الطريق الأمثل لحل المشكلات الفكرية

لا يخفى أن الحياة البشرية وتطبيقاتها قائمة على أساس فكري هو معتقد ذو منهجية صحيحة ودقيقة ومتينة تتحول بعد حين بالممارسة إلى مهارة مطلوبة، إذ تمثل هذه الأمور البوصلة التي على ضوئها يسير الإنسان و يعمل، ولكن في بعض الأحيان تكون مفقودة لديه نتيجة ارتكابه للمحرمات والسهو والغفلة عنها، فيضيع الاتجاه وتحدث المشكلات ويجهل كيفية الخروج منها، وهنا نسأل: ما هو السبيل للخروج من هذه المشكلات والعيش باستقرار في هذه الحياة الدنيا. 

قال أحد العلماء[1] ابتليت بمشكلات فكرية في بدية شبابي وطلبي للعلم، والمشكلات أحيانا تكون مشكلات مادية خارجية وأخرى مشكلات فكرية داخلية، والمشكلات الداخلية الفكرية يكون أثرها على النفس أكثر من المشكلات الخارجية أحيانا، فصارت عندي نتيجة ذلك بلبلة فكرية، فتأثرت شديداً لذلك خوف السقوط في خط الانحراف، فذهبت لفلان وفلان لحل هذه المشكلات، لكنهم لم يستطيعوا وبالنتيجة ما تمكنت من حلها، بعد ذلك فكرت أن ألجأ إلى الإمام الرضا(عليه السلام) وذهبت إليه لأتوسل به في حل هذه المشكلات، فتوسلت وقلت سيدي: لقد ابتليت بمشكلات فكرية ولم أجد لها حلاً وأنتم الملاذ الأخير، فإن لم تنقذوني يصيبني الانحراف!، يقول توسلت وتوسلت وألححت في التوسل، وفي يوم من الأيام رأيت في عالم الرؤيا رأيت شخصين داخل الضريح، فألهمت في عالم الرؤيا أن هذا النبي(صلى الله عليه وآله) وهذا الإمام الرضا(عليه السلام)، وكنت لا أرى وجوههم، بل أبدانهم فقط، فخرج اصبع من الضريح فأُلهمت أنه اصبع الإمام الرضا(عليه السلام) وأشار لي إلى مكان، فنظرت إلى المكان الذي أشار إليه، وإذا به قبر أحد العلماء الراحلين عن هذا الدنيا، فمشيت إلى قبره فوجدت العالم جالس على قبره يقرأ القرآن، فوضعت يدي على كتفه فنظر إلي ولم اتكلم معه، في هذه الأثناء أيقضني أحدهم فانقطعت الرؤيا واستيقظت، فأنا الآن لما وصلت إلى بيت القصيد كان يجدر بي أن أسأل هذا العالم عن مسألتي، لكنهم أيقظوني، فتأثرت كثيرا، فجئت إلى حرم الإمام الرضا(عليه السلام) وخاطبته فقلت: أيها الإمام الرضا(عليه السلام) أنا توسلت بكم مدة وحولتموني ولكن ما وصلت إلى النتيجة، وأنا في حالة التوسل جاءت فكرة في ذهني وهي أن أذهب إلى قبر ذلك العالم الذي حُولتُ عليه في المنام، فجئت ووقفت على قبره وإذا بي أرى ابن ذلك العالم يقرأ القرآن على قبره وهو يلبس نفس القباءة والعباءة والنظارة تمام كما رأيت والده يلبس في عالم الرؤيا، فمسكت كتفه ونظر إلي كما نظر إلي والده في الرؤيا، فقال لي تفضل، فقلت: أنت في الواقع حوالة الإمام الرضا(عليه السلام) فهو الذي حولني عليك وأريد أن تحل هذه المشكلة، وقصصت له المشكلة، هو لما سمع مني فكر ثم قال لي:

أولاً: كل يوم بعد صلاة الصبح ضع يدك اليمنى على قلبك وقل (يا فتاح) سبعين مرة، وهذا من المجربات في المشكلات، فالله فتاح يفتح الأبواب المغلقة.

ثانياً: ما دمت في مدينة مشهد المقدسة كل أحضر في حرم الإمام الرضا(عليه السلام) وانظر إلى الضريح متوقعاً الفرج، حتى عينك لا تغلقها كأن في هذه الثانية يأتي الفرج والحل بهذا الأمل والرجاء.

ثالثاً: أقرأ القرآن بمقدار الإمكان مرة واثنين وثلاثة بمقدار الإمكان، فقراءة القرآن فيها بركة.

