أهمية التعقل

أهمية التعقل

إن رأس مال المرء في كل أموره في الحياة هو التعقل، فالتعقل هو نبراس الحياة وضياؤها وجماع الخير ورأس الفضائل ومنبع الكمالات، وما من الله تعالى على عباده بنعمة مثل العقل السليم والإدراك الصحيح، وإذا أراد سبحانه بأحد خيراً كمل له عقله وأنار بصيرته وكان من أحب خلقه إليه، وإذا أراد به شراً يستوجبه بأعماله سلب عقله حتى يكون يقينه شكاً وعزمه وهنا وإدراكه وهما.ً

وليعلم أن العقل اثنان عقل فطري وآخر مكتسب فالفطري منه ما جهز به الإنسان في أصل خلقه وتميز به عن البهائم من قوة يدرك بها مقدمات الأشياء وعواقبها ويوازن بين نفعها وضررها، وضمير انطوى عليه يدرك به محاسن الأفعال ومقابحها.

والمكتسب منه تنمية لما غرس فيه بالتفكير الدائب والتأمل السليم ومزاولة الحياة والاعتبار بالتجارب والحرص على معرفة الحق والحقيقة.

وقد بعث الله تعالى الأنبياء لتحريك إدراكات الإنسان وإثارة دفائن عقله، لينتبه لحقيقة المشهد الذي يجده ويعيش فيه ويدرك أبعاده وسننه وآفاقه، فينسق بينه وبين تصرفاته ليستثمر هذه الحياة على النحو الأمثل.

وعليه فخليق بكل إنسان بلغ سن الإدراك والرشد، وعرف أن الحياة هادفة لا عبث فيها وجادة لا هزل في تكوينها أن يتعهد بتنمية عقله وصقله على الدوام، حتى يزداد يوماً بعد يوم بصيرة وهدى ويستزيد حكمة وسدادا،ً ليعيش حياة محسوبة خطواتها بينة غاياتها.

ويتأكد وجوب ذلك على من وقع في موقع الريادة لغيره في شأن من شؤون الحياة، كالآباء الأولادهم والمعلمين لتلاميذهم والمديرين في دوائرهم والقادة في شؤون قيادتهم، فيجب على كل هؤلاء مزيد التعقل في الأمور، لأنهم يتحملون مسؤولية الآخرين الذين يوجهونهم، كما قال تعالى: {ولَيَحْمِلُن أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالَا مُعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}[1].

مفاتيح التعقل

وليعلم أن مفاتيح التعقل أربعة؛

1-  مجانبة الهوى، فإن الأهواء مغاليق للعقل وحواجب للإدراك، فمن غلب عليه هواه كان حجاباً بينه وبين الأشياء، يلونها بصبغته ويحورها على وفق رغبته، فلا يرى في مرآة عقله إلا نفسه وأهواءه، متنكرة في لبوسها، متخفية في مظاهرها وصورها. ولا يشفع له حينئذ خبرته وفطنته فكم صاحب خبرة ارتجت عليه خبرته، وصاحب فطنة تلبدت عليه فطنته، إذ غلبه هواه فلم يكد يبصر شيئا.ً ومن سلم من الهوى توقدت بصيرته وانفتحت منافذ عقله وبصره الله تعالى بأمور الدنيا على حقيقتها وعرفه خيرها وشرها، فإن لم يتيسر له ذلك فلا أقل من أن يلتفت إلى أن الأمر من مواطن الشبهة، فيقف عنده ويأخذ حذره منه، وقد ورد في الحديث الشريف: «إنما الأمور ثلاثة، أمر بين رشده فيتبع، وأمر بين غيه فيجتنب، وأمر مشكل يرد علمه إلى الله ورسوله»[2]، و«إن الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات».

2-  التثبت والحذر، فإن الله خلق الإنسان وهو لا يعلم شيئا،ً فهو على هذه الصفة حتى يتعلم، فلا ينبغي أن يتعجل في الحكم ويتسرع في الاستنتاج ويتساهل في الإثبات، ويستحي من التوقف ريثما تتضح الرؤية وينضج التقدير ويستحكم الرأي. وعلم الإنسان بجهله نصف علمه، حيث يتأتى له التعلم والحذر والاحتياط، ومن جهل بجهله فقد جهل الشيء مرتين وعجز عن أن يتعلم أو يحذر، فارتكب الخطأ ووقع في الخطيئة.

