أسرار قوة العزاء الحسيني

العزاء الحسيني مفردة من المفردات التي ضربت جذورها في عمق الثقافة الدينية للمجتمع المسلم المؤمن، فهي اليوم من أشهر المفردات التي يستعملها الانسان في حياته اليومية وأوسعها لأهميتها وركنيتها في الثقافة العامة للمسلمين، و تمثل بالنسبة لهم تراث فكري وموروث سلوكي وعقيدة حقة.

وقد دأبت السلوكيات والتصرفات على القيام بإقامتها وتجذرت في حيات الناس اليومية بشكل ملفت للنظر، بحيث أن الناس لا يتركونها ويستهجنون من يفرض عليهم تركها بأي طريقة كانت، بل ويضحون من أجلها بالمال والوقت والجهد، بل وحتى بالنفس، الأمر الذي يستدعي التعجب والتفكر في السر الذي يقف وراء ذلك.

وبما أن معرفة الأسرار من أشكل المشكلات لخفائها وعدم وضوحها إلا أنه يمكن الوقوف تحليلياً على العوامل التي انتجت ذلك وتصورها ، وذلك بمثابة معرفة الأسرار، لذا أمكن تصور عوامل عديدة لهذا العزاء تدلنا على أسراره، هي:

1- تعلق الإرادة الإلهية بنصرة المظلوم ودليل ذلك في قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}[1]، وقيام عزاء المظلوم وتمكينه واستمراره نصرة لمن نصر الله تبارك وتعالى، لذا فهو مستمر أزلي، والذي يقتضي اذكاء مبادئه وأهدافه في كل زمان ومكان وعدم طمسها، إذ يعتبر أسلوب من أساليب خلق الرأي العام الدائم والمستمر بكسب المؤيدين والمعتنقين للمبادئ الإلهية وبالتالي تحقق طاعة الله تبارك وتعالى، والواسطة إقامة العزاء لذكراه.

2- اعتقاد الإنسان وإيمانه بمن يقام العزاء لأجله أنه ذو مكانة في الدين لا تفوقها مكانة، فهو منصب من الله سبحانه وتعالى، فالإمام: هو من يُقتدى به، ويجب على الخلق اتِّباعه لقوله(عزّ وجلّ): {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا}[2]، فعندما يستخدم لفظ (الإمام) كمصطلح ديني فإنَّه يقصد به في الغالب الإمامة، وقد خاطب الله(عز وجل) نبيه إبراهيم(عليه السلام): {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا}[3].

ونعني بالاعتقاد: أنه إمام معصوم مفترض الطاعة، وطاعته من طاعة الله تبارك وتعالى في خط طولي واحد لا في عرض طاعة الله يبارك وتعالى، والله سبحانه وتعالى يثيب المعتقد بذلك والمتصرف على أساسه ويجازيه افضل الجزاء، فهي عقيدة متعلقة بمصير الإنسان في الدنيا والآخرة، وهي خير محرك لأفعال الإنسان ومنها إقامة مجالس العزاء.

3- الاعتقاد بمظلومية من يقام لأجله العزاء، وهي حالة شعورية تشخيصية تفرق بين الحق والباطل والظلم والعدل، والمعيار فيها إدراك ما يأمر به القرآن الكريم وينهى عنه، وهو يدل على إنسانية الإنسان، إذ لا يرضى بظلم أبناء جلدته، فهذا الشعور يوجب النصرة وفيها دفع الضرر بعدم التقصير، قال الله تبارك وتعالى: ((وعزّتي وجلالي لأنتقمنّ من الظالم في عاجله وآجله، ولأنتقمنّ ممّن رأى مظلوماً فقدر أن ينصره فلم ينصره))[4]، وإقامة مجالس العزاء نصرة للمظلوم يدفع بها الإنسان الضرر عن نفسه إضافة إلى أنها تمثل موقفاً شخصياً مع الحق.

4- محبة المكلفين بجلب رضا الله تبارك وتعالى، ويتم ذلك بجلب رضا الأئمة الطاهرين والصديقة الطاهرة(عليم السلام أجمعين)، إذ أنه جاء في كلام الأئمة(عليهم السلام): ((رضى الله رضانا أهل البيت))[5]، ومصداق هذا جلب الرضا: بإيقاع المواساة لنبيه الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله)، ومشاركته العزاء على هذا المصاب، ومواساة الأئمة المعصومين(عليهم السلام) من ذريته الطاهرين.

