إسلامها
إن هذا العنوان هو مما كان يرافق تلك النخبة التي منّ الله عليها بالإيمان في أول ظهور رحمة الله للعالمين في مكة، حتى إن خديجة عليها السلام باتت الملكة المتربعة على رتبة السبق إلى الإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم بعد علي بن أبي طالب عليه السلام، فضلاً عن ذلك فإن الحديث عن وقت إسلام أولئك السابقين إلى الإيمان بالله ورسوله يكشف عن حقيقة قلوب هؤلاء وطهارة باطنهم وسلامة فطرتهم وتعقلهم للأمور وحنكتهم في اتباع الحق.
ولذلك كان الغرض من هذا العنوان هو بيان هذه الجوانب الكمالية في شخص أم المؤمنين خديجة عليها السلام، وامتيازها على غيرها من نساء المسلمين ورجالهم.
المسألة الأولى: وقت إسلامها
إنّ من السمات الخاصة التي ظهرت في حياة السيدة خديجة عليها السلام هي سمة إيمانها بالله وتصديقها برسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
والسبب في ذلك يعود إلى أن الله تعالى قد اختار لها أن تكون ممن يشهد هذه الرحمة الإلهية من الأمّة فقد تزوجها النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل البعثة بخمس عشرة سنة ــ كما مرّ بيانه ــ.
مما جعلها أول من يتلقى هذا الأمر ليؤمن به ويعين صاحبه ويناصره ويؤازره حتى لحقت بربها مؤمنة مجاهدة محتسبة بعد أن قضت مع رسول الله عشر سنوات أخرى ليكون حصيلة ما عاشته مع النبي الأعظم خمساً وعشرين سنة.
هذه السنوات العشر كانت فيها خديجة قد عايشت حركة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولاحقته في جهاده ومعاناته وآلامه ونشر رسالته.
ولذا: فقد اختار اللهُ لها أن تكون أول من آمن به وصدق برسوله الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم فعن ابن عباس أنه قال: (كان علي بن أبي طالب أول من آمن من الناس بعد خديجة)[1]، أي: أنها عليها السلام كانت أول من آمن بالله وصدق رسوله صلى الله عليه وآله وسلم[2].
وقد جاء في الحديث الشريف، عنه صلى الله عليه وآله وسلم، أنه قال: (خديجة بنت خويلد سابقة نساء العالمين إلى الإيمان بالله وبمحمد صلى الله عليه وآله وسلم)[3].
المسألة الثانية: إنها أول من صلى مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم
مثلما جعل الله تعالى لحياة هذه المرأة العظيمة من السمات الخاصة قبل الإسلام، جعل لها كذلك من السمات بعد الإسلام.
فبعد أن سبقت الناس إلى الإيمان بالله تعالى وتصديق رسوله صلى الله عليه وآله وسلم كذلك سبقتهم إلى الصلاة معه؛ فقد روي أن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم قد بعث يوم الاثنين، وصلت خديجة معه في نفس اليوم[4].
بل وتفيد بعض الروايات أنها صلت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم والإمام علي عليه السلام أول صلاة جماعة في الإسلام؛ فقد أخرج الحاكم النيسابوري عن عفيف الكندي قال: (كنت امرأً تاجراً وكنت صديقا للعباس ابن عبد المطلب في الجاهلية، فقدمت لتجارة فنزلت على العباس بن عبد المطلب بمنى، فجاء رجل فنظر إلى الشمس حين مالت فقام يصلي، ثم جاءت امرأة فقامت تصلي، ثم جاء غلام حين راهق الحلم فقام يصلي.
فقلت للعباس من هذا؟ فقال: هذا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ابن أخي يزعم أنه نبي ولم يتابعه على أمره غير هذه المرأة وهذا الغلام، وهذه المرأة خديجة بنت خويلد امرأته، وهذا الغلام ابن عمه علي بن أبي طالب.
قال عفيف الكندي، وأسلم وحسن إسلامه، لوددت أني كنت أسلمت يومئذ فيكون لي ربع الإسلام)[5].
والرواية واضحة الدلالة على اختصاص السيدة خديجة الكبرى بهذه المنقبة في أسبقيتها إلى طاعة الله واتباع رسوله المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم فضلا عن سمات أخرى سيمر بيانها.
