قال الله تعالى في محكم كتابه الكريم:
(وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ) (الأعراف: ٥٢ و٥٣)، إنَّ جميع المسلمين ينتظرون يوماً يتحقَّق فيه تأويل القرآن، فإلى الآن لم يتحقَّق تأويل القرآن كلّه، فكلّ المسلمين (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ) أي يتوقَّعون يوماً يظهر فيه تأويل القرآن كلّه وتنكشف فيه حقائق القرآن.
وسيأتي يومٌ يتبيَّن فيه تأويل القرآن، وسيذعن الجميع برسالة السماء، (يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ) فما هو يوم التأويل الذي ينتظره المسلمون؟
لم يحدّد كثير من المفسّرين يوم التأويل، ولكن الرواية الواردة عن الإمام الصادق عليه السلام تفسّر ذلك، قال عليه السلام: (ذلك في القائم عليه السلام ويوم القيامة)(1)، بمعنى أنَّ تأويل القرآن يمرُّ بمرحلتين:
المرحلة الأولى: تأويل المضامين الدنيوية للقرآن، وهذا يتحقَّق عند قيام المهدي عليه السلام.
المرحة الثانية: تأويل المضامين الأخروية للقرآن، وهذا يتحقَّق عند يوم القيامة.
وحديثنا انطلاقاً من الآية المباركة في محاور ثلاثة:
المحور الأوّل: بيان حقيقة التأويل:
إنَّ فهم القرآن يمرُّ بثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: مرحلة الاستظهار:
وهي أنَّ القرآن خطاب عربي، فإذا عرض على العرف العربي، فإنَّه يفهم من ظاهر الخطاب معنىً معيَّناً، لأنَّه من أهل اللغة، لغة القرآن، فهذا يسمّى مرحلة الاستظهار، ويمكن اقتناص ما هو الظاهر القرآني والخوض في هذه المرحلة لكلّ من له قدرة على معرفة أدوات الاستظهار.
ولذلك اُمر كلّ مسلم بالتدبّر في القرآن، قال تعالى: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) (محمّد: ٢٤)، وقال تعالى: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (النساء: ٨٢).
فإنَّ التدبّر في القرآن فرع الاستظهار من الخطاب القرآني ويتوقَّف عليه، والاستظهار يعني الرجوع في فهم الخطاب القرآني إلى أهل اللغة والعرف العربي والأدوات التي من خلالها يقتنص ما يفهمه العرف العربي.
مثلاً: قوله تعالى: (أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) (البقرة: ٢٧٥)، فالعرف العربي يفهم منه أنَّ الربا محرَّم مطلقاً في كلّ زمان وفي كلّ مجتمع، لأنَّ الآية مطلقة، والعرف العربي يأخذ بإطلاق الخطاب ويبني عليه.
المرحلة الثانية: مرحلة التفسير:
وهي أرقى من مرحلة الاستظهار، وتعني تحديد المراد الإلهي من الآية، وهي مرحلة صعبة، إذ من الجائز أن أقول: ما أفهمه من القرآن هو هذا المعنى ويسمّى استظهاراً، ولكن لا يجوز أن أقول: ما يريده الله تعالى من الآية هو ما فهمته لأنَّها مرحلة تفسير.
وقد ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: (من فسَّر القرآن برأيه فليتبوَّأ مقعده من النار)(2)، فليست لنا مرحلة التفسير لأنَّها تعني تحديد المراد الإلهي الواقعي من الآية، ويقول أهل الفنّ: التفسير كشف القناع عن الآية المباركة، وهذا يتوقَّف على مراجعة النصوص الواردة في تفسير الآية المباركة.
مثلاً: قوله تعالى: (بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (هود: ٨٦)، إذا اعتمدنا في تحديدها على عقولنا لا نستطيع تحديد المراد الإلهي في الآية، لكن عند الرجوع للرواية الواضحة الواردة عن الإمام الباقر عليه السلام في تفسير الآية المباركة نستطيع فهم المراد منها، قال عليه السلام: (... فإذا خرج أسند ظهره إلى الكعبة، واجتمع إليه ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، وأوّل ما ينطق به هذه الآية: (بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)، ثمّ يقول: أنا بقية الله في أرضه وخليفته وحجته عليكم، فلا يسلّم عليه مسلّم إلاَّ قال: السلام عليك يا بقيّة الله)(3).
المرحلة الثالثة: مرحلة التأويل:
وهي أرقى من مرحلة التفسير، وتعني إرجاع الشيء إلى مبادئه، فكلّ ظاهرة اجتماعية عندما نحلّلها يسمّى هذا التحليل تأويلاً، مثلاً: ظاهرة القنوات الشيعية التي بلغت من الكثرة حدَّاً كبيراً، عندما تحلّل ويرجع إلى مبادئ هذه الظاهرة، يسمّى هذا التحليل بعملية التأويل.
