وأوّل من نُسبتْ إليه نظريّة الصّرفة هو المتكلّم المعتزليّ أبو إسحاق إبراهيم النّظام، ومَنْ نسبها إليه هو أبو الحسن الأشعريّ
اتّفق علماء المسلمين قديمًا وحديثًا على أنّ القرآن الكريم معجزة الرسول -صلى الله عليه وآله- الخالدة، لكنّهم اختلفوا في تحليل حقيقة إعجازه، وأنّه من أيّ جهة صار معجزًا؟ وقد طرحت عدّة نظريّات لبيان الوجه في ذلك، والذي يُهمّنا منها هنا هو ما يُعرَف بـ(نظريّة الصَّرفة)، ومعناها -إجمالًا- الاعتقاد بأنّ السبب الحقيقيّ وراء عجز العرب -وغيرهم- عن الإتيان بمثل القرآن ليس بلوغه حدّ الإعجاز في البلاغة والفصاحة أو غير ذلك، وإنّما هو صرف الله -تعالى- الذي أرادوا معارضة القرآن والإتيان بمثله عن القيام بذلك ومنعهم منه، ولولا هذا المنع الغيبيّ والحيلولة الإلهيّة دون ذلك؛ لكان الفصحاء قادرين على الإتيان بسورة من مثل القرآن بلاغةً وفصاحةً ونظمًا، وعليه لا يكون الإعجاز القرآني راجعًا إلى ذات القرآن، بل هو وصف عرضي ناشئ من سببٍ قهريّ.
وأوّل من نُسبتْ إليه نظريّة الصّرفة هو المتكلّم المعتزليّ أبو إسحاق إبراهيم النّظام، ومَنْ نسبها إليه هو أبو الحسن الأشعريّ، ولكنّه قد نقلها عنه بصورة مجملة دون إعطاء بيان مفصّل لحقيقتها عنده أو دليله عليها، بل نسب إليه في الوقت نفسه نظريّة أخرى، وهي الإخبار عن الغيوب، حيث قال الأشعريّ: "وقال النّظام: الآية و الأعجوبة في القرآن ما فيه من الإخبار عـن الغيوب، فأمّا التأليف والنظم، فقد كان يجوز أنْ يقدر عليه العباد لولا أنّ الله منعهم بمنع و عجز أحدثهما فيهم"(١).
وعندما وصلت النوبة إلى الاثني عشريّة وجدت هذه النظريّة بينهم عددًا لا يستهان به ممّن يؤمن بها ويدافع عنها، فالسيّد المرتضى -رحمه الله تعالى- وإنْ كان أبرز متكلّمٍ اثني عشريّ على الإطلاق تبنّى نظريّة الصَّرفة، وألّف فيها، ونظّر لها، ودافع عنها بكلّ ما أوتي من قوّة، إلّا أنّه لا ينبغي توهّم اختصاصه دونهم بهذا القول؛ إذ ذهب إليه جماعة من أعلام متكلّمي الاثني عشريّة، فقد سبقه إلى القول بالصَّرفة أستاذه الشيخ المفيد -رضوان الله تعالى عليه-، وتابعه على ذلك تلميذه (أي تلميذ السيد المرتضى) أبو الصلاح الحلبيّ -رحمه الله تعالى-، وابن سنان الخفاجيّ -رحمه الله تعالى-، والمحقّق الحليّ -رضوان الله تعالى عليه-…(٢)، وفيما يلي ننقل بعض كلماتهم في هذا الشأن:
قال الشيخ المفيد -رحمه الله تعالى- في جهة إعجاز القرآن: "إنّ جهة ذلك هو الصَّرف من الله -تعالى- لأهل الفصاحة واللسان عن معارضة النبيّ -صلى الله عليه وآله- بمثله في النظام عند تحدّيه لهم، وجعل انصرافهم عن الإتيان بمثله -وإنْ كان في مقدورهم- دليلًا على نبوته، واللّطف من الله -تعالى- مستمر في الصَّرف عنه إلى آخر الزمان، وهذا أوضح برهان في الإعجاز ، وأعجب بيان"(٣).
