حامل اللواء

حامل اللواء

لقد عقد الإمام الحسين عليه ‌السلام لأخيه أبي الفضل العبّاس عليه‌السلام لواءً ودفعه إليه منذ خروجه من الحجاز متوجّهاً إلى العراق، وكان اللواء الأعظم يوم عاشوراء بيده عليه‌السلام؛ ولذلك كلّما استأذن للبراز قال له الإمام الحسين عليه‌السلام: ((أنت صاحب لوائي، وإذا مضيت تفرّق عسكري)).

وقال بعض الشعراء عن لسان حال الإمام الحسين عليه‌السلام حين وقف على أخيه العبّاس عليه‌السلام:

لمَنْ اللوا أعطي ومَنْ هو جامعٌ

                   شملي وفي ضنكِ الزحامِ يقيني

أمـنازلُ الأقرانِ حاملُ رايتي

                   ورواقُ أخبيتي وبابُ شؤوني

لـكَ موقفٌ بالطفِّ أنسى أهلهُ

                   حـربُ العراقِ بملتقى صفّينِ

 

وجاء في المناقب لابن شهر آشوب ما مضمونه: كان العبّاس السقّاء قمر بني هاشم صاحب لواء الإمام الحسين عليه‌السلام وأكبر إخوته.

 

من مواصفات حملة الألوية

ومن المعلوم أنّ اللواء لا يعقد إلاّ لمَنْ عُرف بالشجاعة والشهامة، والنبل والشرف؛ لأنّ حامل اللواء هو مَنْ يريد ضمّ كلّ أفراد الجيش تحت لوائه، ودرجهم في سلكه وظلاله، فلا بدّ أن يكون ممّنْ يقبله الجميع، ويرتضيه الكل من حيث الشرف والشجاعة حتّى ينتظموا في سلكه وينضووا تحت لواءه.

هذا مع أنّ اللواء في نفسه مفخرة كبيرة، ومكرمة عظيمة، ووسام شريف، وله منزلة في نفوس الناس ولدى جميع الأمم والشعوب، وعلى مرّ الأزمنة والعصور، كما إنّ لحامل اللواء مكانة راقية، ودرجة رفيعة، ومرتبة سامية، لا من حيث شجاعة حامل اللواء وشهامته فحسب، بل من حيث انتظام الجيش واستماتته مقابل العدو.

فإنّه ما دام اللواء قائماً والعلم مرفوعاً يكون الجيش منتظماً وشمله ملتئماً، وأفراده مقاومين ورجاله مستميتين؛ حيث إنّ اهتزاز اللواء ورفرفته بيد حامله يعطي الأمل للمقاتلين، ويبعث في نفوسهم القوّة والشجاعة، ويرفع فيهم المعنويات القتالية العالية، ويقرّبهم من الغلبة والنصر، بينما إذا سقط اللواء انكسر الجيش وانهزم، وتبدّد العسكر وتفرق، وآل أمرهم إلى الاندحار والموت، والأسر والسّبي.

ومن أجل ذلك كله يأتي انتخاب حملة اللواء، وانتخاب أصحاب الألوية من وسط الشجعان والأعيان، ومن خلال ذوي البيوتات والشرف، ومن بين المعروفين بالنبل والكرم، والدين والتقوى. كما إنّ ذلك كله كان هو الذي يدعو حامل اللواء إلى أن يبذل ما في وسعه للحفاظ على سلامة اللواء، والاستماتة من أجل بقاء اللواء مرفوعاً عالياً، خفّاقاً منشوراً على رؤوس أفراد الجيش ورجاله.

ومن أجل ذلك كلّه أيضاً نرى أنّ حملة اللواء وأصحاب الألوية في الإسلام كانوا غالباً ما يقون اللواء بأنفسهم، فلا يدعون اللواء يسقط من أيديهم ما دام في أجسادهم حياة، وفي أبدانهم رمق، وفي قلوبهم ضربان، وفي شرايينهم دم ينزف، فإذا قطعت يمناهم أخذوا اللواء بيسارهم، وإذا قطعت يسراهم أخذوا اللواء بركبتيهم، وهكذا كانوا يحمون اللواء بأنفسهم عن السقوط حتّى يسلّموه إلى كفؤ آخر غيرهم، كما اشتهر ذلك في حقّ جعفر بن أبي طالب في حرب مؤتة.