وهل القرآن له مبادئ حتَّى نرجعه إلى مبادئه ونعتبره عملية تأويل؟ نعم، القرآن أيضاً له مبادئ لأنَّه مرَّ بمرحلتين: الوجود الإجمالي والوجود التفصيلي، والآية نفسها تقول: (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ) (هود: ١)، ممَّا يعني أنَّ القرآن مرَّ بمرحلتين: مرحلة إحكام، بمعنى أنَّه كان وجوداً محكماً ثمّ صار وجوداً مفصّلاً، (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ)، فالإجمالي هو مرحلة اُمّ الكتاب، قال تعالى: (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) (الزخرف: ٤)، وآية أخرى عبَّرت عنها باللوح المحفوظ، قال تعالى: (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) (البروج: ٢١ و٢٢)، وآية ثالثة عبَّرت عنها بالكتاب المكنون، قال تعالى: (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ) (الواقعة: ٧٧ و٧٨)، فهذه كلّها عبارة عن الوجود الإجمالي للقرآن قبل نزوله إلى الوجود التفصيلي على قلب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.
وعندما كان القرآن في اُمّ الكتاب قبل أن ينزَّل مفصَّلاً كان مجموعة مبادئ، ولم يكن آيات مفصَّلة تتحدَّث عن الميراث أو السماء أو الآخرة أو الفلك، بل كان مجموعة من المبادئ والقواعد، ثمّ تحوَّل القرآن إلى سور وآيات ومعاني ومضامين مفصَّلة، ونزل على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كذلك، قال تعالى: (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً) (الإسراء: ١٠٦).
إذن، اتَّضحت لنا عملية التأويل، وهي إرجاع الآيات القرآنية إلى مبادئها الموجودة في اللوح المحفوظ، وفي الكتاب المكنون، وفي اُمّ الكتاب، وهذا يعني أنَّ أيّ آية مشكلة، مبهمة، متشابهة، فمن أجل تأويلها لا بدَّ لنا من إرجاعها إلى مبادئ الكتاب في اللوح المحفوظ.
لذلك عملية التأويل غير متيسّرة وتختصّ بفئة معيَّنة وهي الفئة المطَّلعة على الوجود الإجمالي للقرآن في اللوح المحفوظ وفي الكتاب المكنون وفي اُمّ الكتاب، ولذلك القرآن ذكر لنا عدّة عبارات، مثلاً: قال تعالى: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) (فاطر: ٣٢)، أي لم نعطِ تأويله لكلّ أحد، وقال في آية أخرى: (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) (آل عمران: ٧)، وقال في آية ثالثة: (بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) (العنكبوت: ٤٩).
فمن هي هذه الفئة التي وصفتها الآيات بـ (أُوتُوا الْعِلْمَ)، و(الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ)، و(الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا)؟ هناك آية توضّح لنا ذلك وتقول: (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ) (الواقعة: ٧٧ _ ٧٩)، ومعنى (لا يَمَسُّهُ) لا ينال ذلك الكتاب المكنون، وبما أنَّ الضمير يعود إلى أقرب الموارد، فالمراد أنَّه لا يمسّ الكتاب المكنون، والمسّ ليس بمعنى اللمس، يقول القرآن الكريم: (أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ) (ص: ٤١)، و(مَسَّنِيَ) بمعنى نالني، فلا ينال الكتاب المكنون إلاَّ المطهَّرون، ومن هم المطهَّرون؟
إنَّ القرآن يفسّر بعضه بعضاً، قال تعالى: (إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (الأحزاب: ٣٣)، إذن الفئة القادرة على تأويل القرآن وتفسيره هم أهل البيت عليهم السلام الذين طهَّرهم الله طهارة عملية وعلمية.
والطهارة العملية بمعنى أنَّهم لا يرتكبون ذنباً ولا خطأ، والطهارة العلمية بمعنى ليس في علومهم علم أرضي، بل كلّ علومهم لدنّية من السماء لم تدنس بالعلوم الأرضية، ولأجل هذه الطهارة العلمية والعملية ملكوا الأهلية لتأويل القرآن الكريم.
ولذلك إذا لم نرجع لأهل البيت عليهم السلام العارفين بالتأويل نجد أنَّ بعض الآيات القرآنية لا يستطيع أحد تفسيرها، مثلاً: قوله تعالى: (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) (الحشر: ٢١)، فهل معناها بأن الجبل يتصدَّع إذا نزل عليه القرآن، إنَّ هذه تحتاج إلى تأويل يرجع فيه إلى أهل البيت عليهم السلام.