وقال الشريف المرتضى: "إنّ الله -تعالى- سلب العرب العلوم التي كانت تتأتّى منهم بها الفصاحة التي هي مثل القرآن متى راموا المعارضة، ولو لم يسلبهم ذلك لكان يتأتّى منهم"(٤).
وأبو الصلاح الحلبيّ بعد استعراضه الوجوه المحتملة لإعجاز القرآن قال: "وإذا بطلت سائر الوجوه، ثبت أنّ جهة الإعجاز كونهم مصروفين…معنى الصَّرف هو نفي العلوم بأضدادها أو قطع إيجادها في حال تعاطي المعارضة التي لولا انتفاؤها لصحت المعارضة، وهذا الضرب مختص بالفصاحة والنظم معًا؛ لأنّ التحدّي واقع بهما، وعن الجمع بينهما كان الصَّرف"(٥).
وقال ابن سنان الخفاجيّ: "إذا عدنا إلى التحقيق وجدنا إعجاز القرآن صرف العرب عن معارضته، بأنْ سلبوا العلوم التي بها كانوا يتمكّنون من المعارضة في وقت مرامهم ذلك"(٦).
واختار المحقّق الحليّ الصَّرفة لكن مع شيء من الحذر و التريّث، حيث قال:" واختار المرتضى الصَّرفة، وذكر أنّ العرب قادرة على مثل فصاحته و أسلوبه، غير أن الله تعالى صرفهم عن ذلك. ولعلّ هذا الوجه أشبه بالصواب"(٧).
والمتحصّل لمن تأمّل في كلماتهم -رضوان الله تعالى عليهم- المتقدّمة وغيرها -خصوصًا ما أفاده الشريف المرتضى في هذه المسألة-؛ أنّ مراد مَنْ يتبنّى نظريّة الصّرفة مِن الاثني عشريّة هو أنّ القرآن وإنْ كان في درجة عالية من حيث فصحاته وبلاغته، وروعة نظمه وبداعة أسلوبه، إلّا أنّه لم يبلغ في ذلك حدّ الإعجاز، فَليس الإتيان بمثله محالًا عاديًّا -خارجًا عن طوق قدرة النوع الإنسانيّ- حتّى يحتاج فيه إلى قدرة خارقة للعادة؛ لذا لو خُلّيَ فصحاء العرب وبلغائهم وطبعهم لكانوا قادرين على الإتيان بما يضاهي القرآن في تأليفه، ولكنّ الله -تعالى- بقدرته من أجل إثبات التحدّي؛ قد صرفهم عن معارضته، وحال بينهم وبين الإتيان بمثله، وذلك بأنْ سلبهم -سبحانه- علوم الفصاحة والبلاغة التي لا بدّ منها في الإتيان بما يشاكل القرآن ويقاربه كلّما راموا المعارضة، ولو لا الصَّرفة هذه لعارضوه، وعلى هذا لا يكون الإعجاز القرآني راجعًا إلى ذات القرآن -كما هو رأي جمهور الاثني عشريّة-، بل إلى صَرف الذين أرادوا معارضته، ولا شكّ أنّ نفس سلب بلاغة وفصاحة البليغ الفصيح حال رغبته معارضة القرآن من الإعجاز الخارق للعادة.
ويمكن إجمال الدوافع التي دعت السيّد المرتضى -وغيره- إلى اختيار نظريّة الصَّرفة دون غيرها من سائر النظريّات الأخرى في أمرين:
الأوّل- أنّ السيّد المرتضى يرى -وهو رأي عامّة العلماء أيضًا- أنّ تحقّق الإعجاز مبنيّ على وقوع التفاوت الكبير بين ما يأتي به صاحب المعجزة وبين ما يأتي به عامّة البشر ممّا يُجانس المعجز؛ لأنّه لولا هذا الشرط لم يكن من الممكن نفي احتمال كون ما جاء به صاحب المعجزة مجردَ نبوغٍ لا أكثر، وبالاعتماد على هذا الشرط نفى السيّد المرتضى -رحمه الله تعالى- الإعجاز في بلاغة القرآن؛ حيث ادّعى أنّه عند مقارنة بلاغة العرب مع بلاغة بعض السور القصار من القرآن الكريم لا نجد ذلك التفاوت الكبير بينهما -وإنْ كان القرآن في الدرجة العالية من البلاغة-، ورغم ذلك لم يعارض العربُ النبيَّ -صلى الله عليه وآله- بحيث يأتون بما يقارب القرآن وإن لم يُساوِه؛ من أجل التلبيس على الناس والتشكيك بنبوة النبيّ -صلى الله عليه وآله-، ولا يصلح لتفسير عدم معارضة العرب مع بلاغتهم وفصاحتهم إلاّ الصّرفة؛ لذا تمسّك بها، واختارها دون غيرها(٨).
