{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (سورة البقرة: 30).
أن الإنسان باعتباره موجود عاقل مفكر تبنى حياته بناء على اختياراته في المواقف والأحداث، فهي إما اختيارات موفقة أم اختيارات خاطئة غير موفقة، لذا يصب اهتماماته على الاختيارات الموفقة، وبالأخص كيف تكون هذه الاختيارات؟
فالآية المباركة ذكرت اعتراض الملائكة على جعل الإنسان خليفة في الأرض، بالرغم من أن اعتراضها كان مبنياً على تنزيه وتقديس الله تبارك وتعالى والذي يعني بالضرورة طاعته، والله تبارك وتعالى لم يقبل اعتراضهم، وقال لهم إني أعلم ما لا تعلمون، أي أن المعيار ليس ما ذهبت إليه الملائكة، بل أمراً أخراً يكشفه لنا الإمام الصادق(عليه السلام)، حيث بين أن الفرق بين الإنسان والملائكة، فالإنسان له عقل ونفس، والنفس لها غرائز وشهوات، بينما الملائكة هي عقل محض، وقد جاء في الرواية أن: ((عن عبد الله بن سنان، قال: سألت أبا عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليه السلام فقلت: الملائكة أفضل أم بنوا آدم؟ فقال: قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام إن الله عز وجل ركب في الملائكة عقلا بلا شهوة، وركب في البهائم شهوة بلا عقل، وركب في بني آدم كلتيهما، فمن غلب عقله شهوته فهو خير من الملائكة، ومن غلب شهوته عقله فهو شر من البهائم)) (علل الشرائع: ج١، ص5).
فالملائكة في اعتراضها نظرت إلى لزوم تفضيلها على الخليفة الذي جعله الله تبارك وتعالى من منظار الترجيح العقلي المحض، فمن يسبح ويحمد ويقدس الله تبارك وتعالى، أفضل ممن يفسد ويسفك الدماء، حيث نظروا للأمر نظرة ظاهرية سطحية.
أما النظرة الإلهية الحقة، فهي قائمة على معيار آخر لا تعلمه الملائكة، وهو: معيار النتيجة، أي: نتيجة الصراع بين النفس والعقل، خصوصاً مع توفر اللوازم والامكانات.
ففي هذه الحال يكون صاحب العقل مع الشهوة هو المفضل عند الله تبارك وتعالى، وهو من العقل المحض، فالشارع المقدس يبني أمره على النتائج، لا على النظر وصراعاته، فالجنة والنار يبنى الدخول إليها والخروج منها على العمل والعمل هو نتيجة الصراع بين العقل والشهوة.
لذا ومن أجل الفوز بهذه النتيجة، ألزم علماء الأخلاق بناء على الروايات الشريفة الناس، بجانب عملي تطبيقي، هو: إخضاع النفس ومشتهياتها ورغباتها إلى العقل لا العكس، فعند ذاك يكون الفلاح لا غير.
وهنا نضرب مثالين لذلك:
المثال الأول: هو اختيار عمر ابن سعد لقتل الحسين(عليه السلام)، حيث يقول في شعر يحكي اختياره بعد صراع بين العقل والنفس:
فواللّه ما أدري وإنــــــــي لـحائرٌ *** أفكّرُ في أمــــري على خطرينِ
أأتركُ ملكَ الرّيِّ والرّيُّ مـــنيتي *** أم أرجعُ مأثــــــوماً بقتلِ حسينِ
حسينُ ابن عمي والحوادثُ جمّةٌ *** لعمري ولـي في الرّيِّ قرةُ عينِ
وإنَّ إلهَ الــــــــعرشِ يغفرُ زلّتي *** ولو كنتُ فــــــــيـها أظلمَ الثقلينِ
ألا إنمـا الدنيا بـــــــــخيرٍ معجّلٍ *** وما عاقلٌ بـاعَ الـــــوجـودَ بدينِ
يقولونَ إن اللّه خـــــــــــالقُ جنةٍ *** ونارٍ وتعذيـبٍ وغـــــــــــلِّ يدينِ
فإن صدقوا فيما يـقولـــون إنني *** أتوبُ إلى الرحمــنِ من ســـنتينِ
وإن كذبوا فزنا بدنــــيا عظيمةٍ *** وملكٍ عظيـــــــــــمٍ دائمِ الحجلينِ( اللهوف في قتلى الطفوف، ص١٩٣)
فاختار هوى النفس على العقل رغم أنه عاقل، وأخضع العقل للنفس ومشتهياتها ورغباتها.