ومثلاً: قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأْرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) (الرعد: ٤١)، كيف تنقص الأرض!؟ وهل يقول علماء الفلك بأنَّ الأرض في حركتها تنقص!؟ نعم إنَّ عوامل التعرية التي تحفُّ بالأرض تنقص من قشرتها، ولكن الأرض لا تنقص، فما هو معنى الآية؟ إنَّنا لا نستطيع تأويل الآية لولا الرجوع لأهل التأويل وهم أهل بيت النبوّة عليهم السلام.
وما معنى قوله تعالى: (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً) (النحل: ٨٩)؟ مع أنَّ كثيراً من الأشياء غير موجودة بالقرآن، فما هو معنى (تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ)؟
إذن هذا النوع من الآيات لا يستطيع أحد أن يصل إلى معناها وتأويلها إلاَّ بالرجوع إلى الثقل الذي أودعه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مع القرآن، فقال: (إنّي قد تركت فيكم أمرين لن تضلّوا بعدي ما إن تمسَّكتم بهما: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فإنَّ اللطيف الخبير قد عهد إليَّ أنَّهما لن يفترقا حتَّى يردا عليَّ الحوض...)(4)، وآخرهم المهدي المنتظر قائم أهل بيت محمّد صلى الله عليه وآله وسلم.
ولذلك ورد في الرواية عن الإمام الباقر عليه السلام: (وإنَّما سُمّي المهدي مهدياً لأنَّه يهدي إلى أمر خفيّ)(5)، بمعنى أنَّه على يده يظهر تأويل القرآن، وفي رواية أخرى في تفسير قوله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ) (هود: ١١٠)، قال عليه السلام: (اختلفوا كما اختلفت هذه الأمّة في الكتاب وسيختلفون في الكتاب الذي مع القائم الذي يأتيهم به حتَّى ينكره ناس كثير فيقدمهم فيضرب أعناقهم)(6).
المحور الثاني: إرادة الله
لا يوجد شيء في الكون إلاَّ وهو خاضع لإرادة الله، قال تعالى: (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الأْرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالأْرْضَ) (البقرة: ٢٥٥).
وإرادة الله في القرآن تطلق على معانٍ ثلاثة:
المعنى الأوّل: إفاضة الوجود:
قال تعالى: (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (يس: ٨٢)، الإرادة هنا بمعنى إفاضة الوجود. وفي بعض الأحاديث: (أنَّ إرادته فعله)(7).
المعنى الثاني: حبس الفيض:
قال تعالى: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإْسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ) (الأنعام: ١٢٥)، و(مَنْ يُرِدِ) في الجملة الأولى غير (مَنْ يُرِدْ) في الجملة الثانية، فإنَّ الإرادة في الجملة الأولى: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ) بمعنى إفاضة الوجود، والإرادة في الجملة الثانية: (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ) بمعنى حبس فيض الهداية عنه، فذاك أعطاه فيض الهداية وهذا حبس عنه فيض الهداية، فالإرادة هنا بمعنى حبس الفيض.
المعنى الثالث: إعداد الأسباب:
قال تعالى: (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً) (الإسراء: ١٦)، والإرادة هنا بمعنى إعداد الأسباب، فإذا اجتمعت أسباب الهلاك والدمار أذن الله في حصول المسبَّب ألا وهو العذاب الشامل.
المحور الثالث: فلسفة طول عمر الإمام المهدي عليه السلام
وهنا نسأل سؤالاً هو لبُّ الموضوع، وهو أنَّ طول عمر الإمام المهدي عليه السلام بأي معنى من معاني الإرادة؟ فإنّا لا نتكلَّم عن الغيبة بشكل خاصّ، بل نتحدَّث عن فلسفة طول العمر سواء أكان غائباً أم حاضراً، فهل أنَّ طول عمر الإمام المهدي عليه السلام جاء لعامل أرضي بشري بمعنى أنَّه وقع اتّفاقاً من دون أهداف منشودة أو جاء لتخطيط سماوي هادف؟ وبعبارة أخرى هل أنَّ الإمام ولد في ذلك التاريخ وبقى هذا العمر الطويل يقي نفسه من الأمراض استناداً لأسباب طبيعية محضة لا دخل للتخطيط السماوي فيها، أو أنَّ القضية تخضع للإرادة الإلهية والتخطيط السماوي؟
والأقرب هو الثاني، أي إنَّ الله أراد بتخطيط سماوي ولأجل أهداف معيَّنة أن يعيش الإمام هذا العمر الطويل، فإرادة الله هنا بالمعنى الثالث أي إعداد الأسباب لبقاء عمره الطويل التي منها وقاية الإمام عليه السلام نفسه من الأمراض لعلمه بأسبابها الطبيعية.
