ارتبط فن العمارة الإسلامية بالوظيفة الدينية ارتباطاً وثيقاً، الامر الذي جعل الطابع الروحي يغلب على أنماطها وأكسبها هويتها المميزة التي نراها اليوم، اذ استطاع العقل المسلم بموهبته وثقافته فهم التراث الفلسفي للحضارات السابقة، وعمد على إذابته وفق المضامين الفكرية والروحية المنزلة في القرآن الكريم، وكان من بين أهم أهداف العقل الإسلامي تعزيز وحدة الإيمان، وحماية العقيدة بالبراهين العلمية والحجج المنطقية ودحض الخرافة والشرك بالله جل وعلا، حتى تمخض عن هذا المناخ الفكري والديني وحدة ثقافية متميزة في مفاهيمها وخصائصها ومقاصدها رغم اختلاف الآراء والاجتهادات والسبل، فالفلسفة الإسلامية هي التعبير المتكامل المتجدد للأمة الإسلامية ولتطور هذه الأمة خلال العصور المتعاقبة، فهي جوهر حياتهم ومرآة تطورهم وانعكاسا لما في باطن مجتمعهم من آمال وآلام.
وقد شملت هذه الفلسفة آفاقاً متعددة.. طبيعية وماورائية وأخلاقية وسياسية وجمالية، وأقيمت على ضوئها حضارة ذات طابع خاص يميزها عن غيرها من الحضارات ويفصلها عن غيرها من المعارف، فهي ليست امتداداً محضاً لحضارات أخرى أو أفكار وثقافات سابقة بقدر ما هي استيعاب واحتواء لما سبقها وإبداع لجوهر فلسفي متميز ينبعث عن روح وفكر أمة ذات خصائص معينة تختلف عن الأمم الأخرى، فالفلسفة الإسلامية مثلت بداية عصر مبدع وخلاق وقد أتت بمفاهيم جديدة وأكدت تصورات كبرى في تاريخ الفكر الإنساني وحولت هذا الفكر من طور إلى اخر جديد زاخر بالعطاء.
فالفكر القرآني و العقيدة الإسلامية يمثلان المصدران الأساسيان في المحرك الأول للجهود المعرفية الإسلامية من أجل تثبيت أسس الإيمان ، التي نتج عنها طابعا ثقافيا شاملا يتفاعل مع معطيات الحياة وكافة أنواع العلوم التي يستمدها الإنسان من تجاربه ونتائج تأملاته واشتغالاته على الطبيعة ومكوناتها، ولم يؤسس الإسلام حضارته على أساس القطيعة المعرفية مع باقي الرؤى والأفكار المغايرة بل على أساس تقبلها والإفادة من إبداعاتها الفكرية والجمالية من أجل التواصل الإنساني الذي تقوم عليه الحضارات الكبرى ، وهذا ما نراه قد انعكس على اغلب المنجزات الفنية الاسلامية المرتكزة على مجموعة من المبادئ التي تتمثل في ملائمة أشكال العمارة وانواع الفنون الاخرى المزينة لها وعناصرها مع مبادئ العقيدة الإسلامية والمجتمع والبيئة.
فلو تأملنا الأشكال المقوسة والقباب على اختلاف انواعها واحجامها لوجدنا ان الحس الجمالي لدى العرب المسلمين تجاه هذه الاشكال يرتبط بفكرة مفادها أن الكون شبه كروي وهو أنسب الأشكال لاحتواء الكون للأشياء داخله، فضلا عن أن اغلب الفلاسفة المسلمين قد جهدوا وعملوا باهتمام بالغ على المبادئ الهندسية الأساسية التي تنظم وجود الأشياء في الفضاء، بحيث يظهر للمتتبع لهذا الامر أن الجمال لديهم خاضع لمنطلقات رياضية عقلية بحتة انطلاقاً من ان الكون محكوماً بأسس وضوابط علمية هندسية بالغة الدقة، واستطاعوا من خلال تحليل ودراسة الأشكال الهندسية ومبادئها العقلية الوصول إلى نظم جمالية مجردة تتمتع بأنساق فنية عالية الإحكام تنتمي إلى عالم المعقولات، وهو عالم غير منفصل عن عالم المحسوسات ولكنه غير متطابق معها بالتأكيد، بل وبصورة ادق هو يتخذ من المحسوسات طريقاً للوصول إلى غايات عقلية أسمى من الموجودات الزائلة، وهي بنظرهم منبع الجمال الحقيقي الذي لا يطاله التغير .
وهذا النهج الفلسفي الجمالي غالباً ما يدعو الفنان الذي يعمل على تحلية وزخرفة المشاهد والاضرحة المقدسة إلى إتباع أنساق جمالية ذات طبيعة مجردة ، تسمو بأفكار ومشاعر المتلقي الذي يدخل هذه الأماكن ويجد نفسه محاطاً بهذا المناخ الفني والجمالي البعيد عن الحسية والواقع التشبيهي ، فيعطي بذلك إحساساً بالخروج من أطر الزمكان الواقعيين، ويلتجئ إلى فضاء التأمل والزهد والتمتع بجماليات توحي بروح المكان وقدسيته ، كما في اضرحة الائمة الاطهار (عليهم السلام) في العراق وبعض الدول المجاورة، وإنّ النفس الإنسانية جوهر بسيط خالد هبط من عالم العقل مزوداً بذكريات من حياته في ذلك العالم، واتصال النفس بالجسم مصدر ألم لا ينقضي لأنه مصدر رغبات كثيرة لا سبيل إلى تحقيقها .
استطاع فن الزخرفة العربية الإسلامية تصوير الأشياء والموجودات بشكل مميز يبتعد عن محاكاة الأصل الطبيعي من أجل تصوير الجمال الإبداعي الذي ينطلق نحو إدراك الجوهر المطلق، بعيداً عن المعارف المادية المحددة في حدود هذا العالم ، فهو فن روحي نظر إلى الطبيعة والإنسان نظرة دينية لا تحدها رؤية دنيوية، بل هي رؤية اخروية وجمالية خاصة، هدفها التوحيد بين ما هو عقلي وما هو واقعي، وهذا الاتجاه التوفيقي للجمال جعل للفنون الإسلامية صورة توحيدية تعبر عن الفكر الإسلامي وأهدافه، من هنا استطاع الفنان المسلم ان يفرض على تكويناته واشكاله الفنية البقاء في حدود بعدين فقط ، بدلاً من ثلاثة أبعاد للتفريق بينها وبين اشكال الطبيعة من حوله، حيث استطاع بذلك تمييز ابداعاته بخاصية الجمال فضلا عن ذلك استقلالية فنه بعيداً عن العالم المادي المجسم، فلو تأملنا امتداد الأشكال الزخرفية العربية لوجدنا فعلا انها تحمل صفات مغايرة للأشكال والاشياء الموجودة في الطبيعية ، والفنان المسلم يقوم بتحويل قوى نفسه المبدعة إلى أعمال فنية جمالية تقوم بدورها بتحريك وتحويل المواد والخامات إلى اشكال وصور ابداعية، أي احالتها إلى خطوط وأشكال وألوان تغطي السطح التصويري او الارضية المبتغاة في تكوينه الفني، أما العقل فمن شأنه تنظيم تلك الأجزاء وتوحيدها سواء كانت هذه الأشكال من معطيات العقل البشري كالتجريدات الهندسية الخالصة او الاشكال ذات المرجعيات الطبيعية كفن التوريق، أو بعض من أنماط الخط العربي.
اترك تعليق