5- رد الفعل السلوكي، القائم على معرفة الضرورة والأهمية، بأن الذي يقتل مظلوماً يجب التفاعل معه وإبداء رد الفعل تجاه مظلوميته يقتضي نصرته، سواء كان رد الفعل شخصي كالتأثر والتألم والبكاء واللطم أو موضوعي جماعي كإقامة العزاء والبرامج الأخرى، ففي الموقف الشخصي جاء عن مسمع بن عبد الملك كردين البصريِّ، قال: ((قال لي أبو عبد اللّه عليه السلام: يا مسمعُ، أنتَ من أهل العراق، أما تأتي قبرَ الحسين عليه السلام؟ قلت: لا؛ أنا رجلٌ مشهورٌ عندَ أهلِ البصرة، وعندنا من يَتبعُ هوى هذا الخليفةَ، وعدوُّنا كثيرٌ من أهلِ القبائلِ، من النصّاب وغيرهم، ولستُ آمنُهم أنْ يرفعوا حالي عند وِلْدِ سُلَيمان، فيمثِّلونَ بي، قالَ لي: أفما تذكرُ ما صُنعَ به؟ قلت: نعم، قال: فتَجْزَع؟ قلتُ: إي واللّه، وأستعبرُ لذلكَ حتّى يَرى أهلي أثرَ ذلك عليَّ، فأمتنعُ من الطعام حتى يستبينَ ذلك في وَجهى، قال: رحمَ اللّهُ دمعتَك، أما إنك من الذين يُعَدّون من أهلِ الجَزَعِ لنا، والذين يفرحونَ لفرحِنا، ويحزنون لِحُزننا، ويخافونَ لخوفنا، ويأمنون إذا أمنّا، أما إنك سَتَرى عندَ مَوتِكَ حضورَ آبائي لك، ووصيّتَهم ملك الموتِ بك، وما يَلقَونَك به من البِشارة أفضلُ، ولمَلَك الموتِ أرقُّ عليكَ، وأشدُّ رحمةَ لك من الأمّ الشفيقة على ولدها، ثم استعبرَ، واستعبرتُ معه، فقال: الحمدُ لله الذي فضلنا على خلقه بالرحمة، وخصَّنا أهلَ البيتِ بالرحمة، يا مسمعُ، إن الأرضَ والسماءَ لتبكي منذُ قتلِ أميرِ المؤمنينَ (عليه السلام)؛ رحمةً لنا، وما بكى لنا من الملائكةِ أكثرُ، وما رَقَأَت دموعُ الملائكةِ منذُ قتلنا، وما بكى أحدٌ رحمةً لنا ولِما لَقينا إلّا رحمَه اللهُ قبلَ أنْ تخرجَ الدمعةُ من عينهِ، فإذا سالت دموعُه على خدِّه، (غفرَ اللهُ ذنوبَه ولو كانت مثلَ زَبَد البَحر)، فلو أنَّ قطرةً من دموعِه سقطت في جَهنَّم، لأطفأت حرَّها حتى لا يوجد لها حرّ،....))[6].

6- تكرار الفعل في إقامة العزاء في كل عام، جعل منه لأجل فوائده معلومة مخزونة في العقل اعتاد عليها السلوك البشري، مؤيدة بالباعث الداخلي والمحفز الخارجي، لذا وصف العزاء بأنه فعل ينم عن بصيرة، فقد سئل الإمام الصادق(عليه السلام): ((سيدي جُعلت فداك، إنّ الميت يجلسون له بالنياحةِ بعد موته أو قتله، وأراكم تجلسون أنتم وشيعتكم من أول الشهر بالمأتم والعزاء على الحسين(عليه السلام)؟! فقال(عليه السلام): يا هذا، إذا هلّ هلالُ المحرّم نشرت الملائكةُ ثوبَ الحسين(عليه السلام)، وهو مخرّقٌ من ضرب السيوف وملطّخ بالدماء، فنراه نحنُ وشيعتُنا بالبصيرةِ لا بالبصر، فتتفجّر دموعُنا))[7]، وهذا في كل عام، وعليه يتجدد الفعل بباعث داخلي، أما الروايات الجزائية المحددة للثواب عنهم صلوات الله عليهم أجمعين فتعتبر دافع خارجي للتمسك بإقامة العزاء، فقد روى العلاّمة المجلسي عن بعض مؤلّفات المتأخّرين أنّه قال: حكى دعبل الخزاعي، قال: دخلت على سيّدي ومولاي علي بن موسى الرضا(عليه السلام) في مثل هذه الأيّام، يعني أيام محرّم الحرام، فرأيته جالساً جلسة الحزين الكئيب، وأصحابه من حوله، فلمّا رآني مقبلاً قال لي: ((مرحباً بك يا دعبل، مرحباً بناصرنا بيده ولسانه، ثمّ إنّه وسّع لي في مجلسه، وأجلسني إلى جانبه، ثمّ قال لي: يا دعبل! أحبّ أن تنشدني شعراً، فإنّ هذه الأيّام أيّام حزن كانت علينا أهل البيت، وأيّام سرور كانت على أعدائنا، خصوصاً بني أُميّة.

