الحسين والتشريع الاسلامي ــ الجزء الثاني

في خضم اجتياح مذهبي ــ سياسي غزا الساحة الإسلامية بعد وفاة رسول الله (ص) وما رافق تلك الفترة من أحداث سياسية ابتدأت بالسقيفة فالشورى وغيرها, كان من الصعب إعطاء أية فكرة أو انطباع عن الانحراف في الدين والتشويه الذي لحق بالشريعة والفوضى التي رافقت تأسيس تلك المذاهب لأن تأسيسها كان بمباركة السلطتين الأموية والعباسية فعندما يحكم السيف لا يرى الإنسان إلا ما يراه الحاكم المتسلط وتترسخ قناعاته بما يفرضه على الشعب من سياسة جائرة ومفاهيم منحرفة حتى يصل الأمر إلى تنزيه الحاكم من كل الموبقات التي يرتكبها كما أسس لذلك معاوية عندما أبتدع المذهب الجبري.

هذا المفهوم الذي طغى على الأمة الإسلامية على مدى قرون طويلة كان يعارضه على مدى مراحله مفهوم الدعوة إلى مفاهيم الإسلام الحقة وإصلاح الأود ومقارعة المنحرفين وقد حمل لواء هذه الجبهة الأئمة المعصومون (ع) وأصحابهم المخلصين منذ الانحراف الأول ووصل الأمر في بعض مراحله إلى الاصطدام المسلح.

وعن نشأة هذه المذاهب وأصحابها ومعتقداتها وآرائها وكتبها ومبانيها وكل ما يتعلق بها يستعرض العلامة الشيخ المحقق الكبير محمد صادق الكرباسي في الجزء الثاني من كتابه الحسين والتشريع الإسلامي الذي هو من ضمن موسوعته الضخمة (دائرة المعارف الحسينية) الظروف والملابسات والأسباب التي رافقت تأسيس هذه المذاهب وكيفية انتشارها ثم يتوسع في بحثه ببيان ما يطابق أو يعارض كلا من الشرع والعقل باعتماده على النصوص القرآنية والأحاديث الشريفة.

ارتكز الكرباسي في استعراضه لتلك المذاهب على الرئيسية منها والتي شغل أتباعها حيزا كبيرا من البلاد الإسلامية وهي الاباضية والحنبلية والحنفية والشافعية والمالكية وإذا استثنينا منها فرقتين وهما الإمامية والزيدية نستطيع القول أن تلك الفرق قد أولدتها السقيفة مع تباين بسيط في الرؤية.

فالأباضية تتماهى مع باقي الفرق في إنكار النص الذي يعتقد به الشيعة, ورغم أنهم يرون الخروج على الإمام الجائر إلا أن فقيه هذه الفرقة جابر بن زيد الأزدي البصري عمل بخلاف ذلك فكان متوافقا مع ولاة جائرين أمثال ابن زياد والحجاج وقد أوضح في رسالته لعبد الملك بن مروان مذهبه وهو عدم اعتقاده بشرعية خلافة ما بعد الشيخين.

 أما الزيدية فرغم أن اعتقادهم عدم التبري من الشيخين إلا أنهم يرون عصمة أهل الكساء (ع) فقط دون سائر الأئمة وقالوا بإمام من يخرج بالسيف على الحاكم الجائر ولا فرق في ذلك بين أبناء الحسنين (ع) في خلاف الشيعة الذين حصروا الإمامة في أولاد الحسين (ع)

أما الشيعة الإمامية فتشير النصوص التاريخية بوضوح إلى إنه ولد مع ظهور الإسلام وهو المسار الطبيعي له وإن لم يأخذ في وقته هذا المصطلح (التشيّع) فنشوء المحتوى والإطار للتشيّع كان موجوداً في حياة الرسول (ص) بل منذ بداية دعوته الشريفة كما جاء في تفسير الآية الشريفة (وأنذر عشيرتك الأقربين) فإنها لما نزلت دعا النبي (ص) قومه وقال لهم:

إني والله ما أعلم شاباً من العرب جاء قومه بأفضل مما قد جئتكم به ، إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه، فأيكم يؤازرني على هذا الأمر، على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم؟ فأحجم القوم عنها جميعا، فقال علي: أنا يا رسول الله، أكون وزيرك عليه، فقال له النبي (ص): (أنت أخي ووصيي وخليفتي من بعدي، فاسمعوا له وأطيعوا) وهذا الحديث رافق تفسير هذه الآية الشريفة في كل تفاسير الفريقين إضافة إلى الأحاديث الشريفة الكثيرة التي أكدت ذلك منها (علي وشيعته هم الفائزون) وغيرها فالفرق بين ما يعتقده الشيعة وغيرهم من المذاهب هو الفرق بين الآية المحكمة في القرآن الكريم والفلتة التي وقى الله المسلمين شرها

وبعد أن يشرح الكرباسي بالتفصيل كل ما يتعلق بالمذاهب الأربعة الأخرى وهي الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية ويستعرض كتبها وأصحابها يتطرق بالحديث إلى جذور المذاهب السبعة والظروف السياسية والفكرية التي نشأت في ظلها ثم يبين نقطة مهمة حول المباني الفقهية لهذه المذاهب وهي قوله: (ومن الملحوظ اختلاف تلك المباني بسبب التطورات التي أدخلها فقهاء كل مذهب على مذهب إمامهم ولدى دراسة سيرة أئمة المذاهب يتضح أن جميعهم باستثناء المذهب الإمامي لم يكن للأئمة دور في إنشاء المذهب الذي نسب إليهم)

وهذا الأمر يعزز بأن هذا المذهب هو الامتداد الطبيعي للإسلام كما يشير الكرباسي أيضا إلى أمر مهم جدا وهو أن الزيدية نسبوا أنفسهم إلى زيد بن علي (ع) رغم أنهم خالفوه في آرائه فزيد اعتمد في مبانيه على الكتاب وسنة الرسول وأهل بيته وهم اعتمدوا على الرأي والقياس والاستحسان كباقي المذاهب الأربعة.

ومن خلال جدول ظهور المذاهب الذي وضعه الكرباسي يتضح جليا أن المذهب الإمامي هو المذهب الوحيد الذي استقى من نبع الشريعة الحقة ومن سنة المصطفى (ص) ثم يستقي الكرباسي من حقل أكثر سعة في علم المذاهب في بحثه (كيف انشرت هذه المذاهب) ويوصل للقارئ المعلومات الدقيقة حول الظروف والعوامل المساعدة لانتشارها وتواجدها جغرافيا ونسبتها في كل بلد

ثم يتوسع في بحثه فيتحدث عن التجربة الكلية لهذه المذاهب من خلال مدارسها واختلافها ثم يعزو سبب الخلاف إلى تركها وصية رسول الله (ص) التي كفلت بنجاة الأمة من الإختلاف والتنازع والإنشقاق وضمنت توحيدها تحت راية الإسلام الصحيح ونبذ الجاهلية وإعداد القائد لها لمواصلة قيادة الدعوة إلى الإسلام بقوله (ص): (إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا)

وبعد أن يستوفي الكرباسي الحديث عن هذا الأمر يتحدث عن المذاهب التي انقرضت بفعل العوامل السياسية التي ساعدت المذاهب الأربعة التي بقيت وهيأت لها سبل الانتشار ومن هذه المذاهب التي تقوضت المذهب الظاهري والأوزاعي والطبري ثم يتوسع بالحديث عن شرعية المذاهب ومدى حجيتها والمرجعية وصفات الفقيه وأدواته وكل ما يتعلق باستنباط الاحكام الشرعية ومتطلبات الأمة منها وأمور أخرى لا يسع المجال لذكرها.

إن الكتاب بشموليته وإلمامه بكل ما يتصل بالعنوان لا يسعه هذا المقال ونرجو أن نكون قد سلطنا بصيصا من الضوء عليه للدلالة فقط وليس لتبيين كل ما فيه

المرفقات

كاتب : محمد طاهر الصفار