وقد علّق المحقّق السبحانيّ على هذه الدعوى قائلًا: "إنّ القول بالصَّرفة نجم من الاغترار بما روي من رشيق الكلمات، وبليغ العبارات عن العرب، فزعم هؤلاء أنّ كلّ من قدر على تلك الأساليب البلاغيّة؛ يقدر على المعارضة، إلّا أنّه -سبحانه- عرقلهم عنها وثبّطهم فيها، ولكن أين الثرى من الثريا، وأين المدر من الدرر، وليس إعجاز القرآن رهن العذوبة والأناقة فقط، وإنّما هو رهن حلاوة ألفاظه وسمو معانيه، ورصانة نظمه -على وجه لو غيّرت كلمة أو جملة منه، لم يمكن أنْ يؤتى بدلها بلفظة هي أوفق من تلك اللفظة- وبداعةِ أسلوبه…فهذه الأمور بجملتها أضفت على الكلام جمالًا رائعًا لا يجد الإنسان له مثيلًا في كلام مَنْ غَبَر وَسَبَق، أو تَبِعَ وَلحَق، فهو بنظمه العجيب، وأسلوبه الغريب، وملاحتهِ وفصاحته الخاصة، ومعانيه العميقة -تحدّى الإنس والجنّ؛ ولأجل ذلك لم يجد العرب لإغراء البسطاء إلا تفسيره بالسحر؛ لأنّه يأخذ بمجامع القلوب، كما يأخذ السحر بها"(٩).
والثاني- أنّ المتتبّع لكلماتِ الشريف المرتضى يجد أنّه كان يسعى لبناء منظومة فكريّة عقائديّة محكمة، و مبنيّة على أساس العلم واليقين، وهذا يشمل مسألة إعجاز القرآن، حيث أكّد -رحمه الله تعالى- في أكثر من موضع على ضرورة تحصيل العلم واليقين فيها، ولهذا أصرّ على تبني نظريّة الصَّرفة؛ لأنّها باعتقاده يتوفّر فيها عنصر العلم واليقين، ويمكنها أنْ تجيب على جميع الشبهات الواردة على إعجاز القرآن مهما كان احتمالها ضئيلًا، بينما سائر النظريّات عاجزة عن ذلك(١٠).
ويعتبر أهمّ ما استُدلَّ به لإثبات صحّة نظريّة الصَّرفة هو: أنّ النبيّ -صلى الله عليه وآله- قد تحدّى العرب بأنْ يأتوا بما يشاكل القرآن أو يقاربه بالفصاحة و النظم، وهم كانوا قادرين على الإتيان بذلك؛ لأنّ فصاحة القرآن ونظمه غير معجزين، أمّا فصحاته؛ فبعتبار أنّ فصاحة القرآن إذا كانت معجزة وخارقة للعادة؛ لكان من اللّازم أنْ يكون بينها وبين فصاحة كلام العرب فارق واضح وكبير جدًا، والحال أنّ الفارق بينهما ليس فارقًا كبيرًا كما هو الفارق بين الأمور المعتادة و الخارقة للعادة، فنحن لا نميز بين بعض قصار السور وبين أفصح شعر العرب، وأمّا النظم؛ فلأنّ القرآن مركّب من حروف المعجم التي يقدر عليها كلّ متكلّم، وبذلك لا يستحيل الإتيان بتركيبٍ لحروفٍ يشبه تركيب حروف القرآن، ومع ذلك لم يتمكّن العرب من معارضة القرآن في فصاحته ونظمه، وبهذا يثبت أنّ المعارضة قد تعذّرت لسبب آخر، وهو الصَّرف، وإلّا لو لم يصرفوا لعارضوا القرآن(١١).