ما هي فلسفة بقاء الإمام عليه السلام هذا العمر الطويل؟ وهل لبقائه هدف أم أنَّه من باب الصدفة؟ ما هو الهدف من بقائه؟
إنَّ بقاء الإمام هذا العمر الطويل يعود لثلاثة وجوه:
الوجه الأوّل: الشهادة الحسّية:
ولتوضيح هذا الوجه نذكر أمرين:
الأمر الأوّل:
هناك فرق في علم القانون بين الشهادة العلمية والشهادة الحسّية، فإذا تحرَّك رجل حركة مريبة فتارة تراه بعينك يرتكب جريمة فهذه شهادة حسّية لأنَّك رأيته بعينك، وتارة لم ترَه بعينك ولكن بقرائن حافّة به استنتجت نتيجة قطعية بأنَّه يرتكب جريمة، وهذا الاستنتاج شهادة علمية، وليست شهادة حسّية، لأنَّك لم ترَه بعينك.
وفي علم القانون لا اعتراف بالشهادة العلمية حتَّى ولو كنت قاطعاً مائة بالمائة، فالمعترف به هو الشهادة الحسّية فقط،
لأنَّها هي الشهادة القاطعة للعذر والاحتجاج.
لذلك نرى الإنسان حتَّى في يوم القيامة يحاول الهروب، إذ يؤتى المذنب صحيفته فيرى كتابه، ويقال له: هذا عملك لكنَّه لا يقبل، قال تعالى: (وَكانَ الإْنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً) (الكهف: ٥٤)، ويقول القرآن الكريم: (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها) (النحل: ١١١)، ومع أنَّ الملائكة تشهد، وكتاب عمله يشهد، مع ذلك يجادل الإنسان، فأيّ شيء يفحم الإنسان في يوم القيامة ويسكته؟ الجواب هو الشهادة الحسّية، قال تعالى: (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (يس: ٦٥)، وقال تعالى: (وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) (فصّلت: ٢١)، فإذا قامت الشهادة الحسّية من الجوارح حينئذٍ يصمت الإنسان ويفحم ويسلّم بالأمر. إذن فالشهادة الحسّية هي ذات القيمة القانونية.
الأمر الثاني:
وضع الله في كلّ زمان شاهداً على المجتمع يشهد على أعماله ومظالمه شهادة حسّية، مثلاً: عيسى بن مريم عليه السلام، يقول القرآن الكريم عنه: (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ)، شهيداً على أعمالهم ومظالمهم، (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) (المائدة: ١١٧). ويقول القرآن في حقّ النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم: (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (البقرة: ١٤٣)، فكان الرسول في حياته يشهد على الأمّة شهادة حسّية وبعد وفاته يشهد عليهم شهادة علمية.
وكلّ زمن له إمام يشهد عليه، يقول القرآن الكريم: (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) (الإسراء: ٧١)، يؤتى بإمامهم لكي يشهد عليهم. هذا هو إمامكم الذي كان شاهداً حسّياً على أعمالكم ومظالمكم.
إذن لكلّ جيل ولكلّ زمن حجّة وإمام يشهد على أعمالهم شهادة حسّية، من أجل ذلك ولد الإمام المنتظر عليه السلام في موعده وبقي إلى أن يأذن له الله تعالى له بالظهور ليسجّل الشهادة الحسّية على جميع الجرائم والمظالم الذي ارتكبت في حقّ الأمّة الإسلاميّة منذ يوم وفاة أبيه الإمام العسكري عليه السلام إلى يوم ظهوره، وهو أحد الشهود الحسّيين الذين يشهدون بهذه المظالم.
ولذلك ورد في الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام في تفسير قوله تعالى: (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) (الدخان: ٤)، قال عليه السلام: (تلك ليلة القدر يكتب فيها وفد الحاجّ وما يكون فيها من طاعة أو معصية أو موت أو حياة ويحدث الله في الليل والنهار وما يشاء ثمّ يلقيه إلى صاحب الأرض)، قال الحرث بن المغيرة البصري، قلت: ومن صاحب الأرض؟ قال: (صاحبكم)(8)، كلّ ذلك تلقى إلى النبيّ ثمّ إلى الأئمّة حتَّى تنتهي إلى صاحب الزمان.
وهذا المعنى هو الذي نقرأه في دعاء ليلة النصف من شعبان: (اللّهُمَّ بِحَقَّ لَيْلَتِنا وَمَوْلُودِها... سَيْفُ الله الَّذِي لا يَنْبُو وَنُورُهُ الَّذِي لا يَخْبُو وَذُو الحِلْمِ الَّذِي لا يَصْبُو مَدارُ الدَّهْر وَنَوامِيسُ العَصْر وَوُلاةُ الأمْر وَالمُنَزَّلُ عَلَيْهِمْ مَا يَتَنَزَّلُ فِي لَيْلَةَ القَدْرِ)(9).
