معتصم السيد أحمد
مبحثُ القضاءِ والقدرِ على مستوى فعلِ اللهِ، والجبرِ والإختيارِ على مستوى فعلِ الإنسانِ، هوَ منَ الأبحاثِ المحوريّةِ في فهمِ فلسفةِ الكونِ وغايةِ الوجودِ؛ لأنّهُ يُمثّلُ عُمقَ العلاقةِ بينَ الخالقِ والمَخلوقِ، ونظرةُ الإنسانِ المعرفيّةِ ورؤيتُه الإعتقاديّةُ، تتشكّلُ وفقاً لمُقتضى التّأمّلِ في حقيقةِ العلاقةِ بينَه وبينَ الخالقِ.
فالذي لا يرى ضرورةً في الإيمانِ باللهِ مثلاً، لا يبحثُ عَن صيغةٍ معرفيّةٍ إعتقاديّةٍ ترتكزُ على فلسفةِ الخلقِ والإيجادِ، لأنّها سالبةٌ بانتفاءِ الموضوع.
وكذا الذي يُؤمنُ بأنَّ هُناكَ إلهاً أوجدَه، ولكنَّ علاقتَه معَ إلهِه لا تتجاوزُ الخلقَ والإيجادَ، بعيداً عَن أيّ رابطٍ تكوينيّ أو تشريعيّ، كما يبني المُهندسُ البناءَ وينصرفُ عنه.
فإنَّ مثلَ هذا الإنسانِ يرتجلُ خُطاهُ مِن غيرِ بصيرةٍ وهُدى، ويسعى إلى تأسيسِ حياةٍ تقومُ على استغلالِ الفُرصِ لتحقيقِ مصلحتِه الشّخصيّة.
وكذلكَ الذي يؤمنُ بأنَّ العلاقةَ بينَه وبينَ الخالقِ، كأنّهُ الرّيشةُ في يدِ الرّسّامِ، يُحرّكُها أنّى شاءَ وكيفَ شاء، وليسَ لهُ حولٌ ولا قوّةٌ في تغييرِ ما قُدِّرَ وسُطِّرَ له، فإنَّ مثلَ هذا الإعتقادِ يجعلُ صاحبَهُ فاقِداً لكلِّ أملٍ بتغيّرِ ما قُدِّرَ له، مُرتمياً في أحضانِ القدرِ، يُقلِّبُه على زعمِه كيفَ يشاءُ.
وبالتّالي، فإنَّ هناكَ علاقةً جدليّةً بينَ طبيعةِ الرّابطةِ بينَ الخالقِ والمخلوقِ، وبينَ النّظرةِ المعرفيّةِ والسّلوكيّةِ للإنسانِ، ومِن هُنا كانَ مبحثُ القضاءِ والقدرِ منَ المباحثِ التي تفتحُ لنا الطّريقَ لتكوينِ رؤيةٍ تكامُليّةٍ؛ لأنّها العقيدةُ التي تُؤسّسُ للرّؤيةِ القُرآنيّةِ، القائمةِ على العروجِ بالإنسانِ إلى مدارجِ الكمالِ.
وهذا ما نريدُ أن نُشيرَ إليهِ في هذا العنوانِ، بتأسيسِ مُفارقةٍ جوهريّةٍ فيما يعتقدُ بهِ شيعةُ أهلِ البيتِ (عليهم السّلامُ)، وما تعتقدُ بهِ المدارسُ الأُخرى في موضوعِ القضاءِ والقدرِ، واكتفيتُ هُنا بذكرِ رواياتِ الطّرفينِ فيما يتعلّقُ بموضوعِ القضاءِ والقدرِ حتّى نقفَ على الفارقِ الكبيرِ بينَ التّوجّهين.
ركّزَت رواياتُ أهلِ البيتِ في موضوعِ القضاءِ والقدرِ على كونِ اللهِ فاعِلاً مُختاراً، لهُ مشيئةٌ ماضيةٌ وإرادةٌ قاهرةٌ، وأنّهُ ليسَ هُناكَ قدرٌ على اللهِ، ولا نجدُ لديهم روايةً واحدةً تنسبُ للهِ العجزَ عَن تبديلِ وتغييرِ ما قدّرَهُ. فمثلاً جاءَ عَن أبي عبدِ اللهِ (عليه السّلام) أنّهُ قالَ في قولِ اللهِ عزَّ وجل: ﴿وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغلُولَةٌ﴾ ([1]): لم يعنوا أنّهُ هكذا، ولكنّهُم قالوا: قد فرغَ منَ الأمرِ فلا يزيدُ ولا ينقصُ، فقالَ اللهُ جلَّ جلالُه تكذيباً لقولِهم: ﴿غُلَّت أَيدِيهِم وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَل يَداهُ مَبسُوطَتانِ يُنفِقُ كَيفَ يَشاءُ﴾([2])، ألم تسمَع اللهَ عزَّ وجلَّ يقول: ﴿ يَمحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكِتابِ (39) ﴾([3]).
وهذا هوَ الأساسُ الذي يُبتنى عليهِ الوعيُّ الشّيعيُّ في موضوعِ فعلِ اللهِ، وما أجراهُ مِن مقاديرَ على خلقِه.