وناقش السيّد الخوئي -رضوان الله تعالى عليه- الاستدلال المتقدّم بقوله: "إنّ هذه الشبهة لا تليق بالذكر، فإنّ القدرة على الإتيان بمثل كلمة من كلمات القرآن، بل على الإتيان بمثل جملة من جملاته لا تقتضي القدرة على الإتيان بمثل القرآن، أو بمثل سورة من سوره، فإنّ القدرة على المادّة لا تستلزم القدرة على التركيب؛ ولهذا لا يصح لنا أنْ نقول: إنّ كل فرد من أفراد البشر قادر على بناء القصور الفخمة، والصروح الضخمة؛ لأنّه قادر على وضع آجرة في البناء، أو نقول: إنّ كل عربيّ قادر على إنشاء الخطب والقصائد؛ لأنّه قادر على أنْ يتكلّم بكلّ كلمة من كلماتها ومفرداتها"(١٢).
وقد هبّ علماء الاثني عشريّة يفندون مزاعم القول بالصَّرفة، إمّا برهانًا عقليًّا أو خطابةً وجدلًا بالتي هي أحسن، في ردود وإشكالات نعرض أهمها ونَقتصر عليها؛ لأنّ فيها الكفاية والوفاء.
وأوّل من ردّ القول بالصَّرفة هو -تلميذ السيّد المرتضى الأكبر- الشيخ الطوسيّ -رحمه الله تعالى- حيث استشكل عليه بقوله: "واعلم أنّه لوكان وجه الإعجاز سلب العلوم، لكانت العرب إذا سلبوا هذه العلوم خرجوا عن كمال العقل…ولو كان كذلك لظهر واشتهر، وكان يكون أبلغ في باب الإعجاز من غيره، ولمّا لم يعلم كونهم كذلك، وأنّ العرب لم يتغيّر حالهم في حال من الأحوال؛ دلّ ذلك على أنّهم لم يسلبوا العلوم، وإذا لم يسلبوها وهم متمكّنون من مثل هذا القرآن كان يجب أنْ يعارضوا، وقد بينّا أنّ ذلك كان متعذرًا منهم، فبطل هذا القول"(١٣).
أقول: إنّ الشيخ الطوسيّ قد جعل لازم سلب العلوم هو الخروج عن كمال العقل؛ لأنّه من البيّن أنّ نسيان الأمور المعلومة في مدّة يسيرة يدلّ على نقصان العقل، ألا ترى أنّ الواحد إذا كان يتكلّم بلغة مدّة عمره، ثمّ أصبح فجأة في بعض الأيام لا يعرف شيئًا منها، كان ذلك دليلًا على فساد عقله وتغيّره، والعلم بالفصاحة من هذا الباب.
وللسيّد الخوئيّ -رحمه الله تعالى- كلمة موجزة في ردّ القول بالصرفة، حيث قال: "وهذا القول في غاية الضعف: أولًا- لأنّ الصَّرفة التي يقولون بها إنْ كان معناها…أنّ الناس قادرون على أن يأتوا بمثل القرآن، ولكن الله صرفهم عن معارضته فهو واضح البطلان؛ لأنّ كثيرًا من الناس تصدوا لمعارضة القرآن، فلم يستطيعوا ذلك، واعترفوا بالعجز. ثانيًا- لأنّه لو كان إعجاز القرآن بالصَّرفة لوجد في كلام العرب السابقين مثله قبل أنْ يتحدّى النبيّ البشر، ويطالبهم بالإتيان بمثل القرآن، ولو وجد ذلك لنقل وتواتر، لتكثّر الدواعي إلى نقله، وإذ لم يوجد ولم ينقل كشف ذلك عن كون القرآن بنفسه إعجازًا إلهيًّا خارجًا عن طاقة البشر"(١٤).
