وعي السيد السيستاني التحقيقي

دور الطغاة في قمع حرية التفكير وصناعة المذاهب الاسلامية

لم يعرف التاريخ الإسلامي مشهدًا أكثر التباسًا من لحظةٍ يكون فيها النصّ تابع لاردات السلطات الطاغية والظالمة ، ويكون النص الوحياني الالهي والاستدلال العقلي والتحرر الفكري في قبضة الخوف من الطغاة . 

وعلى وفق هذه المعادلة صيغت واسست المذاهب في دهاليز السياسة أكثر مما صيغت في حلقات العلماء.

وهنا تحوّل المفكر العالم إلى متّهم، والمجتهد واصحاب التقوى والعلم المستلهم من القرآن والعترة إلى مثير للشبهات .. وهنا صعد أصحاب الرواية الموضوعة إلى مقاعد النفوذ والسيطرة على الواقع الفكري . 

وهذه المعادلة هي الواقع الذي عاشته وتعيشه رجالات الاسلام في ظل السلطات الظالمة والطاغية . 

فقد اشار السيد السيستاني دام ظله الى هذه الظاهرة واثرها في صناعة المذاهب ففي كتابه (مباحث رجالية ) بتقرير تلميذه السيد مرتضى المهري في معرض حديثه حول الفضل ابن شاذان واعتبار كتاب العلل حيث قال ما نصه :(ان الاستدلال العقلي والحرية الفكرية كان منبوذين في تلك العهود - اي العهد العباسي- وكان الذي يمارس الاستنباط بموجب الدليل العقلي والذي يبحث عن فلسفة الاحكام مورداً لتهجم اصحاب الحديث الذين كانوا اصحاب الهيمنة الاجتماعية فكانت الدائرة على رواد الفكر الحر وهكذا الايام اقبال وادبار.

ويرجع تاريخ تفوق اصحاب الحديث في المجتمع الاسلامي الى عهد المتوكل حيث رأى حرية التفكير معارضة لإدامة سلطانه فخلق جواً مساعداً للتقيد بالماضي والاعتماد على الحديث مهما كان ليمنع من بروز الافكار الحديثة ومن ذلك نشأت مدرسة احمد بن حنبل لدى العامة. واثرت هذه الموجة من الثقافة المحافظة على الاوساط العلمية لدى الشيعة ايضاً وكانت قم في ذلك العهد مركز اصحاب الحديث ومن هنا نرى في كتب الرجال استنكار بعض علماءهم لطريقة يونس بن عبد الرحمن والفضل بن شاذان حيث كانا من الفقهاء والمجتهدين بل حتى مثل زرارة وهشام بن الحكم. ومن هنا يصح ان يقال ان تهمة القول بالرأي في الفضل هي التي اوجبت على تلميذه ابن قتيبة ان يدافع عنه بدعوى ان هذه العلل من الرواية (المباحث الرجالية ص٥). 

فهذا النص يكشف عن التتبع التاريخي والتشخيص الدقيق للسيد السيستاني دام ظله للمرحلة التي من خلالها استنبط ثلاثة امور : 

الامر الاول : العلة في اتهام اصحاب الائمة عليهم السلام والتشكيك بهم حيث ان كلام السيد السيستاني المتقدم جاء كبيان لسبب سؤال صدر من احد اصحاب الفضل بن شاذن وهو محمد بن قتيبة حيث سأل الفضل عن كتاب العلل حيث قال ابن قتيبة للفضل:( اخبرني عن هذه العلل التي ذكرتها عن الاستنباط والاستخراج وهي من نتاج العقل او مما سمعته ورويته… ) . 

وهنا السيد السيستاني دام ظله يعلق بكلامه المتقدم عن منشأ سؤال محمد بن قتيبة بأن الاستدلال العقلي والتحرر الفكري كانا منبوذين في ذلك الزمان وقد حاربت السلطات العباسية ذلك فقد اشار سماحة السيد الى اثر هذه الظاهرة على رواة الائمة عليهم السلام.  

الامر الثاني : اشار السيد السيستاني الى احد الاسباب المحورية في صناعة بعض المذاهب كاهل الحديث  كان بعد محاربة السلطات للاستدلال العقلي والتحرر الفكري وبسببها نشأت ظاهر اهل الحديث وانتشار مدرسة احمد ابن حنبل . 

الامر الثالث : اشار السيد السيستاني دام ظله الى الاثار التي انتجتها مدرسة اهل الحديث بعد منع السلطات من ممارسة الاجتهاد والاستنباط وذلك من خلال بيانه لكيفية استنكار بعض علمائهم على يونس بن عبد الرحمن والفضل بن شاذان وحتى زرارة ابن اعين وهشام بن الحكم وغيرهم حيث كانا من الفقهاء والمجتهدين . 

فوائد جليلة اخرى

وهناك فوائد جليلة اخرى يمكن استفادها من افادات سماحة السيد السيستاني دام ظله واهمها :

١- إنّ قوّة أصحاب الحديث وبعض المذاهب التي انتشرت كاجراء لمحاربة الاستدلال العقلي والتحرر الفكري في تلك المرحلة لم تكن نتيجة جهود علمية، بل نتاج مناخ قمعيّ خلقته السياسة العباسية . 

٢- ويستفاد أنّ كثيرًا من التهم لم تكن نزيهة، بل كانت أدوات ضبط سياسي لإسكات أهل التفكير كاصحاب الائمة(عشليهم السلام).  

٣- يستفاد ايضا المعرفة الدقيقة للدور الريادي الذي قام به بعض اصحاب الائمة (عليهم السلام) الذين كانوا في موقف المواجهة والاستنكار امام اهل الحديث، واعتباره خطًّا مضادًّا للتفكير وكيف انهم حملوا التراث والمنهج الائمة رغم كل تلك الصعوبات.

وهذا ما التفت اليه السيد السيستاني ـ دام ظله في مباحثه الرجالية والحديثية ـ بوعي تحقيقي دقيق إذ نبّه إلى خطورة التلاعب السلطان بمسارات الفكر وإلى أن بعض الاتجاهات الحديثية صعدت سياسيًا لا علميًا. 

٤- ويستفاد ايضا الى المنهج المتبع في اختيار المذاهب في عهد العباسيين كان يعتمد على ما يناسب الحكام والسلطات بخلاف مدرسة اهل البيت (عليهم السلام) الذي يعتمد على منطق الاستدلال والاجتهاد والفقاهة ضمن منطق القران والعترة. 

: الشيخ وسام البغدادي