المفضل بن عمر: سمعت الصادق جعفر بن محمد يقول: من مات منتظراً لهذا الأمر كان كمن كان مع القائم في فسطاطه، لا بل كان كالضارب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالسيف.(4)

وعن محمد بن النعمان قال: قال لي أبو عبد الله عليه السلام: أقرب ما يكون العبد إلى الله عز وجل وأرضى ما يكون عنه إذا افتقدوا حجة الله فلم يظهر لهم، وحجب عنهم فلم يعلموا بمكانه، وهم في ذلك يعلمون أنه لا تبطل حجج الله ولا بيناته، فعندها فليتوقعوا الفرج صباحاً ومساءً، وإن أشدَ ما يكون الله غضباً على أعدائه إذا أفقدهم حجته فلم يظهر لهم، وقد علم أولياءه لا يرتابون، ولو علم أنهم يرتابون لما أفقدهم حجته طرفة عين.(5)

وعن أبي بصير قال: قال الصادق جعفر بن محمد: طوبى لمن تمسك بأمرنا في غيبة قائمنا فلم يزغ قلبه بعد الهداية، فقلت له: جعلت فداك وما طوبى؟ قال: شجرة في الجنة أصلها في دار علي بن أبي طالب عليه السلام، وليس من مؤمن إلا وفي داره غصنٌ من أغصانها، وذلك قول الله عز وجل (طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ).(6)

 

واذ سردنا بعضاً من هذه الأحاديث فللتذكير باهتمامهم عليهم السلام على أهمية الانتظار وماله من أهميةٍ في تحديد معالم الظهور وعلاماته، إذ خلق قاعدةٍ واعية بمسؤوليتها عارفة بتكليفها يضمن (قاعدة الظهور) والمقصود من (قاعدة الظهور)، هي القاعدة التي يستند تحقيق الظهور عليها، فالإمام عليه السلام لا يمكنه التحرك _ وهذا على الحسابات المادية، أما على أساس الإعجاز الغيبي فالأمر يختلف، إذ لا يحتاج بعد ذلك إلى أيّة آلية تحقق ظهوره عليه السلام _ ما لم تكن هناك قاعدة شعبية عريضة تستوعب حركة الإصلاح التي توليها عملية الظهور بالإهتمام، أي لم تستطع حركة الإمام عليه السلام من النفوذ دون أن تجد لها إنسيابية (طبيعية) من خلال مجتمعٍ يعي ضرورة التغيير ويتطلع إلى أهمية الإصلاح، ولا يمكن أن تتوفر هذه الخصوصيات لدى مجتمع بعيدٍ عن ثقافة الظهور أو التمدن على (حيوية) الانتظار وممارسة دور البناء التكاملي الذي يسمو به إلى آفاق النهضة وطموحات التغيير.

 

فلسفة الانتظار لدى المدارس الإسلامية الأخرى

ومن الغريب أن يتنكر البعض لفلسفة الانتظار ويتهمها بالانهزامية والنكوص.

وإذا كان الانتظار في الفكر الإمامي يعدُ إحدى خصوصياته ومعالمه المتميزة وذلك للتراث الروائي الوارد في أهمية الانتظار، فإن مثل هذه الروايات وردت في كتب أهل السنة تحث على الانتظار وكونه عبادة يتقرب بها إلى الله تعالى، فقد أخرج الترمذي عن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: سلوا الله من فضله، فإن الله عز وجل يحبُ أن يسأل، وأفضل العبادة انتظار الفرج.(7)

فقد وصف الحديث أن الانتظار هو أفضل العبادة، والتخلّف عن هذه العبادة يوجب التقصير في حق الله تعالى، ويؤكد المخالفة التي لا يُعذر العبد ازاءها.

إن تغييب ظاهرة الانتظار ومسخها إلى حالة تلكوءٍ وتراجع هي حالة الانهزامية الحقيقية التي يفر من خلالها هؤلاء من واقع المجابهة الحقيقية مع المستقبل، بل مع التطلعات الطامحة للتغيير، وتُحيله إلى حالة انكفاءٍ يتقهقر بسببها عن مسؤليته، بل تحيله إلى أداة يتربصُ من خلالها لاتهام الآخر بالتقوقع والتخلف.

هذه هي الممارسة السلفية التي رسّخت في مخيلة أتباعها عنف المواجهة مع الآخر والاعتذار بعدم التزامها بفلسفة معينة بأنها حالة خروجٍ عن المعقول.

فالإنتظار لا يعني سوى حالة ترقّب وتوثّبٍ لمحاولات تغيير تطال النظام السياسي أولاً وتتبعه بذلك التركيبة الاجتماعية بما لها من تبعاتِ ظلم وغبنٍ لحقوق المستضعفين _ وإن كانوا الأكثرية _ وهذا يعني أن حالة التغيير ستعصفُ بتقليدية الحاكم والمحكوم، أي التقليدية التي تجعل أتباع (المذهب الحاكم) حاكماً وغيرهم محكومين كوراثةٍ سياسية تاريخية تنشأ من السقيفةِ مروراً بالعهدين الأموي والعباسي وما شاكلهما، وسيكون الآخر مهمشاً تابعاً تقليدياً، وعلى هذا درجت العقلية السياسية في الوطن الإسلامي الكبير دون أن تنازعه أية إطروحةٍ معارضةٍ إلا وجعلتها خارجةً عن القانون، وبذلك تستحق العقوبة والمطاردة والتنكيل.

إن فلسفة الانتظار تعني حالة تهيئ لمجتمع يترقب الثورة وينتظر التغيير والإصلاح على حساب تلك التقليدية الحاكمية، وبذلك ستلغى طبقة الحاكم لتتساوى مع طبقات المحكومين تحت قيادةٍ واحدة، ومعنى ذلك أن الانتظار تهديدٌ يتوعد الحاكم ومثوله أمام حاكمية إلهيةٍ عادلةٍ تطالبه بحقوق الآخرين المضيّعة وكرامتهم المهدورة، وبذلك فالشخصية الحاكمة تتهرب عن واقع يلاحقها حقيقةً ويتوعدها دائماً وهو واقع الظهور الموعود الذي حثّت عليه أحاديث الظهور المتواترة.

من هنا علمنا ما للجهد السياسي من أثرٍ سلبيٍ على تغيير الاتجاه المهدوي المرتكز في أعماق الإنسان ووجدانه، وإحالته إلى محاولةِ تنظير تختص بها طائفة دون أخرى، وإبعاد الذهنية الإسلامية عن حقيقة التعلق بها، وإهدار قيمتها لمواجهة الأحداث وبناء المجتمع المتكامل من خلالها.

 

 

كتاب: علامات الظهور جدلية صراع أم تحديات مستقبل؟

تأليف: السيد محمد علي الحلو

تحقيق: مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي

_______________________________________

1 - كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق ١: ٢٨٦

2 - كمال الدين للصدوق: ٣٢٣ / ح ٧

3 - كمال الدين للصدوق: ٣٣٠ / ح ١٥

4 - كمال الدين للصدوق: ٣٣٨ / ح ١١

5 - كمال الدين للصدوق: ٣٣٩ / ح ١٦

6 - كمال الدين للصدوق: ٣٥٨ / ح ٥٥ والآية في سورة الرعد: ٢٩.

7 - صحيح الترمذي ٥: ٢٢٥، باب ٦ / ح ٣٦٤٢.