لا شك ان المدن المقدسة هي الصفوة من بقية المدن الاخرى بكل مسمياتها وعناوينها ووظائفها، ذلك لان اي مدينة لها اعتباراتها وامكاناتها وما تستطيع ان تقدمه لقاطنيها من علو ورفعة ومكانة سامية في نفوس ساكني المدن الاخرى القاصية والدانية، فلو ذكرنا مثلاً اسم مدينة النجف او الكوفة او كربلاء او سامراء او مدينة الكاظمية او مدينة مشهد ، لوجدنا اننا نقف احتراماً واجلالاً لهذه الاسماء التي تحمل في طياتها قيماً وفكراً واعرافاً وتقاليداً خالدة.
ولو عدنا الى الوراء لوجدنا تظافر عديد من الاسباب التي ادت الى نشوء هذه المدن على اختلاف وظائفها واوصافها وسماتها، فالمدينة التي تمتاز بمؤسساتها التعليمية ومراكزها الثقافية والادبية سميت بالمدينة العلمية، وكذا الحال بالنسبة للمدينة الاقتصادية التي تتم فيها التداولات والتبادلات التجارية وغيرها من المسميات على حسب مقدار تعلقها بأمر المدينة او ما تشتهر به، ولا شك ان هذا الامر منسحب نحو المدينة الدينية فسبب تسميتها يعزى الى مكانتها الدينية بين مجتمعات المدن الاخرى وبما تحتضنه بين حدودها من مساجد او مراقد او مقامات مقدسة كانت السبب الاول في استقطاب ساكنيها ونشاط الحركة العمرانية فيها وبالتحديد فنون العمارة الاسلامية.
ولو ركزنا الاهتمام في هذا المجال، لوجدنا ان الاتجاه السائد في إقامة المشاهد المعمارية الأولى بشكل عام والمساجد بشكل خاص، هو الحاجة الملحة لمراعاة نظام الصفوف في الصلاة والاتجاه منها إلى قبلة المسلمين المتمثلة بالكعبة المشرفة ووقاية المصلين من تقلبات المناخ، ولو تأملنا في نماذج أول مساجد الإسلام كمسجد المدينة المنورة ومسجد الكوفة المعظم ومسجد خطوة امير المؤمنين، لوجدنا انها تضم بعض العناصر الأساسية التي لا يمكن لأي مسجد ان يخلو منها مهما كان المسجد بسيطاً أو فخماً وهي الصحن والمصلى والقبلة والمحراب والمنبر .
فالصحن نجده في اغلب الأوقات مكشوفاً بلا سقف يغطيه.. و كان في بداياته المعمارية امتداداً لبيت الصلاة، ولكن فيما بعد فصل عن البيت ليستعمل فقط للصلاة وليس لغير ذلك ، بينما نجد المصلى مسقوفاً وذو مساحة مختلفة باختلاف حجم المسجد في كل عصر فهنالك مساجد كلها بيوت صلاة بلا صحون كأنها جامع.. أما القبلة فتكون متواجدة في صدر المسجد وجداره يتجه صوب الكعبة الشريفة ، باعتبار ان القبلة هي الاتجاه الروحي الرمزي وهي تعدّ ظاهرة لعبادة اللا مرئي المطلق الله جل وعلا .. ينفرد بها الدين الإسلامي دون غيره من الأديان السماوية ، فلا تعرف الاديان الاخرى شيئاً يشبه القبلة أي يصلي أهلها في أي اتجاه ويبنون معابدهم بحسب معرفتهم بعلم الهندسة، فهي رمز صريح لمعنى جليل من معاني الرسالة الإسلامية ورمز لوحدة الجماعة ، فالقبلة في الإسلام لا ترمز إلى مكان المعبود الخالق جل شأنه، بل هي تصوير عملي لوحدة الجماعة الإسلامية واتحاد قلوب المؤمنين من المصلين.
لقد عدّت المساجد والمشاهد المقدسة الاسلامية من أهم مظاهر الفنون الإسلامية وبالخصوص في مجال الفن المعماري والزخارف الاسلامية المرافقة لها، فقد قام فن العمارة الاسلامية بشكل عام والمساجد الإسلامية بشكل خاص على عناصر معمارية معمقة بأفكار اللا مرئي المطلق ومن اهمها أهمها المآذن و القباب والمحاريب والعقود والاقواس و المقرنصات المزينة لها والأعمدة والتيجان الساندة للسقف، فضلا عن العناصر الزخرفية المعمارية ، والشرفات النوافذ المختلفة الاشكال والوظائف..