الوجه الثاني: التكامل اليقيني في المقام الروحي:
تحدَّث الشهيد السعيد المفكّر الكبير الإمام السيّد محمّد باقر الصدر قدس سره في كتابه (بحث حول المهدي عليه السلام) عن بقاء الإمام هذا العمر الطويل وذكر عبارة أصبحت مثاراً للجدل ومضمونها أنَّ السرَّ في بقاء الإمام العمر الطويل أنَّ ضخامة الدور يقتضي الضخامة في الكفاءة، فأبقى الله الإمام هذا العمر الطويل لكي تكون معاصرته للحضارات المختلفة والدول المتباينة رصيداً نفسياً له يعدّه ويؤهّله للقيام بدوره وهو إقامة الدولة العادلة على الأرض كلّها، وهذا المطلب أصبح مثاراً للتأمّل، لأنَّ الإمام منذ ولادته إمام يمتلك الطاقات والمواهب التي تؤهّله للقيام بدوره، فجاهزيّته للقيام بدوره لا تحتاج إلى أن يعاصر الحضارات المختلفة والدول المتباينة حتَّى يكتسب منها رصيداً يؤهّله إلى القيام بدوره، إذن ما معنى كلامه قدس سره؟
الجواب: من المحتمل جدَّاً أن يكون مقصوده توجيه بقاء الإمام عليه السلام العمر الطويل بالنسبة لمن لا يؤمن بالإمامة والأهلية الغيبية لشخصية الإمام عليه السلام كما هو ظاهر بعض عباراته، لذلك علَّل طول البقاء بكونه عاملاً مهمّاً في اكتساب الرصيد النفسي الذي يؤهّل الإمام عليه السلام للقيام بدوره القيادي.
كما يمكن لنا أن نوجّه كلامه قدس سره بالتكامل اليقيني في المقام الروحي، ومحصَّل الفكرة ما ذكره بعض الشعراء في الإمام علي عليه السلام:
قد حباه بكلّ فضل عظيم * * * وبمقدار ما حباه ابتلاه
فإنَّ مضمونه أنَّ هناك تعادلاً بين النعم والمواهب وبين المحن والابتلاء، فما يعطيه عز وجل من النعم والمقامات قد يكون جزاءاً لما امتحن به عبده من البلاء، وما يبتلي به الله المعصومين عليهم السلام قد يكون عوضاً وبدلاً عمَّا أفاض عليهم من النعم، فبمقدار ما اُعطي أمير المؤمنين عليه السلام من المقامات امتحن بمثلها من الابتلائات ليكون هذا بهذا، وكذلك الأمر بالنسبة للإمام الحجّة عليه السلام فإنَّه إنَّما اُعطي هذا العمر الطويل ليكون ابتلاءاً له بمقدار ما سيفاض عليه من المقامات عند خروجه، وبيان ذلك:
ما معنى التكامل اليقيني في المقام الروحي؟
هنا أمران:
الأمر الأوّل:
عند الرجوع لتاريخ الأنبياء نجد أنَّ جميعهم قد مرّوا بفترات امتحان وابتلاء، مثلاً إبراهيم عليه السلام، قال تعالى عنه: (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) (البقرة: ١٢٤)، وقال تعالى في حقّ الأئمّة من بني إسرائيل: (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا) (السجدة: ٢٤)، أي لم نعطهم الإمامة حتَّى تجاوزوا الامتحان بالصبر، وقال تعالى في حقّ يوسف عليه السلام: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) (يوسف: ٢٢)، وكذلك قال تعالى في حقّ موسى بن عمران عليه السلام ما يشير لمسألة الامتحان، وكان ذلك الامتحان عنصراً ضرورياً لبلوغهم أعلى مقام يقيني من المقامات الروحية، حيث يتدرَّج النبيّ من درجة علم اليقين إلى درجة عين اليقين، إلى درجة حقّ اليقين بحيث يتكامل في المقامات الروحية تكاملاً يقينياً إلى أن يصبح مؤهّلاً لدرجة الإمامة، قال تعالى: (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) (البقرة: ١٢٤).
هل النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام يخضعون للتكامل أيضاً؟ بمعنى أنَّهم هل يسيرون مسار التكامل في المقامات الروحية؟
الجواب: إنَّ الأئمّة عليهم السلام أئمّة منذ ولادتهم ولديهم الجاهزية التامّة للقيام بأيّ دور يراد منهم ولا حاجة لهم للبقاء طويلاً لأجل اكتساب خبرة أو رصيد نفسي أو جاهزية للإمامة، لكنَّهم مع ذلك يتكاملون، على مستوى العلم وعلى مستوى المقام الروحي.