مال خديجة عليها السلام
أشارت العديد من المصادر التاريخية وغيرها إلى كثرة مال خديجة عليها السلام وآثاره في تحريك الاقتصاد في مكة ودوره في دعم الرسالة المحمدية، وما رافق ذلك من امتعاض لبعض الكتّاب الذين وجدوا مغرمهم في إثارة الشبهات حول هذا المال، ولذا وجدت لزاما مناقشة هذه الأقوال والرد على هذه الشبهات.
المسألة الأولى: حجم مالها
لقد تناول المؤرخون وغيرهم حجم مال خديجة عليها السلام فكان كالآتي:
1ــ روى الشيخ الطوسي في أماليه في أمر مبيت علي عليه السلام في فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فمما ذكر: (وأمر أن يبتاع رواحل له وللفواطم ومن أزمع للهجرة معه من بني هاشم.
قال أبو عبيدة: فقلت لعبيد الله ــ يعني ابن أبي رافع ــ أو كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجد ما ينفقه هكذا؟
فقال: إني سألت أبي عما سألتني، وكان يحدث بهذا الحديث، فقال: فأين يذهب بك عن مال خديجة عليها السلام)[6].
2ــ قال المسعودي: وكانت خديجة بنت خويلد من مياسير قريش وتجارها تستأجر الرجال وتبعثهم في مالها[7].
3ــ قال السيد ابن طاووس: (ولما كان بمكة كان له مع ماله ومال كفيله وعمه أبي طالب مال خديجة التي يضرب بكثرة مالها الأمثال)[8].
4ــ قال المجلسي: (كانت أكثر قريش مالاً وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينفق منه ما شاء في حياتها)[9].
ونقل في وصفها: (بأنها كانت ملكة عظيمة، وكان لها من الأموال والمواشي ما لا يحصى)[10].
5ــ قال التستري: (إن أهل الأثر مجمعون على أن خديجة كانت أيسر قريش وأكثرهم مالا وتجارة)[11].
6ــ قال الشيخ أبو الحسن البكري: (كان لخديجة في كل ناحية عبيد ومواشٍ، حتى قيل: إن لها أزيد من ثمانين ألف جمل متفرقة في كل مكان)[12].
المسألة الثانية: خديجة تهب جميع ما تملك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
هذه الصورة التاريخية عن حجم المال الذي تملكه السيدة خديجة عليها السلام قد انتقل إلى ملكية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك من خلال ما قامت به خديجة عليها السلام من تقديمها هذا المال هبة إليه صلى الله عليه وآله وسلم بعد زواجها منه ليتصرف فيه كيفما يشاء، فقد روى المجلسي قدس سره: (إن خديجة قالت لعمها ورقة: خذ هذه الأموال وسر بها إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقل له: إن هذه جميعها هدية له، وهي ملكه يتصرف فيها كيف شاء، وقل له: إن مالي وعبيدي وجميع ما أملك، وما هو تحت يدي فقد وهبته لمحمد ــ صلى الله عليه وآله وسلم ــ إجلالاً وإعظاماً له، فوقف ورقة بين زمزم والمقام ونادى بأعلى صوته: يا معاشر العرب إن خديجة تشهدكم على أنها قد وهبت نفسها ومالها وعبيدها وخدمها وجميع ما ملكت يمينها والمواشي والصداق والهدايا لمحمد ـ صلى الله عليه وآله وسلم ــ وجميع ما بذل لها مقبول منه وهو هدية منها إليه إجلالاً له وإعظاماً ورغبة فيه، فكونوا عليها من الشاهدين[13].
والسؤال المطروح هو: ماذا عمل النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بهذا المال؟
أولاً: لم تشر الروايات الصحيحة إلى أن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قد استفاد من هذا المال لغرض التجارة، أي أنه لم يستخدمه في التجارة بعد أن انتقل إليه من خديجة عليها السلام.
بمعنى آخر: لم يستخدمه صلى الله عليه وآله وسلم خلال الفترة التي سبقت البعثة النبوية والبالغة خمس عشرة سنة، وهذا يدل على حكمته البالغة، فقد قطع بهذا الصنيع الطريق على أعدائه في مختلف الأزمنة من التقول والافتراء عليه في غرضه من الزواج بخديجة عليها السلام على الرغم من هذه السنين.
ثانيا: أما بعد البعثة فقد استخدم النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم هذا المال في الانفاق في سبيل الله تعالى ونشر كلمة التوحيد.