1. المــــــــــــــــــــآذن :
وهي من أهم العناصر المعمارية المميزة للمساجد والمراقد الإسلامية ، حيث نشأت من الصوامع ، الكنائس ( وهي الأبراج ) والمنائر ثم امتزج الطرازان معاً فظهرت مآذن المساجد الأولى التي بقيت بعضها قائمة حتى اليوم .. وتتفرع المآذن الإسلامية إلى عدة أنواع من أهمها :
ا. المآذن الحلزونية : كمئذنة الملوية في سامراء وجامع أبي دلف في العراق وجامع أحمد بن طولون في مصر .
ب. المآذن المضلعة : كما في مآذن الشام والمغرب العربي الأندلسي وفي شمال أفريقيا.
ج. المآذن الاسطوانية : كما في مآذن المراقد المقدسة والمساجد في العراق و تركيا والهند وإيران .
وهناك نوع آخر من أنواع المآذن تعرف باسم منائر الساعة والتي تتميز بأنها ذات أربعة وجوه وفيها ساعة كبيرة الحجم في كل وجه ولها قبة صغيرة تشبه قباب المراقد تقوم على جوسق، إذ تكون أحياناً مطلية بالذهب كما في مئذنة الساعة الموجودة فوق باب قبلة مرقد ابي عبد الله الحسين في كربلاء.. فالمآذن عادة تتكون من قسمين اسطوانيين ، الأول يبدأ من الأرض وحتى الحوض ، بينما الثاني يكون اصغر بقليل ويبدأ من الحوض وحتى مسافة مناسبة في سلم خشبي في أكثر الأحيان وفيه جزء من الأعلى ذو شكل بيضي متعرج تعلوه بما تُعرف بـالرمانة كما في القباب ، ومن الملاحظ هنا ان طريقة بناء المآذن بهكذا طراز إسلامي عريق وهكذا ارتفاع ، انما تدل على تقدم العرب المسلمين في هذا الفن.. فهنالك إشارات واضحة من بعض المتخصصين تؤكّد ان التعليل الوحيد لوجود المئذنة بجانب القبة أو أي جزء آخر من أجزاء عمارة المساجد ما يعرف بـنقطة الارتكاز وهو نفسه قانون إقامة العمارات الشاهقة وناطحات السحاب عند المعماري الحديث.
2. القبــــــــــــــــــاب :
القبة هي عنصر معماري محور عن فنون الآزج - طراز من الابنية المستطيلة الشكل والمقوسة السقوف- المعمارية التي تعد من أهم الخصائص البنائية المميزة لأبنية الحضارة الإسلامية ، إذ تجعل هذه القباب السقف المعقود أكثر تماسكاً فهي تضيف إلى البناء المعماري قدسية وعظمة جمالية لما تتركه في النفس من أحاسيس عميقة ومشاعر جياشة تدفع الإنسان فيما بعد إلى التأمل في الوجود .
فمن الواضح للعيان بان القبة تنشأ من عقود متقاطعة في مركز واحد يُعَـدُّ المفتاح الرئيسي الأعلى للقبة كلها ، ولكي تتلاقى العقود في نقطة واحدة على هذه الصورة ، لابد ان تقوم أرجلها على كتف دائرية أو مثمّنةٍ أو مسدسةٍ .. وتلك كانت المشكلة الأولى التي تعين على المعماريين حلها لأن الغالبية العظمى من المباني مربعة أو مستطيلة الشكل فلابد من تحويل أعلى البناء لمربع ثم إلى دائرة.. بينما نجد أن الرومان قد حلوا المشكلة عن طريق بناء ما يسمى بـالمثلثات الكروية ..فأقاموا على الجدران الأربعة أربعة عقود متساوية الارتفاع والشكل، ثم ملؤا الفراغات بين العقود بأحجار مبنية ومن انحناءات المثلثات الكروية فكوَّنوا الحافة المستديرة التي تكون القبة ..إما المعمار الفارسي فقد ابتكر ما يسمى بـحنية أركان وهو وتد حجري في فراغ الزاوية يُنَصَبُ بين عقدين يلتقيان في زاوية التقاء جداري مربع البناء وقمة ذلك الوتد ترتفع إلى مستوى قمم العقود الأربعة.. ثم يملأ الفراغات الباقيات بالحجارة فتنتج الحافة المستديرة، وقد استخدمت القباب في العالم الإسلامي في الجوامع والأضرحة وهي إما بيضية الشكل أو مخروطية أو نصف كروية أو بصلية الشكل ذات سطوح مزينة بالقاشاني الأخضر أو الفسيفساء أو مطلية بصفائح من الذهب مع تطعيمها بزخارف ذات عناصر نباتية وكتابية وهندسية فضلا عن بعض الحروف والآيات من القرآن الكريم مع استخدامهم بجانب هذه العناصر الألوان الخاصة بالتكوين ... ومثل المآذن حليت بعض القباب بالتفنن في صف الطابوق المزجج بالإضافة الى استخدام الفنان بعض ألألواح القاشانية ذات الزخارف النباتية الدقيقة الرائعة الجمال في تغطية بعض الواجهات مثل قبة جامع الحيدر خانة في العراق .. بالإضافة الى ذلك نجد ان القباب أيضا زينت بكتابات وألواح قاشانية متقنة الزخارف الهندسية والنباتية .