3-  الأخذ بالمشورة والانتفاع بتجارب الآخرين وخبراتهم، فإن من شاورالناس شاركهم في عقولهم، وقد خلق الله تعالى الناس يحتاج بعضهم إلى بعض في التعقل والإدراك كالحاجة في ما بينهم في المعيشة وتهيئة شؤون الحياة، وجعل رأي الجماعة أقرب إلى الصواب مما يعقله الشخص بنفسه، لما فيه من تراكم الخبرات وتعاضد الدلالات.

ولا ينبغي للعاقل أن يجرب أمراً تمت تجربته واستخلص عبره، فإن تجربة المجرب تسبب الأذى وتطيل الطريق وتبعث على الندامة.

هذا، وإن في منهج الأجيال السابقة مواريث من العقلانية والحكمة تتمثل في طيف واسع من السنن والآداب الاجتماعية والعلمية والعملية، هي عصارة من تجارب الحياة وما أفضت إليه من وجوه السلوك السليم والعمل الحكيم ينبغي للأجيال اللاحقة تعلمها والاقتداء بها، وتربية أنفسهم عليها، وتجنب إعادة تجربتها وتجمع مرارتها ومضاعفاتها، مع ما يوجبه من إنهاك للنفس وخسارة للوقت وإضاعة للفرصة وغير ذلك من المحاذير الفردية والاجتماعية.

4-  الاطلاع على السنن الكونية ذات العلاقة في الأنفس والآفاق، فإن الله سبحانه وتعالى لم يخلق هذا العالم في شيء من شؤونه على سنة الارتجال بأن يوجده في كل أن خلقاً جديداً غير ذي علاقة بما تقدمه ولا مستتبع لما لحقه، بل خلقه بقدرته على سنن جارية وموازين قائمة يستتبع بعض حلقاته بعضا،ً فمن أراد استثمار هذه الحياة كان عليه أن يتعقل سننها وقواعدها ويعرف أسبابها ومسبباتها، فيسلك في السير إلى كل مقصد سبيله ويلتجئ في تحصيل كل مسبب إلى سببه، ولا يلقي الأمور على عواهنها من غير روية وتدبير، فيفاجأ بانتقاض غرضه وتخلف مقصده.

ومما يساعد على ذلك أن يتأمل المرء في كل شيء أو حدث في الحياة في أمر نفسه أو أمور الآخرين نظرة حكيمة، ويلتفت إلى ما يمكن أن ينبه عليه حتى كأنه مفردة من مفردات الدراسة وهي فعلاً كذلك، فإن في كل شيء درساً من دروس الحياة فإذا وجد خطأ من نفسه التفت إلى كونه معرضاً للزلة فلم يكثر من ادعاء العلم ومزاعم اليقين في غير مواضعها ثم تأمل سببها من تسرع أو غيره فاعتبر به كي لا يقع في أمثاله، وإن وجد فناء كذبول زهرة أو خراب بيت أو مات إنسان تذكر رحيله عن هذه الحياة وقلل ذلك من الركون إليها والحرص في سبيلها والتوصل بكل وسيلة إلى متعها، وإن وجد في امرئ تجاوز القيم الفاضلة ليتوصل إلى بعض الملذات فأخفق في ذلك اعتبر به كيف ذهب جهده سدی وسعيه باطلاً ولكن أعماه طلب اللذة فسعى سعياً باطلا،ً وأن القيم النبيلة أولى بالسعي لأهلها، فما بال المذعن بها يتساهل في طلبها والراغب في اللذائذ يتفاني من أجلها، وإن وجد أن امرأ دبر مكيدة لأخيه فوقع فيها أو في مثلها اعتبر بجهله ورأى أن فيه عظة عن أن يكيد الإنسان غيره وعبرة على أن المرء يدان كما يدين وما إلى ذلك.

