شبلٌ يقطع قماطه.. ليذكر أباه بكربلاء

لقد امتاز أبو الفضل العبّاس عليه‌السلام في ولادته على سائر الناس بما يمتاز به العظماء من أولياء الله في ولادتهم، حيث كانت ولادته محفوفة بالإرهاصات، ومشحونة بالقرائن والمقدّمات الدالّة على عظم منزلة المولود عند الله تعالى، ومقامه الشامخ لديه.

فهذا الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام قبل أن يولد له العبّاس عليه ‌السلام، بل وقبل أن يتزوّج باُمّه اُمّ البنين ينبئ عن ولادته ويخبر عن مواصفاته، ويشير إلى ما يتحلّى به من قوّة الإيمان، وطهارة النفس، وشجاعة القلب، ورحابة الصدر، ومكارم الأخلاق، وأنه سوف يعضد أخاه الإمام الحسين عليه‌السلام في مهمّته، ويفديه بنفسه ويضحي بما لديه من أجله، ويستشهد في كربلاء بين يديه.

وصرّح عليه ‌السلام بذلك كلّه عندما أفضى بأمره إلى أخيه عقيل بن أبي طالب عليه‌السلام وهو يستشيره بقضية زواجه، بعد استشهاد سيّدة نساء العالمين فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌ وآله، حيث قال له: ((انظر لي امرأة قد ولدتها الفحولة من العرب لأتزوّجها؛ فتلد لي ولداً يكون شجاعاً وعضداً ينصر ولدي الحسين، ويواسيه في طفّ كربلاء)).

 

هذا مضافاً إلى أنّ أنباء ما سيأتي ويتحقق في المستقبل من واقعة عاشوراء، وأخبار طفّ كربلاء، والتي من أظهرها وأبرزها وفاء العبّاس عليه‌السلام ومواساته لأخيه الإمام الحسين عليه‌السلام، وحراسته لخيام النساء ومَنْ فيها من بنات الرسالة وودائع النبوّة، وسقايته لأطفال أخيه، وتقديم يديه من أجل إيصال الماء إليهم، وتعويض الله تعالى له عنهما بجناحين يطير بهما في الجنّة، كلّ ذلك ممّا نزل به جبرائيل عن الله تبارك وتعالى على قلب رسول الله صلى‌الله‌عليه ‌وآله، وأخبر بها علياً عليه‌السلام وبقية أهل بيته صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وذلك قبل أن يولد أبو الفضل العبّاس عليه‌السلام. وعليه فهذه نبذة من مميزات ولادة العبّاس عليه‌السلام، والمقدّمات التي احتفت بولادته من جهة أبيه الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام.

وأمّا المميزات التي امتازت بها ولادة أبي الفضل العبّاس عليه‌السلام من جهة اُمّ البنين عليها‌ا لسلام حيث إنّه قبل ولادة اُمّه اُمّ البنين يرى أبوها حزام، وهو جدّ أبي الفضل العبّاس عليه‌السلام لاُمّه، تلك الرؤيا التي تبشّره بولادة اُمّ البنين.

وبعد ولادة اُمّ البنين وترعرعها وبلوغها سنّ الرشد ومرحلة الزواج ترى هي بنفسها تلك الرؤيا المباركة المبشّرة بزواجها من رجل عظيم، والمنبئة عن حصولها على أنجال أربعة: أوّلهم كالقمر المنير، والثلاثة الباقون كالأنجم الزُهر، وذلك كلّه قبل زواجها، بل وحتّى قبل أن يخطبها عقيل من أبيها حزام للإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام. كلّ ذلك وغيره ممّا يدلّ على امتياز أبي الفضل العبّاس عليه‌السلام في ولادته المنبئ عن عظمته، ورفيع مقامه، ومنزلته عند الله تبارك وتعالى، والشهداء السعداء وعباد الله الصالحون لديه (عزّ وجلّ).