ويرى العلّامة الطباطبائيّ أنّ الظاهر من آيات التحدّي لا يجتمع مع نظريّة الصَّرفة، فقال: "وهذا قول فاسد [أي القول بالصَّرفة] لا ينطبق على ما يدلّ عليه آيات التحدّي بظاهرها، كقوله…(…قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (٣٨) بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ…)، فإنّها ظاهرة في أنّ الذي يوجب إستحالة إتيان البشر بمثل القرآن وضعف قواهم وقوى كل من يعينهم على ذلك من تحمّل هذا الشأن -هو أنّ للقرآن تأويلًا لم يحيطوا بعلمه فكذبوه، ولا يحيط به علمًا إلّا الله، فهو [أي التأويل الذي لم يحيطوا بعلمه] الذي يمنع المعارض عن أنْ يعارضه، لا أنّ الله -سبحانه- يصرفهم عن ذلك مع تمكنهم منه لولا الصرف بإرادة من الله -تعالى-"(١٥).
وقد فصّل الكلام في الردّ على نظريّة الصَّرفة المحقّق السبحانيّ -حفظه الله تعالى-، حيث أورد عليها الكثير من النقود والإشكالات حتّى أوصلها عشرة، وأهمّها قوله: "إنّ نظريّة الصَّرفة نظريّة قاصرة وسقيمة من جهات…وثالثًا- فلو كان العرب قبل البعثة قادرين على الإتيان بكلام يشبه القرآن ويضاهيه، فلماذا اندهش الوليد بن المغيرة عندما سمع آيات من سورة فصّلت، وقال :(لقد سمعت من محمد كلامًا لا يشبه كلام الإنس والجن)؟ ولماذا ارتمى عتبة بن ربيعة مدهوشًا مبهوتًا ملقيًا يديه وراء ظهره متكيًا عليهما، مشدقًا بفيه مصعوقًا عندما سمع بعض آيات القرآن من النبيّ الصادع بالحق؟ فلو كانت فصاحة القرآن وبلاغته أو نظمه وأسلوبه من حيث العذوبة والأناقة على نمط كلام الآخرين من فصحاء العرب وبلغائهم، فَلِمَ اهتزوا وتأثّروا بسماع آية أو آيات منه، ولم تكن لهم هذه الحالة في سماع شعر امرىء القيس، ولا عنترة، ولا غيرهما من أصحاب المعلقات، ولا من سماع خطب قس بن ساعدة و سحبان بن وائل وغيرهما من أصحاب الخطب والكلام؟…إذ لو كان مثل القرآن متوفرًا في الأوساط الأدبيّة قبل البعثة، لما كان لهذا الطرب والاهتزاز والانبهار والتضعضُع وجه وجيه؛ لأنّ المفروض أنّ القرائح العربيّة لم تكن قاصرة قبل البعثة عن إبداع أمثاله، وسمعت آذانهم كثيرًا من هذا النمط من الكلام وإنْ قصرت من بعد، ولو كانت قرائحهم قادرة قبل البعثة على إنشاء كلام مثل القرآن، فلماذا جمع الوليد صناديد قريش وقال لهم: (إنّ العرب يأتونكم فينطلقون من عندكم على أمر مختلف، فأجمعوا أمركم على شيء واحد، ما تقولون في هذا الرجل؟…)؟ فلو كانت قرائحهم كافية قبل…سلب علومهم…لكان الجواب عن قرآن الرجل واضحًا، وهو أنّه كلام عادي ما أكثره بيننا، وأكثر مثله في كلام خطباء العرب وشعرائهم"(١٦).
ومسك الختام ما ذكره الشيخ فاضل الصفّار -حفظه الله تعالى- من أنّ القول بالصَّرفة مستحيل عقلًا؛ لاستلزامه نسبة العجز إلى الباري -عزّ وجلّ- أو مخالفة الحكمة، وتقرير ذلك: "أنّ جعل القرآن الكريم معجزًا في نفسه أمر ممكن وليس ممتنعا بالضرورة، وحينئذ لسائل أنْ يسأل لماذا لم يجعل الله سبحانه القرآن معجزًا في نفسه بحيث يقصر البشر عن الاتيان بمثله وإنّما جعل أعجازه في الصَّرفة؟ والجواب لا يخلو من احتمالين: الأول- أنْ يكون عاجزًا عن ذلك -والعياذ بالله-، وهو واضح البطلان. الثاني- أنْ يكون قادرًا على ذلك، ولكنّه لا يفعله لعدم وجود المقتضي بسبب عدم الحاجة إلى الاعجاز، وبطلانه ظاهر، أو لوجود المانع وقد عرفت عدمه، أو للتشهّي والعبث وهو منزّه عنهما…فيتحصّل: أنّ المقتضي لجعل القرآن معجزًا في نفسه موجود والمانع منه مفقود، بخلاف الصَّرفة فإنّه لا مقتضي لها، وعلى فرض وجوده فهو مبتلى بالمانع"(١٧).