3. المقرنصــــــــــات :
اما المقرنصات فهي اشكال متدلية ، تشبه إلى حد ما خلايا النحل من الناحية الهندسية والتطبيقية تقريباً، فهي في المباني العربية يتدلى بعضها فوق بعض من السقوف أو الزوايا أو في واجهات العمائر أو الطبقات أو اسفل أحواض المآذن .. وترجَّح اغلب الدراسات في هذا المجال بان أصل المقرنصات نشأ في العراق، فقد رافقت المقرنصات العرب المسلمين في كل مكان حلّو به وأصبحت طابعاً تكوينياً يميز عمائرهم الفنية من الهند شرقاً حتى بلاد المغرب العربي والاندلس غرباً.
فالمقرنص من الناحية التكوينية هو الحنية الركنية التي كانت توضع في كل ركن من أركان حجرة مربعة يراد إنشاء قبة تعلوها ، حيث تستخدم هذه الحنايا الأربع للتدرج في الجزء المربع إلى سطح دائري أو المنحني.. تقوم عليه القبة ويسمى عنق القبة، ويمكن اعتباره كساند داعم للبناء .. وهي تعد من افضل الابتكارات العربية المعمارية وهي ذات صبغة اسلامية بحتة، فلم تكن المقرنصات معروفة قبل الإسلام ، فهي مبتكرة من الفنان المسلم كطريقة لإيجاد قاعدة أو مسند لأي بناء قد يبرز عن مستوى وجه الجدار، وان أصل وبداية هذا الابتكار أو الإبداع قد حصلت عن طريق جعل رؤوس الحنايا ذات العقود المدببة تبرز إلى الامام قليلاً لتوفر القاعدة أو المسند المطلوب .
4.المحـــــــــــــــــراب :
اما المحراب فيعد أحد أهم الأركان المعمارية ، بل والأساسية في العمارة الإسلامية ، وقد اختلفت أشكاله وأحجامه والطرق الهندسية التي أنشأت بموجبها منذ ان كان مجرد علامة بسيطة تدل على جدار واتجاه القبلة في مسجد رسول اللهخ صلى الله عليه وآله وسلم ، إلى أن أصبحت المحاريب تُمثّل بأشكال هندسية رائعة الجمال في المساجد الإسلامية.
والمحراب هو ابتكار معماري إسلامي بجانب الوحدات المعمارية الأخرى الانفة الذكر، وقد استخدم في جدار القبلة لتعيين اتجاه وموضع الصلاة الذي استقر في السنة الثانية للهجرة ، وهذا العنصر المعماري نجده يتمثل معمارياً كحنية ذات عقد معين تغور في جدار القبلة ويتوسطها في جميع المساجد الإسلامية على الإطلاق.. وقد تكون وظيفة الحنية الخاصة بالمحراب، تضخيم صوت الإمام وإيصاله إلى المصلين، وقد وجدت علاقة وثيقة بين المحراب والمنبر في المساجد الإسلامية.
5 . الاقواس والعقود:
اما الاقواس والعقود فقد ابتكرها الفنان العراقي الاول ، انطلاقاً من مبدأ احتياج السقوف المسطحة إلى استعمال أخشاب ذات قدرة تحمل كافية للأثقال التي توضع فوقها.. وبسبب ندرة وجود مثل هذه الأخشاب في العراق القديم لجأ البابليون الأشوريون القدماء إلى طريقة التسقيف بالآجر بشكل قوس نصف دائري أو نصف بيضوي، يرتكز من الجانبين على جدارين متقابلين ضخمين تفاديا.. للدفع الجانبي لهذه الأقواس أو العقود ، وقد ارجع بعض الباحثين والمنقبين فكرة بناء الأقواس والعقود إلى الطريقة المستعملة في بناء بيوت القصب في العراق .