بشـرى الولادة

هذا وقد روي أنّ قنبراً مولى الإمام أمير المؤمنين عليه ‌السلام قال: بينما كنّا ذات يوم من الأيام مع الإمام أمير المؤمنين عليه ‌السلام في مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌ وآله بالمدينة وهو يعظنا ويرشدنا ويحذّرنا من النار ويرغّبنا بالجنة، إذا بأعرابي قد أقبل نحو المسجد، فأناخ راحلته على باب المسجد ودخل متّجهاً نحونا، حتّى إذا وصل إلينا سلّم علينا وخصّ أمير المؤمنين عليه‌السلام بالتحية والسّلام، وقبّل يده الكريمة، ووقف بين يديه وكأنه يطلب إليه حاجة، فقال له الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام برأفة وحنان: ((يا أخا العرب، كأنّك جئتنا في حاجة، فما هي حاجتك؟ فإنّها منقضية إن شاء الله تعالى)).

فقال الأعرابي: يا أمير المؤمنين، أنت أعلم بها منّي.

قال قنبر: عندها التفت إليّ الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام وقال: ((يا قنبر، امض إلى المنزل وقل لمولاتك السيّدة زينب ابنة فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله تناولك السّفط الفلاني في موضع كذا وكذا)).

فقلت: سمعاً وطاعة، وحبّاً وكرامة لله تعالى ولسيّدي ومولاي الإمام أمير المؤمنين.

قال قنبر: فقمت مسرعاً ومضيت إلى منزل أمير المؤمنين عليه‌السلام، وطرقت الباب مرّتين، وفي الثالثة جاءت فضة وراء الباب وقالت: مَنْ الطارق؟

أجبتها قائلاً: أنا قنبر مولى الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام، وخادم أهل البيت عليهم‌السلام.

فقالت فضة: أهلاً ومرحباً بك، وما حاجتك يا قنبر؟

فأخبرتها بما قال لي سيّدي ومولاي وما يريده.

فقالت فضة: مكانك حتّى آتيك به. فوقفت بالباب انتظر مجيئها، وإذا بي أسمع جلبة الفرح وصخب السرور يعلو من داخل المنزل، فتعجّبت، وانتظرت حتّى إذا رجعت إليّ فضة وأتتني بالسفط سألتها عن سبب ذلك، فقالت فضة: لقد ولد الساعة للإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام غلام أزهر كأنّه فلقة قمر.

فقلتُ لها، وقد امتلأت أنا الآخر فرحاً وسروراً: وممّن هذا المولود الأغر؟

فقالت فضة: إنّه من اُمّ البنين فاطمة بنت حزام الوحيديّة الكلابيّة، ثمّ أضافت قائلة: وقد أوصتني سيّدتي وسيّدتك السيّدة زينب ابنة فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه ‌وآله أن أقول لك: إذا رجعت إلى مولاي ومولاك الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام فبشّره بولادة هذا المولود الأغر، واسأله عن اسمه وكنيته ولقبه.

فقلت، وأنا لا أمتلك نفسي بهجة وفرحاً: حبّاً وكرامة، وسمعاً وطاعة، ثمّ هنّأتها وودّعتها. وأقبلت بالسفط مع البشارة بالمولود الجديد مسرعاً إلى سيّدي ومولاي الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام، فلمّا سلّمته السفط وقفت بين يديه لأُبشّره بما عندي من خبر الولادة، غير أنّي بقيت أترصّد الفرصة المناسبة لإعلان هذا الخبر وتقديم هذه البشارة السّارة، حتّى إذا فرغ الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام من حاجة الأعرابي وأعطاه ذلك السفط التفت إليّ وقال مبادراً: ((ما وراءك يا قنبر، فإنّي أرى أثر البهجة والسرور طافحاً على أسارير وجهك؟)).

فقلت، وقد رأيت الفرصة مناسبة: نعم يا سيّدي ومولاي، لقد جئتك ببشارة.

فقال عليه‌السلام: ((وما هي تلك البشارة يا قنبر؟ بشّرك الله بالجنّة)).

قلت: لقد وُلد لك يا سيّدي ومولاي غلام أغر.

فقال عليه‌السلام: ((وممّنْ هذا المولود الجديد؟)).