ولا غنى عن التعقل في الأمور وتقليبها واستبطانها واستشارة أهل الرأي الموثوق بهم فيها حسب ما يتيسر بمزاعم التوكل ودعاوى الإخلاص والتوسل إلى استخارة الله تعالى والتعبد له، فإن ذلك جهل بسنن الحياة وسوء فهم للشريعة والدين وتخليط في الأمور، لأن الله سبحانه وتعالى جعل لكل شيء سبباً وإلى كل مقصد سبيلا، ووهب للإنسان قوة عاقلة يدرك بها ما وسعه ويستكشف بها ما جهله، فعليه أن يستعين بهذه القوة وما تفتق عنه من أدوات. فمن سلك في الأمور غير سبلها وترك التمسك بأسبابها أغلقت عليه منافذها وأوصدت في وجهه أبوابها، ولم توجب له بركات الأرض ولا فتحت له أبواب السماء، ومن توكل على الله تعالى ولجأ إلى ما جعله من الأسباب أوتي بركاتها، فإن أغلقت عليه أبواب الأرض فتحت له أبواب السماء حتى يقدر له الخير في ما استخار الله فيه ويسدده الله في ما عجز عنه من حيث لا يحتسب. فينبغي للإنسان أن ينظر إلى هذه الحياة والمسلك فيها نظرة المتعلم، ولا يغادر هذه النظرة مهما بلغ حتى يلقى الله تعالى وهو على هذه الصفة، فلعمري إن هذه الحياة مدرسة للإنسان عميقة أغوارها متسقة صفوفها موصولة مراتبها منظمة درجاتها. ولكل إنسان فيها منزلته حسب مرتبته في التعقل والهدى، ولن يستكمل أحد التعلم ما دام هو فيها ولا يأمن الجهل حتى يلقى خالقها وبارئها.

وعليه أن يعتني بمطالعة التاريخ بتمعن وتفهم، فإن في التاريخ عظة تساعد على انتفاء الهوى، وآفاقاً توجب مزيد التثبت والحذر، وهو بعد ذلك يعكس تجارب الآخرين فيكون في قوة المشاور الصامت، ويمثل السنن الكونية الاجتماعية والتاريخية في ما تتضمنه من الحوادث. وقد قص الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد جملة من أحسن قصص الأمم السابقة، ناصحاً باستنطاقها وأخذ العبرة والدروس منها، فالناظر في أخبار من سبق بتمعن كالشاهد لها، والواقف عليها كالمختبر لها، فيكتسب بذلك خبرة تغنيه عن عناء الامتحان.

وينبغي أن يتحرز الناظر في التاريخ عن التأثر بالنماذج السيئة أو التفاخر بالآباء والأجداد، فإنه يؤدي إلى التقاعس عن كسب الفضيلة وتحصيل المجد، وذلك حيلة العاجز وذريعة المتكاسل، وإنما كل امرئ ابن يومه وباني غده، فليكن عصامياً يعول على نفسه لا عظامياً يتشبث بذيل أمجاد آبائه، بل لا بد أن يكون مجد الآباء حافزاً إضافياً للأبناء على بذل الجهد في جميع مجالات الحياة والقيم الفاضلة.

ولا يغيبن عن المرء أحوال مجتمعه وحاضره والتمعن فيها وفي سننها وأسبابها، فإنه أولى بالاطلاع من الحوادث السابقة من جهة حضورها ووضوح ملابساتها، مع ما فيه من العون على معرفة مواضع الشبهة ومواطن الفتنة ليتحرز عنها ويتبصر فيها، فإن من لم يبصر ذلك كان على حدحد الأعمى السائر في طريق محفوف بالمخاطر أو أشبه بالهمج الرعاع ممن يتبع كل ناعق ويصغي إلى كل ناطق، وكثيراً ما يقع من حيث لا يحتسب جزءاً من مشروع لا يشهده وآلة لغاية لم يخطط لها ولا يرى مشروعيتها.

ولا يفرطن في ذلك ليكون شغله الشاغل فيكون صارفاً له عن عمله و موجباً لضياع عمره، ولا يستغرقن في جزئيات أحوال لا قيمة لها ولا أثر للاطلاع عليها، فإنه عمل وضيع ومشغلة تافهة.