أمَّا على مستوى العلم، فنرجع إلى الجزء السادس والعشرين من كتاب (بحار الأنوار)(10)، ذكر هناك باباً تحت عنوان: (أنَّهم عليهم السلام يزادون ولولا ذلك لنفد ما عندهم)، يوجد في هذا الباب رواية قطعية السند قد تعدَّدت طرقها ورواتها، عن الإمام الصادق عليه السلام: (إنّا لنزاد في الليل والنهار ولو لم نزد لنفد ما عندنا).
ورواية محمّد بن سليمان الديلمي مولى أبي عبد الله عليه السلام، عن سليمان، قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام، فقلت: جُعلت فداك سمعتك وأنت تقول غير مرَّة: (لولا أنّا نزاد لأنفدنا)، قال: (أمَّا الحلال والحرام فقد والله أنزله الله على نبيّه بكماله ولا يزاد الإمام في حلال وحرام)، قال: فقلت: فما هذه الزيادة؟ فقال: (في سائر الأشياء سوى الحلال والحرام)، أي إنَّ التشريع مكتمل من زمن النبيّ لا زيادة فيه، إنَّما يزاد في المعلومات الأخرى غير التشريعية.
قال: قلت: فتزادون شيئاً يخفى على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال: (لا، إنَّما يخرج الأمر من عند الله فتأتيه(11) به الملك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فيقول: يا محمّد ربّك يأمرك بكذا وكذا، فيقول: انطلق به إلى علي، فيأتي علياً عليه السلام، فيقول: انطلق به إلى الحسن، فيقول: انطلق به إلى الحسين، فلم يزل هكذا ينطلق واحداً بعد واحد حتَّى يخرج إلينا)، قلت: فتزادون شيئاً لا يعلمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقال: (ويحك كيف يجوز أن يعلم الإمام شيئاً لم يعلمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والإمام من قبله؟)(12).
إذن الإمام مع أنَّه منذ ولادته أعلم الناس وفي كلّ لحظة تمرُّ عليه هو أفضل الخلق علماً وعملاً وإلاَّ لم يكن إماماً، إلاَّ أنَّه في نفس الوقت يخضع لتكامل علمي لا في علم التشريع ولا غيره من العلوم الاجتماعية والطبيعية لانكشاف الواقع أمامه، وإنَّما التكامل في علمهم ومعرفتهم بالله عز وجل، فالإمام في إطار تكامل علمي بالله سبحانه في كلّ لحظة وفي كلّ آنٍ، مع أنَّه في كلّ لحظة هو أكمل الناس، ولا تمرُّ لحظة على الإمام وهناك من هو أعلم منه، بل هو في كلّ لحظة أعلم الناس وأكمل الناس، ولو لم يكن أكمل لما جاز أن يكون إماماً لقبح تقديم المفضول على الفاضل.
والنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام يخضعون للتكامل على مستوى المقامات الروحية أيضاً، قال تعالى: (وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ) (هود: ١٢٠)، وقال في آية أخرى: (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ) (الفرقان: ٣٢)، فما معنى تثبيت الفؤاد؟
ليس معناه أنَّ النبيّ ينتقل من الشكّ إلى اليقين أو من القلق إلى الاطمئنان، أو كانت المعلومة مشوّشة ثمّ تصبح واضحة.
بل معنى تثبيت الفؤاد هو التكامل في المقام الروحي بحيث ينتقل من مقام روحي إلى مقام روحي آخر في كلّ لحظة وفي كلّ آنٍ، وكذلك بالنسبة لأهل البيت عليهم السلام.
مثلاً: بقاء الإمام علي عليه السلام مظلوماً في داره خمساً وعشرين سنة امتحان وابتلاء بهدف تكامل في مقامه الروحي الذي هو سبب مقاماته الأخروية العالية.
كما أنَّ تعرّض الإمام الحسن عليه السلام لهذه الهجمة الشرسة ابتلاء للتكامل في مقامه الروحي.
كما أنَّ تعرّض الإمام الحسين عليه السلام لهذه المجزرة البشعة ابتلاء وتكامل في المقام الروحي.