قلت: لقد سألت عن ذلك فضّة عندما أخرجت إليّ السفط، فقالت: إنّه من اُمّ البنين فاطمة بنت حزام الوحيديّة الكلابيّة، كما وأنها قالت لي: بأنّ سيّدتي السيّدة زينب عليها ‌السلام أوصتني أن اُبشّرك بهذا المولود عندما أرجع إليك وأن أسألك عن اسمه وكنيته ولقبه.

فلمّا سمع الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ذلك تهلّل وجهه فرحاً وسروراً وشكرني على هذه البشارة، وقال: ((يا قنبر، إنّ لهذا المولود شأناً كبيراً عند الله ومنزلة عظيمة لديه، وأسماؤه وكناه وألقابه كثيرة، وسأمضي أنا بنفسي إلى المنزل لإنجاز ما سنّه لنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله للمولود عند الولادة، وبعدها من سنن الإسلام، فهيّا بنا إلى ذلك يا قنبر)).

الولادة وسننها ثمّ إنّ الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام قام من مجلسه ذلك وودّع أصحابه ومَنْ كان معه، ثمّ خرج من مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله متّجهاً نحو البيت، فلمّا دخل المنزل سلّم - على عادته ولاستحبابه - على مَنْ كان في المنزل من أهله واُسرته الذين كانوا بانتظار قدومه، وحيّاهم بتحيّة الإسلام ثمّ قال: ((ائتوني بولدي)).

فقوبل عليه ‌السلام بالتحية والبشارة، ثمّ جيء بولده إليه ملفوفاً في خرقة بيضاء ومقمّطاً بها، فأخذه وضمّه إلى صدره، ونثر قبلاته الحارّة على وجهه وخدّيه، ثمّ أذّن في أُذنه اليمنى وأقام في اليسرى، وبعدها أخذ الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام يطيل النظر إليه.

وهنا تمطّى المولود الجديد لاُمّ البنين في قماطه حتّى قطعه، وأخرج كلتا يديه من القماط؛ ممّا أثار بذلك ذكريات الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام التي كانت في ذاكرته ممّا نزل بها جبرائيل في حقّ هذا الوليد الجديد من عند الله تبارك وتعالى على رسول الله صلى‌الله‌عليه وآله، وأخبره بها رسول الله صلى‌الله‌عليه ‌وآله من كيفية شهادته في نصرة الإمام الحسين عليه ‌السلام في طفّ كربلاء.

عندها اغرورقت عينا الإمام أمير المؤمنين عليه ‌السلام بالدموع، وتناثرت قطرات الدمع على خدّيه كالدرر ورطّبت كريمته الشريفة، فنظرت إليه إحدى النسوة وقالت: ما يبكيك يا أبا الحسن ونحن في هذه الساعة من فرح وسرور، وابتهاج وحبور؟!

فالتفت إليها أمير المؤمنين عليه‌السلام وهو يكفكف دموعه بيديه الكريمتين وقال لها: ((لا تلوموني، فإنّي لمّا نظرت إلى هاتين اليدين وتمطّيه في القماط تذكّرت تمطّيه على جواده في كربلاء، وانفصال يديه عن جسمه يوم عاشوراء)). ثمّ أخذ يبكي ويكثر من قوله عليه‌السلام: ((ما لي وليزيد؟)).

 

تاريخ ولادة أبي الفضل العبّاس عليه‌ السلام

هذا، ولا يخفى أنّ ولادة أبي الفضل العبّاس عليه‌السلام - على المشهور وذلك حسب بعض الكتب التاريخية - كانت في المدينة المنورة، وبتاريخ اليوم الرابع من شهر شعبان المعظّم سنة ست وعشرين هجرية (على هاجرها آلاف التحية والسّلام).

وعلى هذا فإنّ أبا الفضل العبّاس عليه ‌السلام قمر بني هاشم تلا في ولادته ولادة أخيه شمس الكونين الإمام أبي عبد الله الحسين من حيث اليوم والشهر بيوم واحد وفي نفس الشهر، ومن حيث السنين والأعوام بثلاث وعشرين سنة وكان - على ذلك - له من العمر حين استشهد أربعة وثلاثون عاماً.

___________________________

كتاب الخصائص العباسية (بتصرف)

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم الكلباسي النجفي