وعلى أيّ حال، فإنّ القائلين بالصَّرفة وإنْ كانوا من أعلام العلماء، لكنّ الحقّ لا يعرف بالرجال، وإنّما يعرف بسلامة الاستدلال، وقد تبيّن بما ذكرناه من ردود وإشكالات وهن هذه النظريّة، وأنّها ليست بقيّمة قابلة للاعتماد، ولا خلافًا صالحًا للاحتجاج.
الهوامش: -------
١- الأشعريّ، أبو الحسن، مقالات الإسلاميين واختلاف المصلّين، ص٢٢٥، دار فرانز شتايز، ألمانيا-فيسبادن، الطبعة الثالثة، سنة (١٤٠٠هـ).
٢- الشريف المرتضى، علي بن الحسين الموسويّ، الصَّرفة، الموضح عن جهة إعجاز القرآن، ص١٣-٢٠، تحقيق عدّة من المحقّقين، مؤسسة الطبع والنشر التابعة للآستانة الرضويّة المقدّسة، الطبعة الأولى، سنة (١٤٤١ه).
٣- الشيخ المفيد، محمد بن النعمان العبكريّ، أوائل المقالات، ص٦٣، الناشر المؤتمر العالميّ لألفيّة الشيخ المفيد، الطبعة الأولى، سنة (١٤١٣ه).
٤- الشيخ الطوسيّ، أبو جعفر محمد بن الحسن، الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد، ص١٧٢، نسخة ألكترونيّة.
٥- أبو الصلاح الحلبيّ، الشيخ تقيّ بن نجم، تقريب المعارف، ص١٥٨، تحقيق الشيخ فارس تبريزيان، الناشر المحقّق، سنة (١٤١٧ه).
٦- ابن سنان الخفاجيّ، الشيخ أبو محمّد عبد الله، سرّ الفصاحة، ص١٠٠، نسخة ألكترونيّة.
٧- المحقّق الحليّ، الشيخ نجم الدين أبي القاسم جعفر بن الحسن، المسلك في أصول الدين، ص١٨٢، المحقّق رضا الأستادي، الناشر مجمع البحوث الإسلاميّة، إيران-مشهد، الطبعة الأولى، سنة (١٤١٤ه).
٨- الشريف المرتضى، علي بن الحسين الموسويّ، الذخيرة في علم الكلام، ص٣٧٩-٣٨٠، تحقيق السيّد أحمد الحسينيّ، مؤسسة النشر الإسلاميّ، إيران-قم، الطبعة الثالثة، سنة (١٤٣١ه).
٩- السبحانيّ، الإلهيّات، ج٣، ص٣٤٦-٣٤٧.
١٠- الشريف المرتضى، الصَّرفة، الموضّح عن جهة إعجاز القرآن، عدّة من المحقّقين، مقدّمة التحقيق، ص٢٩-٣٠.
١١- نفس المصدر السابق، ص٢١-٢٣.
١٢- الخوئيّ، آية الله العظمى السيد أبو القاسم بن علي الموسويّ، البيان في تفسير القرآن، ص٨٤، المحقّق السيد جعفر الحسينيّ، دار الثقلين للطباعة والنشر، إيران-طهران، الطبعة السادسة، سنة (١٤٢٩ه).
١٣- الشيخ الطوسيّ، الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد، ص١٧٥.
١٤- الخوئيّ، البيان في تفسير القرآن، ص٨٤.
١٥- العلّامة الطباطبائيّ، السيد محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، ج١، ص٦٩-٧٠، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلميّة، إيران-قم.
١٦- السبحانيّ، الإلهيّات، ج٣، ص٣٤٥-٣٤٦.
١٧- الصّفار، الشيخ فاضل، الحقائق والدقائق في المعارف الإلهيّة، ص٢٧٢-٢٧٤، دار المحجّة البيضاء، لبنان-بيروت، الطبعة الأولى، سنة (١٤٣٦ه).
اترك تعليق