فلم أفهم الربط بين هذه الأشياء وما أنا فيه من مشكلات، ولكني عملت بهذه الثلاثة وقد ختمت القرآن ثلاث مرات، ففي القراءة الأولى لم يحصل شيء وفي الثانية أيضاً، ولكن في الثالثة بدأت تتفتح لي الآفاق الرحبة ببركة قراءة القرآن والتفكر والتدبر فيه، وإذا بتلك المشكلات الفكرية كلها تحل ولم يبق منها ولا واحدة.

وكانت هذه الأمور الثلاثة عجيبة بالنسبة لي، لأن ليس فيها أي ارتباط بما أنا فيه، وكان سبب عجبي أني أعلم أن الله(عزّ وجلّ) غير قائل بالربط بين الأشياء، فالربط والارتباط من قوانينا في الحياة الدنيا، أي أني كنت أفكر في حل المشكلات بطريقة ارتباطية بين السبب والمسبب، ولكن على ما يبدو كان علي أن افكر بطريقة مختلفة لحل تلك المشكلات.

فالمشكلات لاتحل بمعرفة سبب حدوثها فقط بل بمعرفة الأجواء المحيطة بها وفهم احتياجاتها من متطلبات، فإذا جُهلت وغابت واستترت عن البصيرة والذهن، غابت الحلول واستحالت وبعدت، فنلاحظ القرآن الكريم يشير إلى هذه الحقيقة في قوله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}[2]، إذ ورد في تفسير هذه الآية رواية رويت بسندها المذكور، أن الإمام الصادق(عليه السلام) قال لسليمان بن خالد: ((ياسليمان إن لك قلباً ومسامع وإن الله إذا أراد أن يهدي عبداً فتح مسامع قلبه، وإذا أراد به غير ذلك ختم مسامع قلبه فلا يصلح أبدا...))[3].

فالتدبر والتأمل والغوص في الحقائق أساس العمل إذ لايمكن العمل بدونه وهو موقوف على انفتاح القلوب وإقفالها ومرهون به، الأمر الذي يعني حدوث الإدراك العقلي، والذي يزداد عمقاً ووضوحاً وجلاءً بازدياد قوته التي لا تتحقق إلا بالانفتاح وفك الأقفال وهي المعاصي وآثار الذنوب.

لذا عضدت الرواية هذا المعنى في الآية بتعبيرها بكشفها عن حقيقة أن القلوب وهي الإدراكات العقلية والنفسية كما هو في الظاهر يتم عن طريق جارحة السمع، كذلك الفهم الباطني العميق يتم عن طريق السمع الذي يحدث عبر التواصل الغيبي والروحي، وهو مرتبط بإرادة الله تبارك وتعالى: ((يا سليمان إن لك قلباً ومسامع وإن الله إذا أراد أن يهدي عبداً فتح مسامع قلبه، وإذا أراد به غير ذلك ختم مسامع قلبه فلا يصلح أبدا...))، وقد عبر القرآن عن ذلك بقوله تبارك وتعالى: {لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَآ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ}[4]، وهي أذن محمد وآل محمد (صلوات الله عليهم أجمعين).

فقد ورد في الرواية بيان مصداق هذه الأذن الواعية ما نصه عن الإمام أبي جعفر الباقر(عليه السلام): أنه ((قال: لما نزلت الآية: (وتعيها أذن واعية) قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: سألت الله أن يجعلها أذنك يا علي))[5]، ونقل أيضاً عن عبد الله بن الحسن قال: لما نزلت (وتعيها أذن واعية) قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لعلي وآله))[6]، كما نقل السيوطي في دره المنثور عن بريدة أنه قال: قال رسول الله (صلّ الله عليه وآله) لعلي(عليه السلام): ((إن الله أمرنى أن أدنيك ولا أقصيك وأن أعلمك وأن تعى وحق لك أن تعى، فنزلت هذه الآية : وتعيها أذن واعية))[7]، فالسمع واسطه الأذن الواعية وهو مرتبط بالإدراك العقلي العميق الذي يعبر عنه بالواعي في الآية.

وهو يتحقق مع جلال القلوب وإرجاعها إلى طبيعتها التي خلقت عليها قبل ارتكاب المعاصي والذنوب صغيرها وكبيرها المقصودة وغير المقصودة، وغير المعصوم غير معصوم.