يا دعبل! من بكى وأبكى على مصابنا ولو واحداً كان أجره على الله.. يا دعبل! من ذرفت عيناه على مصابنا وبكى لِما أصابنا من أعدائنا حشره الله معنا في زمرتنا.. يا دعبل! من بكى على مصاب جدّي الحسين غفر الله له ذنوبه البتة، ثمّ إنّه(عليه السلام) نهض وضرب ستراً بيننا وبين حرمه، وأجلس أهل بيته من وراء الستر ليبكوا على مصاب جدّهم الحسين(عليه السلام)، ثمّ التفت إليّ وقال لي: يا دعبل! إرثِ الحسين-عليه السلام-، فأنت ناصرنا ومادحنا ما دمت حيّاً، فلا تقصّر عن نصرتنا ما استطعت))[8].

7- ارتباط مصير الإنسان بإقامة العزاء لمقتل هذا الإمام المظلوم، وهو الإمام الحسين(عليه السلام)، إذ أن تفاصيل آخرة الإنسان تعتمد على العيش في البرزخ والوقوف بين يدي الله تعالى للحساب ودخول الجنة والحياة فيها حياة منعمة أبدية، وإقامة العزاء ينفع في كل موطن من مواطن مسيرة الحياة الاخرى ابتداء بالبرزخ إلى الخلود في الجنة.

فقد روي عن الحسن بن عليّ بن فضّال عن الرضا(عليه السّلام) أنه قال: ((مَن تَذَكَّرَ مُصابَنا فَبَكى‏ وأبكى‏، لَم تَبكِ عَينُهُ يَومَ تَبكِي العُيونُ))[9]، وبكاء العيون المعني، هو: في رحلة الآخرة التي تشمل القيامة ودخول الجنّة.

والملاحظ أن هذه النكات التحليلية الآنفة الذكر والتي تبين سر قوة العزاء الحسيني هي مجرد تصور غير ملحوظ في فعل الإنسان وفلسفة القيام بهذا الفعل هو سر قوته، فإن ما تنطوي عليه النفس الإنسانية في عمق سلوكياتها وأفعالها متفاوت في الفكر والعمق، لذا يمكن القول أن السر الحقيقي هو: ((تعلق الإرادة الإلهية بنصرة المظلوم))، بحيث قيض الله تبارك وتعالى لذلك من يقوم به.

وورد في الروايات الشريفة أنه لمَّا أخبر النبي الأكرم محمد(صلى الله عليه وآله) ابنته فاطمة(عليها السلام) بقتل ولدها الحسين (عليه السلام) وما يجري عليه من المحن، بكت فاطمة (عليها السلام) بكاء شديداً، وقالت: ((يا أبتِ! متى يكون ذلك؟ قال: في زمان خال منّي ومنك ومن علي-عليهم السلام-، فاشتدَّ بكاؤها وقالت: يا أبت! فمن يبكي عليه؟ ومن يلتزم بإقامة العزاء له؟ فقال النبيّ (صلى الله عليه وآله): يا فاطمة! إن نساء أمتي يبكون على نساء أهل بيتي، ورجالهم يبكون على رجال أهل بيتي، ويجدِّدون العزاء جيلاً بعد جيل في كل سنة، فإذا كان يوم القيامة تشفعين أنت للنساء وأنا أشفع للرجال، وكل من بكى منهم على مصاب الحسين-عليه السلام- أخذنا بيده وأدخلناه الجنّة، يا فاطمة! كل عين باكية يوم القيامة إلاَّ عين بكت على مصاب الحسين-عليه السلام-، فإنها ضاحكة مستبشرة بنعيم الجنة))[10].

 

الهوامش:------

[1] سورة محمد: 7.

[2] سورة الانبياء: 73.

[3] سورة البقرة: 124.

[4] كنز العمّال, علاء الدين علي المتقي الهندي، ج 3, ص 505.

[5] بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج ٤٤ - الصفحة ٣٦٧

[6] كامل الزيارات، جعفر بن محمد بن قولويه القمي، ص: 203.

[7] ثمرات الأعواد، علي ابن الحسين الهاشمي الخطيب، ج1، ص: 36ـ37.

[8] بحار الأنوار، محمد باقر المجلسي، ج45، ص: 257.

[9] عيون أخبار الرضا، الشيخ الصدوق، ج 1، ص: 294.

[10] بحار الأنوار، محمد باقر المجلسي، ج44، ص: 292. 

المرفقات

: الشيخ مازن التميمي