الأمر الثاني:
إنَّ التكامل في المقام الروحي للأئمّة الطاهرين عليهم السلام ليس دخيلاً في إمامتهم، فهم أئمّة منذ ولادتهم كما ورد في روايات عالم الأنوار(13)، وكما ورد في الزيارة الجامعة: (خَلَقَكُمُ اللَّهُ أنْوَاراً فَجَعَلَكُمْ بِعَرْشِهِ مُحْدِقِينَ)(14). ومن كان نوراً قبل خلق الوجود كيف تكون إمامته محتاجة إلى التكامل في المقام الروحي؟
وكما أنَّه ليس دخيلاً في إمامتهم، فإنَّه ليس دخيلاً في جاهزيتهم وصلاحيتهم للقيام بأدوارهم كدور المهدي عليه السلام.
فلماذا التكامل في المقام الروحي؟
إنَّ الهدف من جعل الحجج عليهم السلام في إطار التكامل الروحي تفضيلهم على سائر الخلق، وإعداد المقامات الأخروية لهم، كما أنَّ الهدف من ابتلائهم بمختلف المحن والنوائب المعدّة للتكامل الروحي أن تكون عوضاً عمَّا وهب لهم من المقامات الملكوتية الدنيوية، مثلاً نرى في كتاب بحار الأنوار روايات متعدّدة تقول: (إنَّ الله تعالى عوَّض الحسين عليه السلام من قتله أن جعل الإمامة في ذرّيته، والشفاء في تربته، وإجابة الدعاء عند قبره)(15).
يقول كثير من علمائنا: إنَّ الحسن أفضل من الحسين، لأنَّ الحسين كان مأموماً للحسن، ومع ذلك فإنَّ الله جعل الإمامة في ذرّية الحسين، لأنَّه مرَّ بامتحان عسير لم يمرّ به إمام آخر، وهو تعرّضه لهذه المجزرة العظيمة، وهذا الامتحان الذي تعرَّض له كما كان تكاملاً في مقامه الروحي، فإنَّه عوَّض عنه بأن جُعلت الإمامة في ذرّيته و الشفاء في تربته والإجابة عند قبره.
إذن فمن المحتمل أن يكون مقصود السيّد الشهيد الصدر قدس سره أنَّ الإمام المنتظر اُعطي هذا العمر الطويل امتحاناً وابتلاءً له، وبذلك يكون طريقاً من طرق التكامل الروحي وعوضاً وبدلاً مكافئاً لما اُعطي ووُهب من المقامات الشرفية آخر الزمان التي لم تُعط لحجّة من الحجج قبله. وبعبارة أخرى إنَّ الإمام المهدي عليه السلام نتيجة طول عمره يتحمَّل آلاماً ثلاثة:
١ _ ألم الغيبة: وهي تعني عدم القدرة على نشر وتطبيق العلوم والمعارف كما يريده عليه السلام، فإنَّ ألم العالم أن لا يقدر على نشر علمه ومعارفه، لذلك كان جلوس أمير المؤمنين خمسة وعشرين سنة في داره أكبر ألم له، لأنَّه منع عن نشر معالمه ومعارفه وتطبيقها.
٢ _ ألم الجرائم: التي ترتكب في حقّ الأمّة الإسلاميّة التي يشاهدها الإمام بعينه يومياً، ويتحمَّل غصصها يوماً بعد يوم.
٣ _ ألم المعاصي: التي يرتكبها بعض شيعته فيراهم بعينه فيتألَّم لأجلهم.
وهذه الآلام امتحان للإمام، ولا يكون الامتحان جزافاً ومن دون سبب، لذلك يمكن أن يكون بقاء الإمام هذا العمر الطويل متحمّلاً لهذه الآلام الشديدة له المساوقة للتكامل في المقام الروحي عوضاً عمَّا أنعم الله عليه بأن جعل الدولة الخاتمة على يده، وأن تكون بهجة الدين والمؤمنين تحت لوائه عليه السلام.
إذن البقاء هذا العمر الطويل ليس دخيلاً في الإمامة، وليس دخيلاً في اللياقة والجاهزية للدور، ولكنَّه امتحان عوّض عليه وجوزي عليه بهذا الدور العظيم وبهذه الدولة الخاتمة.
الوجه الثالث: حفظ الشريعة:
إنَّ الله تبارك وتعالى يقول: (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) (الحديد: ٢٥)، ومفادها الغرض والهدف من نزول الشريعة هو انتشار العدالة والقسط، وانتشار العدالة والقسط يتوقَّف على حفظ الشريعة.
فكما أنَّ حكمة الله شاءت أن ينصب لنا أنبياء وأئمّة، فقد شاءت حكمته أن يحفظ الشريعة بهؤلاء الأنبياء والأئمّة، فوظيفة كلّ إمام حفظ الشريعة في زمانه، والحفظ له ثلاث درجات:
١ _ حفظ تشريعي، عبَّر عنه الله تبارك وتعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (الحجر: ٩)، بمعنى حفظ القرآن عن التحريف بيد الإمام المنتظر عليه السلام.