وليعلم أن الإيمان بالدين لا يقلل من عقل المرء وحكمته بل يحفزه ويزيده كما يظهر من ملاحظة القرآن الكريم حيث يحث دوماً على التعقل والتفكير ويحاج الكفار وعبدة الأصنام وأصحاب الأهواء على أساس قضاء العقل ومدركاته البديهية، وعلى ذلك تجري كلمات نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وأوصيائه عليهم السلام كما جاء طرف منها في نهج البلاغة، نعم يحول الدين دون التشبث بالتظني والوهم والاستحسان ونحوها ويرى لزوم التعبد بما يرد من النقل الثابت في مواردها وذلك علامة من علائم الإيمان بل هو من تمام العقل.

فإن وجد المرء من قوم أو شخص من أهل الدين أفكاراً وتصرفات مصادمة لثوابت العقل ونوازع الفطرة - نظير ما اتفق من الخوارج في صدر الإسلام أو ما يتفق من الجماعات المتطرفة في هذا العصر - فليعلم أن ذلك ليس من جهة ديانتهم بل من جهة أمزجتهم وصفاتهم التي لم تهذبها ديانتهم ولم تركها عبادتهم، فلم يتبصروا بالدين ولا استناروا به ولا تفقهوا فيه، بل أخذوا منه ضغثاً مزجوه بعصبياتهم وأخلاقهم، فيظن الناظر أن ذلك كله من الدين.

وليس الدين هو مجرد إكثار التعبد الله سبحانه وتعالى أو الجهاد في سبيله بل هو نحو من التعقل الجامع الحقيقة الحياة والحكمة فيها والعمل بموجبها، ورب تعبد زين تصرفات المرء الباطلة لنفسه فازداد به جهلا،ً أو قتال نشأ من مارب خفية أو انفعالات غير مهذبة فظن أنها جهاد في سبيل الله فازداد من الله تعالى بعدا،ً وقد جاء عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال وقد رأى خارجياً يتعبد في آناء الليل: «نوم على يقين خير من صلاة في شك»[3].

كما ينبغي الالتفات إلى أن التربية الدينية هي جماع الفضائل، فمن وجد في تربيته نقصاً وخللاً فلا يستند ذلك إلى الدين في شيء، بل ينشأ من عدم فهمه للدين أو عدم تمكن الدين من نفسه حتى يكون ملكة له وخلقا،ً وإنما حفظه کعقائد آمن بها من غير أن يربي نفسه على مقتضاها.

وكيف لا يكون الدين كذلك مع توجيهه دائماً إلى العقل في أصوله وفروعه وتذكيره بروائع الحكم في هذه الحياة مما يهدي طلاب الحكمة والبصيرة، فتأمل ما جاء في الكتاب وقصار كلمات النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونهج البلاغة تجد خطاباً متوجها إلى العقل منيراً للفطرة محفزاً للضمير محركاً للوعي، وانظر إلى القادة المصطفين فيه كالنبي النبي صلى الله عليه وآله وسلم ووصيه عليه السلام في سيرتهم وسلوكهم تجدهم من أكثر الناس اعتدالاً وحكمة، وأقواهم فطرة وعقلاً وأوضحهم فطنة وذكاء وأحسنهم زكاة وتربية حتى كانوا بحق أسوة لسائر الخلق.

ولا يظنن أحد بأن في ما ورد من التعبد في الدين ما ينافي احترام العقل، فإنه لم يرد التعبد بشيء يخالف قضاء واضحاً للعقل، وما ظن فيه مثل ذلك لا يخلو عن أحد أمرين؛

إما أن يكون العقل بعد استجماع التأمل والالتفات إلى جميع حيثيات الموضوع وأبعاده متحيراً بين خيارات عديدة فيرد الشرع بأحدها. وإما أن لا يكون للعقل إدراك ناف أو مثبت أصلا،ً فالتسليم بما تعبد به في مثله مما لا ينافي العقل بل هو من تمامه، فإن من وجوه الإذعان المنطقي بالشيء التعويل على أهل الخبرة فيه، وعدم الريبة في قولهم بمجرد ظنون واحتمالات ألا ترى أن المريض العاقل يعتمد على قول الطبيب الخبير الثقة من دون ترديد يقدح بثقته به وتعويله عليه.

الهوامش:----

[1] سورة العنكبوت 13.

[2] الكافي ج/1 ص/68.

[3] نهج البلاغة ج/4 ص/22.

: سماحة السيد محمد باقر السيستاني