حتى قال:
«ما نفعني مال قط مثل ما نفعني مال خديجة عليها السلام»[14].
(وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يفك من مالها الغارم، والعاني، ويحمل الكل، ويعطي في النائبة، ويرفد فقراء أصحابه إذ كان بمكة، ويحمل من أراد منهم الهجرة)[15].
القرآن الكريم يمتدح مال خديجة عليها السلام
لم يكن القرآن الكريم بزاهد في بيان ما لخديجة عليها السلام من مقام وكرامة عند الله تعالى لاسيما وأنه تعالى قال في محكم كتابه الكريم:
{فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} [16].
فكيف بمن صدق الله في نفسه وجاهد في سبيله ونصر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
قال تعالى مخاطباً حبيبه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم:
{أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَىٰ}[17].
فهذه الآيات الكريمة في تفسيرها الظاهري تتحدث عن مرحلة من مراحل حياة النبي الأعظم . وتظهر نعمة الله عليه في هذه المراحل، فهو اليتيم الذي هيّأ الله له في بيت جده عبد المطلب وعمه أبي طالب خير مأوى، وهو الذي ضل عنه قومه فلم يهتدوا إليه وقد شب بين ظهرانيهم، وهو الفقير الذي أغناه الله تعالى (بمال خديجة بنت خويلد عليها السلام)[18].
الهوامش:------------------------------------
[1] الاستيعاب لابن عبد البر: ج3، ص1091؛ وجاء فيه قوله: (هذا اسناد لا مطعن فيه لأحد لصحته وثقة نقلته).
[2] المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري: ج3، ص184؛ الذرية الطاهرة للدولابي: ص53، تاريخ الإسلام للذهبي: ج1، ص128.
[3] المستدرك للحاكم النيسابوري: ج3، ص184؛ نظم درر السمطين للزرندي: ص207؛ الجامع الصغير للسيوطي: ج1، ص599.
[4] المستدرك للحاكم النيسابوري: ج3، ص183؛ الفصول المختارة للشريف المرتضى: ص280؛ البحار للمجلسي: ج38، ص286.
[5] المستدرك ــ الحاكم النيسابوري: ج3، ص83.
[6] الأمالي للشيخ الصدوق: ص468.
[7] البدء والتاريخ للمسعودي: ج1، ص226.
[8] الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف للسيد ابن طاووس: ص406.
[9] بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج16، ص20.
[10] مستدرك سفينة البحار للنمازي الشاهرودي: ج9، ص478.
[11] الصوارم المهرقة لنور الله التستري: ص326.
[12] بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج16، ص22، نقلا عن أبي الحسن البكري في كتابه اللمع؛ الخصائص الفاطمية للكجوري: ج1، ص449.
[13] بحار الأنوار للمجلسي: ج16، ص22.
[14] الأمالي للشيخ الطوسي: ص468؛ حلية الأبرار للسيد هاشم البحراني: ج1، ص140؛ بحار الأنوار للمجلسي: ج19، ص63؛ التعجب لابي الفتح الكراكجي: ص103؛ مستدرك سفينة البحار: ج3، ص34. مستدركات علم الرجال للشاهرودي: ج8، ص572.
[15] الأمالي للطوسي: ص468.
[16] سورة آل عمران، الآية: 195.
[17] سورة الضحى، الآيات: 6، 7، 8.
[18] أنظر في اختصاص هذه الآية بمال خديجة عليها السلام وأن الله تعالى أغناه بهذا المال: الإفصاح للشيخ المفيد: ص212؛ الخرائج والجرائح لقطب الدين الراوندي: ج3، ص1045؛ مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب: ج3، ص295؛ تفسير فرات الكوفي: ص569؛ بحار الأنوار للمجلسي: ج35، ص425؛ مستدرك سفينة البحار: ج7، ص483؛ عمدة القارئ للعيني: ج19، ص299؛ تحفة الأحوذي للمباركفوري: ج6، ص492؛ تفسير السمرقندي: ج3، ص568؛ تفسير السمعاني: ج3، ص526؛ تفسير البغوي: ج4، ص499؛ تفسير القرطبي: ج20، ص99؛ تفسير الآلوسي: ج30، ص162؛ أضواء البيان للشقنيطي: ج8، ص561؛ المبسوط للسرخسي: ج3، ص11.
اترك تعليق