المثال الثاني: هو اختيار الأمة بإقصاء الإمام الحسين(عليه السلام) عن مسرح الحياة، وتمكين ابن مرجانه، حيث نقل ابن الأثير:
لما جيء بالرؤوس الشريفة، جلس ابن زياد وأذن للناس فأحضرت بين يديه، وهو ينكت بقضيب بين ثنيتيه ساعة، فلما رآه زيد بن الأرقم لا يرفع قضيبه قال: أعل هذا القضيب عن هاتين الثنيتين، فوالذي لا إله غيره لقد رأيت شفتي رسول الله صلي الله عليه وسلم، على هاتين الشفتين يقبلهما! ثم بكى، فقال له ابن زياد: أبكى الله عينيك! فوالله لو لا أنك شيخ قد خرفت وذهب عقلك لضربت عنقك.
فخرج وهو يقول: أنتم يا معشر العرب العبيد بعد اليوم، قتلتم ابن فاطمة، وأمرتم ابن مرجانة، فهو يقتل خياركم ويستعبد شراركم، فرضيتم بالذل، فبعدا لمن يرضى بالذل!( الكامل في التاريخ، ابن الأثير، ج٤ ، ص٨١).
وعندها اختارت الأمة الذل بإبعاد الحسين(عليه السلام) لأن يزيد يلبي رغباتها ويشبع شهواتها، حتى لو كان ذلك في ضررهم، ويغيب عقولهم، وهو مطلب النفس لا العقل، فغلبوا نفوسهم على عقولهم فسقطوا في محذور الظلم ومجانبة العدل.
لكن ما أراده النبي وأهل بيته الطاهرين لا سيما الحسين(عليهم السلام) يدخل في صلب ما أراده الله تبارك وتعالى، وهو هداية الناس في مقابل إضلال إبليس(لعنه الله) وإلا كان عند أمام الحسين(عليه السلام) اختيارات عديدة فرضية، تمكنه لأن يحفظ نفسه وينجو بها، ولكن العقل كان قاطعاً بأن الله لا يعبد ولا يسبح ولا يقدس إن اختارها، لذا رجح معيار الأفضلية بإخضاع النفس إلى العقل، وركوب اصعب المواقف.
ونلاحظ أن الإمام الحجة(عجل الله فرجه الشريف) رصد ذلك وأوضحه لنا في زيارة الناحية المقدسة، وهو كيف رجح الإمام الحسين(عليه السلام) العقل على النفس بإخضاعها إليه، فقال(عجل الله فرجه الشريف):
((... زَاهِداً فِي الدُّنْيَا زُهْدَ الرَّاحِلِ عَنْهَا، نَاظِراً إِلَيْهَا بِعَيْنِ الْمُسْتَوْحِشِينَ مِنْهَا، آمَالُكَ عَنْهَا مَكْفُوفَةٌ، وَهِمَّتُكَ عَنْ زِينَتِهَا مَصْرُوفَةٌ، وَأَلْحَاظُكَ عَنْ بَهْجَتِهَا مَطْرُوفَةٌ، وَرَغْبَتُكَ فِي الْآخِرَةِ مَعْرُوفَةٌ.
حَتَّى إِذَا الْجَوْرُ مَدَّ بَاعَهُ، وَ أَسْفَرَ الظُّلْمُ قِنَاعَهُ، وَ دَعَا الْغَيُّ أَتْبَاعَهُ، وَ أَنْتَ فِي حَرَمِ جَدِّكَ قَاطِنٌ، وَ لِلظَّالِمِينَ مُبَايِنٌ، جَلِيسُ الْبَيْتِ وَ الْمِحْرَابِ، مُعْتَزِلٌ عَنِ اللَّذَّاتِ وَ الشَّهَوَاتِ، تُنْكِرُ الْمُنْكَرَ بِقَلْبِكَ وَ لِسَانِكَ، عَلَى قَدْرِ طَاقَتِكَ وَ إِمْكَانِكَ.