مع أصحاب الرايات

ولقد جاء في تعليمات الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام فيما يخصّ آداب الحرب والقتال - كما في نهج البلاغة ـ، حيث يقول عليه‌السلام: ((... ورايتكم فلا تميلوها ولا تخلوها، ولا تجعلوها إلاّ بأيدي شجعانكم والمانعين الذمار منكم؛ فإنّ الصابرين على نزول الحقائق هم الذين يحفّون براياتهم، ويكتنفونها حفافَيها، ووراءها وأمامها؛ لا يتأخّرون عنها فيسلموها، ولا يتقدّمون عنها فيفردوها...)).

وما كان الإمام الحسين عليه‌السلام ليتخطّى تعليمات أبيه الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام فيما يخصّ حامل اللواء؛ ولذلك اختار لحمل لوائه أخاه الأكبر أبا الفضل العبّاس عليه‌السلام، وكان كما اختاره الإمام الحسين عليه‌السلام كفؤاً بحمل اللواء، وأهلاً للقيام بحقّه.

حيث إنّه عليه‌السلام وحفاظاً على سلامة اللواء وبقائه مرفرفاً خفّاقاً بقي في آخر مَنْ بقي مع الإمام الحسين عليه‌السلام، مع شدّة ضيق صدره وكثرة أسفه وهمّه من فَقْد إخوته وأبناء إخوته، وعظيم اشتياقه للقاء العدو ومنازلتهم، وكبير تلهّفه على الانتقام منهم ومقاتلتهم؛ فإنّه عليه‌السلام مع كلّ ذلك لم يشفِ قلبه من الأعداء بالبراز إليهم امتثالاً لأمر أخيه الإمام الحسين عليه‌السلام الذي كان يقول له كلّما استأذنه للبراز: ((أنت صاحب لوائي، وإذا مضيت تفرّق عسكري)).

كما إنّه لمّا استسقى لأطفال أخيه الإمام الحسين عليه‌السلام الذين أضرّ بهم العطش، وذلك في المرّة الأخيرة التي انجرّت إلى شهادته، لم يسمح لنفسه ما دام له رمق بترك اللواء وسقوطه، فإنّه لمّا قطعوا يديه يمينه وشماله احتفظ باللواء من السقوط بساعديه وعضديه، وألصقه بهما إلى صدره، وإنّما سقط اللواء بسقوطه عليه‌السلام من على جواده، وذلك بعد أن رشقوه بالنبل كالمطر، وخاصةً عندما خسفوا هامته بعمدٍ من حديد، فهوى إلى الأرض مع اللواء منادياً: يا أخي، أدرك أخاك.

أوّل مَنْ عقد له اللواء

نعم، لقد كان أبو الفضل العبّاس عليه‌السلام حامل لواء أخيه الإمام الحسين عليه‌السلام، كما كان أبوه الإمام أمير المؤمنين عليه‌ السلام حامل لواء أخيه وابن عمّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله، فلقد كان لواء الحقّ بيد أنبياء الله وأوليائه؛ حيث كان أوّل مَنْ عقد اللواء وحمله هو شيث بن آدم عليه‌السلام على ما قيل، ثمّ انتقل إلى خليل الرحمن النبي إبراهيم عليه‌السلام، ومنه إلى ابنه إسماعيل الذبيح عليه‌السلام، ومنه إلى ابنه نابت بن إسماعيل عليه‌السلام، ومنه إلى أبنائه وأحفاده أجداد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وآبائه، حتّى انتقل إلى قصي بن كلاب، ومنه إلى عبد مناف.

ثمّ ورثه منه ابنه هاشم، ثمّ ابنه عبد المطلب، ثمّ ابنه أبو طالب، ثمّ صار اللواء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فدفعها إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام فأصبح هو حامل لواء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله، وأصبح من بعده ابنه العبّاس عليه‌السلام حامل لواء الإمام الحسين عليه‌السلام وعُرف بذلك، أعني عُرف بأنّه عليه‌السلام حامل اللواء.