فنستفيد من هذه القصة في حياتنا العملية، أنه يلزم علينا أن نلتفت إلى حل المشكلات الفكرية المعقدة التي تنشأ في حياتنا إلى التالي:

أولاً: التواصل مع الله سبحانه وتعالى فإن الأيواب المغلقة تفتح لكل شيء خصوصاً العلم والفهم، فقد ورد في الدعاء عن الإمام زين العابدين(عليه السلام) أنه كان يقول إِذَا عَرَضَتْ لَهُ مُهِمَّةٌ أَوْ نَزَلَتْ بِهِ ، مُلِمَّةٌ وَ عِنْدَ الْكَرْبِ: ((يَا مَنْ تُحَلُّ بِهِ عُقَدُ الْمَكَارِهِ، وَيَا مَنْ يُفْثَأُ بِهِ حَدُّ الشَّدَائِدِ، وَيَا مَنْ يُلْتَمَسُ مِنْهُ الْمَخْرَجُ إِلَى رَوْحِ الْفَرَجِ.

ذَلَّتْ لِقُدْرَتِكَ الصِّعَابُ، وَتَسَبَّبَتْ بِلُطْفِكَ الْأَسْبَابُ، وَجَرَى بِقُدرَتِكَ الْقَضَاءُ، وَمَضَتْ عَلَى إِرَادَتِكَ الْأَشْيَاءُ، فَهِيَ بِمَشِيَّتِكَ دُونَ قَوْلِكَ مُؤْتَمِرَةٌ، وَبِإِرَادَتِكَ دُونَ نَهْيِكَ مُنْزَجِرَةٌ.

أَنْتَ الْمَدْعُوُّ لِلْمُهِمَّاتِ، وَأَنْتَ الْمَفْزَعُ فِي الْمُلِمَّاتِ، لَا يَنْدَفِعُ مِنْهَا إِلَّا مَا دَفَعْتَ، وَلَا يَنْكَشِفُ مِنْهَا إِلَّا مَا كَشَفْتَ، ...))[8].

ثانياً: تهيئة الأجواء المناسبة للانفتاح الفكري والذهني والإدراكي بأن يكون محل التواجد محل طاعة لله سبحانه وتعالى، وذلك أن قول ابن صاحب القبر المذكور آنفاً: أن تكون في الحرم، وما يوجد في الحرم الإمام المعصوم(عليه السلام) والملائكة بحس الروايات الموثوقة، والراغبون بطاعة الله تعالى من الناس، يقرأ القرآن وتصلى فيه ركعات لله سبحانه وتعالى، وهذا كله طاقة ايجابية توثر على انفتاحك النفسي وتحرك فيك قريحة العمل الذي يبدأ بالتفكير الذهني التي يحتاج فيها إلى الصفاء.

فالمشكلات تحتاج إلى التوسل بالأئمة(عليهم السلام) والطلب من الله تبارك وتعالى لحل المشكلة والإيقان بحل المشكلة، فإذا قصد الحرم يلزم أن يكون لا لمجرد القصد، بل الإيقان بأنه الموضع الذي يستجاب فيه الدعاء أكيداً وتحل المشكلات، وعليك أن توقن بأن الحاجة قضيت، فقد ورد في الحديث بسنده عن أبي عبد الله(عليه السلام) قال: ((إذا دعوت فأقبل بقلبك وظن حاجتك بالباب))[9].

ثالثاً: يقول أهل المنطق النتيجة تتبع أخس المقدمات ويجب علينا لحل أي مشكلة قراءة القرآن التي فيها ثمرتان رئيسيتان:

الأولى: جودة ودقة وصحة المعلومات الأساسية التي تبنى عليها النتائج.

الثانية: قابلية القرآن الكريم على تزويد قارئه بالانفتاح الذهني الذي نعبر عنه بالفهم، والذي لا يتمتع به كتاب آخر، ويتحقق ذلك ليس بمجرد القراءة حتى لو كانت متكررة بل لابد من الإيمان بالله تبارك وتعالى.

الهوامش:----------------------------

[1] نبقي اسم العالم مجهول حفاظاً على الخصوصية.

[2] سورة محمد: 24.

[3] المحاسن - أحمد بن محمد بن خالد البرقي - ج ١ - الصفحة ٢٠٠

[4] سورة الحاقة: 12.

[5] تفسير فرات الكوفي - فرات بن إبراهيم الكوفي - الصفحة ٥٠٠

[6] نفس المصدر.

[7] الدرر المنثور في التفسير بالمأثور، جلال الدين السيوطي، ج 6، ص: 260.

[8] الصحيفة السجادية: ص: 53. 

[9] أصول الكافي، محمد بن يعقوب الكليني، ج2، ص: 473.

: الشيخ مازن التميمي