ثُمَّ اقْتَضَاكَ الْعِلْمُ لِلْإِنْكَارِ، وَلَزِمَكَ أَنْ تُجَاهِدَ الْفُجَّارَ، فَسِرْتَ فِي أَوْلَادِكَ وَأَهَالِيكَ، وَشِيعَتِكَ وَمَوَالِيكَ، وَصَدَعْتَ بِالْحَقِّ وَالْبَيِّنَةِ، وَدَعَوْتَ إِلَى اللَّهِ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، وَأَمَرْتَ بِإِقَامَةِ الْحُدُودِ، وَالطَّاعَةِ لِلْمَعْبُودِ، وَنَهَيْتَ عَنِ الْخَبَائِثِ وَالطُّغْيَانِ، وَوَاجَهُوكَ بِالظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ.
فَجَاهَدْتَهُمْ بَعْدَ الإيعاظ [الْإِيعَادِ] لَهُمْ، وَتَأْكِيدِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، فَنَكَثُوا ذِمَامَكَ وَبَيْعَتَكَ، وَأَسْخَطُوا رَبَّكَ وَجَدَّكَ، وَبَدَءُوكَ بِالْحَرْبِ، فَثَبَتَّ لِلطَّعْنِ وَالضَّرْبِ، وَطَحَنْتَ جُنُودَ الْفُجَّارِ، وَاقْتَحَمْتَ قَسْطَلَ الْغُبَارِ، مُجَالِداً بِذِي الْفَقَارِ، كَأَنَّكَ عَلِيٌّ الْمُخْتَارُ( ).
فَلَمَّا رَأَوْكَ ثَابِتَ الْجَأْشِ، غَيْرَ خَائِفٍ وَلَا خَاشٍ، نَصَبُوا لَكَ غَوَائِلَ مَكْرِهِمْ، وَقَاتَلُوكَ بِكَيْدِهِمْ وَشَرِّهِمْ، وَأَمَرَ اللَّعِينُ جُنُودَهُ، فَمَنَعُوكَ الْمَاءَ وَوُرُودَهُ، وَنَاجَزُوكَ الْقِتَالَ، وَعَاجَلُوكَ النِّزَالَ، وَرَشَقُوكَ بِالسِّهَامِ وَالنِّبَالِ، وَبَسَطُوا إِلَيْكَ أَكُفَّ الِاصْطِلَامِ...)).
فالمعيار الترجيح العقلي والسيطرة على النفس وشهواتها واضح في هذا النص، وهو ما فقدته الأمة في عهد يزيد(لعنه الله) وأسس له أسلافه، لذا فكل الذين ينتمون للحسين(عليه السلام) هم عقلاء بامتياز في كل ما يفعلون، وقدوتهم في ذلك الإمام الحسين(عليه السلام) وآل الحسين(عليهم السلام).
وهذه زينب(عليها السلام) الذي اعطاها استحقاقاً ما أعطاها لقربها منه جل وعلا خيرت نفسها بين ثكلها وابتلائها وبين رزيتها فاختارت الصبر، رغم أنها رزية عَظُمَتِ وَجَلَّتْ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ الْإِسْلامِ، وَجَلَّتْ وَعَظُمَتْ مُصِيبَتُكَ فِي السَّمَاوَاتِ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ ، ...)) إلا أنها لم تدعوا عليهم فتهلكهم.
وعليه: فإن النتيجة المتحصلة من هذه المواقف والتصرفات والأفعال والتي تفضي إلى الفلاح والتوفيق، هي حسن الاختيار الذي يمكن منه إخضاع النفس للعقل لا إخضاع العقل للنفس، وهو معيار التوفيق والفلاح دنياً وآخرة.

اترك تعليق