اللواء مع الغنائم في الشام

ولقد جاء في التاريخ: إنّ جيش بني اُميّة بقيادة ابن سعد لمّا أغاروا على مخيّم الإمام الحسين عليه‌السلام بعد الظهر من يوم عاشوراء ونهبوا ما فيه، وكذلك جمعوا ما في ساحة الحرب من غنائم وبعثوا بها إلى الشام كان في جملتها اللواء الذي كان يحمله العبّاس عليه‌السلام، فلمّا وقع عين يزيد عليه وأجال بصره فيه تعجّب هو ومَنْ كان معه، حيث رأوا أنّ هذا اللواء لم يسلم منه مكان إلاّ محل قبضته وموضع اليد منه، فسأل يزيد متعجّباً وهو يقول: مَنْ كان يحمل هذا اللواء في كربلاء؟

قالوا: العبّاس بن علي عليه‌السلام.

فلمّا سمع يزيد بأن حامله كان هو العبّاس عليه‌السلام قام من مكانه وجلس ثلاث مرّات؛ تعجّباً من شجاعة العبّاس عليه‌السلام، واندهاشاً من شهامته وبطولته، ثمّ التفت إلى مَنْ حضره وقال: انظروا إلى هذا العلم، فإنّه لم يسلم من الطعن والضرب إلاّ مقبض اليد التي تحمله! إشارة إلى أنّ سلامة المقبض دليل على شجاعة حامله وشهامته، حيث كان يتلقّى كلّ الضربات والرشقات بصبر وصمود دون أن يترك اللواء لينتكس ويدعه ليسقط.

ثمّ قال: أبَيت اللعن يا عبّاس! هكذا يكون وفاء الأخ لأخيه. وهذا اعتراف من العدو في حقّ العبّاس عليه‌السلام، والفضل ما شهدت به الأعداء.

الألوية في الشعائر الحسينيّة

ثمّ إنّ هذا اللواء، أعني لواء الحقّ الذي كان بيد الأنبياء والأولياء، وحمله أبو الفضل العبّاس عليه‌السلام في كربلاء، وهو اليوم في يد إمام العصر وبقية الله في أرضه الإمام المهدي الحجّة بن الحسن (عجّل الله تعالى فرجه)، قد أُرمز إليه بالألوية والأعلام التي تُرفع في الشعائر الحسينيّة، وتُنصب على الحسينيات، وتُقام بباب المجالس والمحافل الدينية، ويُطاف بها في المواكب والمآتم الحسينيّة؛ إحياءً لسنن الحقّ، وإبقاءً على معالم الإسلام ولوائه عالياً خفّاقاً على رؤوس المسلمين، حتّى يأتي يوم تتوحّد فيها الأعلام والألوية، وتذاب معها القوميّات والتعصّبات الجاهلية، ولا يبقى لواء إلاّ لواء الإسلام، ولا شعب غير شعوب المسلمين.

بل يدخلون الناس كلّهم في دين الله أفواجاً برغبة وطواعية؛ لِما يرونه في الإسلام من منطق وعدل، واحترام وسواسية، فإلى ذلك اليوم المأمول والأمل المنشود.

وهنا لا بأس بذكر هذه القضية التاريخية، فإنّه قد جاء في التاريخ: إنّ الفاطميين كانوا يهتمّون اهتماماً كبيراً بالألوية والرايات والدرق، حتّى أنهم خصّصوا مكاناً في مصر يُقال له: خزانة البنود، اختزنوا فيها الأعلام والرايات والأسلحة، والسروج، واللجم المذهّبة والمفضضة، وكانوا ينفقون عليها في كلّ سنة ثمانين ألف دينار، ولمّا احترق ذلك المكان بما فيه قدّرت الخسارة الناجمة عن هذا الحريق بثمانية ملايين دينار، وكان في جملة الألوية والرايات لواء يسمّونه (لواء الحمد).

 

 

 

من كتاب الخصائص العباسية

الشيخ محمّد إبراهيم الكلباسي النجفي (قدس سره)