ومن هذا المنطلق استعان الفنان المسلم في عمارته بالعديد من أنواع العقود بحسب الإقليم المنتمي اليه ، فالعقود نصف الدائرية مثلا قد استخدمت في أول الأمر ثم العقد المدبب الذي ظهر في عقود مجاز المساجد ودور العبادة في بلاد الشام وبعض مناطق العراق.
6. الأعمدة والتيجان :
وقد اهتم الفنان المسلم بالعناصر المعمارية بشكل عام والأعمدة والتيجان بشكل خاص ، كونه قد ابتكر أعمدة ذات طابع مميز في طرازها الفني وزخرفتها وفيها الأعمدة الاسطوانية و المضلعة تضليعاً حلزونياً والأعمدة المثمنة والمزينة بالزخارف النباتية والهندسية.. ولا يمكن إقامة عمود دون قاعدة ، إذ يختلف ارتفاع القاعدة بحسب ارتفاع العمود نفسه، اما بدن العمود فقد يكون من الرخام أو الآجر قطعة واحدة أو قطعاً اسطوانية بعضها فوق بعض وفي هذه الحالة يسمى دعامة ، والدعامات أقوى وامتن ولكنها اقل جمالاً ، اما تاج العمود فيكون رأسه على هيئة سعف النخيل أو تفرع زهرة اللوتس أو وريقات ويستعمل رأس العمود أو تاجه كوسيلة لتوسيع مساحته العليا التي ستقوم عليها العقود .
ولا يخفى على القارئ او أي متلق آخر متأمل للعناصر المعمارية الزخرفية الأخرى، ان هنالك مكملات جمالية للعمائر الإسلامية المتمثلة بالمشاهد والعتبات المقدسة في العراق او في بعض الدول الاخرى، حيث تعلو مداخلها اشكلا رائعة من الافاريز الفنية المتفاوتة المساحات تبعاً لمساحة الأروقة التي تشرف على مداخلها، والتي قد تتمثل بقوام من الرخام الصافي اللون.. وتستغل بعض الاحيان لحفر الزخارف المتنوعة الأشكال، وخاصة التي تحمل أشكال وريدات زخرفية تلتف حولها فروع وأغصان أو تحيط بها أشكال هندسية ، كما نشاهده في بعض مداخل مسجد الكوفة المعظم وبعض اواوين مرقد امير المؤمنين في النجف الاشرف، وهنالك ايضاً الشرفات المطعمة ببعض العناصر المعمارية الزخرفية ، التي تعلو جدران العتبات والمساجد ، والتي تكون على شكل وحدات زخرفية من الطوب أو الاسمنت التي توضع متراصة على حافة السقف كأنها إطار أو كأنها نهايات المزخرفة التي تختم طرفي سجادة ثمينة، وتقسم هذه الشرفات على ست مجاميع بحسب تسلسلها الحجمي من الصغير البسيط ( 50سم) إلى الكبير ذي الزخارف الكثيرة الذي يصل ارتفاعها إلى نحو المتر، ويرجح بعض الباحثين ان اصل الشرفات يعود الى فن العمارة الاشوري في العراق.
ولا ننسى النوافذ كعنصر زخرفي معماري مهم في العمائر الاسلامية ، فهي تصنع من الخشب المعشق أو الجصي .. أو بطريقة التخريم ومنها كانت تزين بالزجاج الملّون فتكسبها جمالاً بديعاً، و استعملت فيها زخارف هندسية متنوعة تتسم بإيقاع مرئي جميل ، إذ برع الفنان المسلم في الحفر على الخشب والمرمر فأنتج محاريب وأبواب ومنابر في غاية الروعة والإتقان ، فضلاً عن وجود عناصر معمارية جمالية ووظيفية اخرى تشغل حيزاً ليس بالقليل في العمائر الاسلامية وبالخصوص ما يكون منها ملازماً للمنائر المزدوجة مثل الاواوين الكبيرة الحجم التي تتقدم مداخل العتبات المقدسة، وهي تتميز بارتفاعها وكثرة تشكيلاتها الزخرفية المزينة لبواطنها.
اترك تعليق