٢ _ حفظ تعليمي، وهو ما يقوم به الفقهاء في الحوزات العلمية من حفظ تعليمي للشريعة، وترويج علوم الشريعة تحت نظر الإمام أيضاً.
٣ _ حفظ عملي، حيث إنَّ كلّ مجتمع فيه فئة متديّنة تحفظ الشريعة حفظاً عملياً، يقول القرآن الكريم: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالإْنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة: ١١١)، من هؤلاء المؤمنين الذين اشتراهم الله؟ (التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآْمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ) (التوبة: ١١٢)، وهؤلاء هؤلاء هم المسؤولون عن حفظ الشريعة حفظاً عملياً.
فهناك حفظ تشريعي يقوم به الإمام بحفظ القرآن في زمن الغيبة عن أيّ تحريف، وهناك حفظ تعليمي يقوم به الفقهاء في الحوزات العلمية استناداً لمدد الإمام وبركته عليه السلام، وهناك حفظ عملي يقوم به المؤمنون في كلّ مجتمع وبلدة بتسديد وتأييد الإمام المهدي عليه السلام، (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإْيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) (المجادلة: ٢٢)، والروح التي يؤيّد الله بها المؤمنين هي روح المهدي المنتظر عليه السلام.
فهو عليه السلام يقوم في عصر الغيبة بحفظ التشريع وحفظ التعليم وحفظ التطبيق والعمل.
والحفظ للدين هو هدف آبائه وأجداده، وهو مسؤولية آبائه وأجداده، فما قام أمير المؤمنين إلاَّ لأجل حفظ الدين، وما قام الحسين بن علي إلاَّ لأجل حفظ الدين، وقال: (وإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنَّما خرجت لطلب النجاح والصلاح في أمّة جدّي محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر)(16)، وأعطاه الله فتية قام عليهم حفظ الدين منهم القاسم بن الحسن الذي كان عمره أحد عشر سنة لكنَّه كان يفيض شجاعة وبسالة حفظاً لمبادئه ودينه.
من كتاب: الحقيقة المهدوية
تأليف: آية الله السيد منير الخباز
تحقيق: مركز الدراسات التخصصية في الامام المهدي
________________________________
(1) تفسير القمي ١: ٢٣٥ و٢٣٦.
(2) عوالي اللئالي ٤: ١٠٤/ ح ١٥٤؛ تفسير الرازي ٧: ١٩١.
(3) كمال الدين: ٣٣١/ باب ٣٢/ ح ١٦.
(4) الكافي ٢: ٤١٥/ باب أدنى ما يكون به العبد مؤمناً.../ ح ١.
(5) الغيبة للنعماني: ٢٤٣/ باب ١٣/ ح ٢٦.
(6) الكافي ٨ : ٢٨٧/ باب إذا قام القائم عليه السلام ذهبت دولة الباطل/ ح ٤٣٢.
(7) عن صفوان بن يحيى، قال: قلت لأبي الحسن عليه السلام: أخبرني عن الإرادة من الله ومن الخلق، قال: فقال: (الإرادة من الخلق الضمير وما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل وأمَّا من الله فإرادته إحداثه لا غير ذلك لأنَّه لا يروي ولا يهم ولا يتفكَّر، وهذه الصفات منفيّة عنه وهي صفات الخلق، فإرادة الله الفعل، لا غير ذلك، يقول له: كن فيكون، بلا لفظ ولا نطق بلسان ولا همّة ولا تفكير ولا كيف لذلك، كما أنَّه لا كيف له). (الكافي ١: ١٠٩ و١١٠/ باب الإرادة أنَّها من صفات الفعل.../ ح ٣).
(8) بصائر الدرجات: ٢٤١/ باب ما يلقى إلى الأئمّة في ليلة القدر.../ ح ٤.
(9) مصباح المتهجّد: ٨٤٢ و٨٤٣/ الرقم (٩٠٨/٢٣).
(10) راجع: بحار الأنوار ٢٦: ٨٦ - ٩٧.
(11) هكذا في المصدر، وفي الاختصاص وبحار الأنوار: (فيأتي به الملك).
(12) بصائر الدرجات: ٤١٣/ باب ما تزاد الأئمّة.../ ح ٥.
(13) راجع: بصائر الدرجات: ٩٩ - ١٠١.
(14) المزار لابن المشهدي: ٥٢٩.
(15) بحار الأنوار ٤٤: ٢٢١/ باب ٢٩/ ح ١، عن أمالي الطوسي: ٣١٧/ ح (٦٤٤/٩١).
(16) الفتوح ٥: ٢١؛ بحار الأنوار ٤٤: ٣٢٩.
اترك تعليق