أمّا على مُستوى فعلِ العبدِ، وهوَ مثارُ جدلٍ واسعٍ بينَ المدارسِ الإسلاميّةِ، التي إنحصرَت رؤيتُها بينَ مُجبّرةٍ ومُفوّضةٍ، فهُناكَ مَن قالَ بالجبرِ، إعتماداً على كونِ اللهِ هوَ الفاعلُ ولا فاعلَ سواهُ، وإنَّ الإنسانَ وما يفعلُ هوَ خلقُ اللهِ، ففرُّوا منَ القولِ أنَّ الإنسانَ فاعلٌ مُختارٌ؛ لأنّهُ يستلزمُ أن يكونَ مُفوَّضاً، ممّا يعني أنَّ هُناكَ فاعلاً غيرَ اللهِ تعالى، والّذينَ قالُوا بالتّفويضِ وهُم المُعتزلةُ، فرُّوا منَ الجبرِ؛ لأنّهُ يستلزمُ العبثَ في فعلِ اللهِ، وأنّهُ كلّفَ العبادَ تخييراً وأعدَّ لهُم الجزاءَ على فعلِهم، فإن كانَ العبدُ مجبوراً لا يكونُ معنىً للتّكليفِ، وهوَ أساسُ خلقِ الإنسانِ.
فوقعَ الخلافُ في فعلِ العبدِ بينَ محظورينِ: الجبرِ والتّفويضِ، ولكلِّ واحدٍ منهُما لوازمُ تُنافي أصلَ العقيدةِ.
وهُنا نستعرضُ رواياتِ أهلِ السّنّةِ، ورواياتِ أهلِ البيتِ، حتّى نُبيّنَ مدى الفرقِ بينَ المدرستين.
أوّلاً- ما رويَ في القدرِ عندَ أهلِ السّنّةِ:
تكادُ تُجمعُ رواياتُ أهلِ السّنّةِ والجماعةِ على الجبرِ الواضحِ، ولا يكادُ الباحثُ يجدُ نصّاً واحداً صريحاً، مِن مرويّاتِهم في بابِ القضاءِ والقدرِ، يُستشَفُّ منهُ أنَّ الإنسانَ ليسَ بمجبورٍ، وإليكَ هُنا بعضَ النّماذج.
في الإعتقادِ للبيهقيّ عَن عائشةَ رضيَ اللهُ عنها أُمِّ المؤمنينَ، أنّها قالَت: أُتي النبيُّ صلّى اللهُ عليه وسلّم بصبيٍّ منَ الأنصارِ ليُصلّي عليهِ قالَت: فقلتُ: يا رسولَ اللهِ طُوبى لهذا، عصفورٌ مِن عصافيرِ الجنّةِ، لَم يعمَل سوءاً ولم يَدرِه، فقالَ: أوَ غيرَ ذلكَ يا عائشة، إنَّ اللهَ خلقَ الجنّةَ، وخلقَ لها أهلاً، خلقَها لهُم وهُم في أصلابِ آبائِهم، وخلقَ النّارَ، وخلقَ لها أهلاً، خلقَها لهُم وهُم في أصلابِ آبائِهم)([4]).
وروى البُخاريُّ في صحيحِه: (إحتجَّ آدمُ وموسى، فقالَ لهُ مُوسى: يا آدمُ، أنتَ أبونا خيّبتَنا، وأخرجتَنا منَ الجنّةِ، فقالَ لهُ آدمُ: يا مُوسى، إصطفاكَ اللهُ بكلامِه، وخطَّ لكَ بيدِه، أتلومُني على أمرٍ قدَّرَ اللهُ عليَّ قبلَ أن يخلُقَني بأربعينَ سنة؟)([5]).
وروى البُخاريّ عَن زيدٍ بنِ وهب، عَن عبدِ اللهِ قالَ: حدّثنا رسولُ اللهِ (صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ): (.. إلى أن يقولَ- في موضوعِ الجنينِ في بطنِ أمِّه- ثمَّ يبعثُ اللهُ ملَكاً فيؤمَرُ بأربعٍ: رزقُه وأجلُه وشقيٌّ أو سعيدٌ، فواللهِ إنَّ أحدُكم- أو الرّجلُ- يعملُ بعملِ أهلِ النّارِ حتّى ما يكونَ بينَه وبينَها غيرَ باعٍ أو ذراعٍ، فيسبقُ عليهِ الكتابُ فيعملُ بعملِ أهلِ الجنّةِ فيدخلُها، وإنَّ الرّجلَ ليعملُ بعملِ أهلِ الجنّةِ حتّى ما يكونُ بينَه وبينَها غيرَ ذراعٍ أو ذراعين، فيسبقُ عليهِ الكتابُ فيعملُ بعملِ أهلِ النّارِ فيدخلُها)([6]).
وروى مُسلمٌ عَن سُراقةَ بنِ مالكٍ، أنّهُ قالَ: (يا رسولَ اللهِ، بيّن لنا دينَنا كأنّا خُلقنا الآنَ، فيمَ عملُ اليومِ؟ أفي ما جفَّت بهِ الأقلامُ وجرَت بهِ المقاديرُ؟ أم فيما يُستقبَل؟، قالَ: لا، بَل فيما جفَّت بهِ الأقلامُ وجرَت بهِ المقاديرُ، قالَ: ففيمَ العملُ؟، قالَ: إعملوا، فكلٌّ مُيسَّرٌ لِما خُلقَ له، وكلٌّ عاملٌ بعملِه)([7]).
روى التّرمذيُّ عَن عبدِ اللهِ بنِ عمرو بنِ العاص، قالَ: خرجَ علينا رسولُ اللهِ وفي يدِه كتابانِ، قالَ: أتدرونَ ما هذانِ الكتابانِ؟ قُلنا: لا يا رسولَ اللهِ إلّا أن تُخبرَنا، فقالَ للذي في يدِه اليُمنى: هذا كتابٌ مِن ربِّ العالمينَ فيهِ أسماءُ أهلِ الجنّةِ وأسماءُ آبائِهم وقبائلِهم، ثمَّ أجملَ على آخرِهم، فلا يُزادُ فيهِم ولا ينقصُ منهُم أبداً، وقالَ للذي في شمالِه: هذا كتابٌ مِن ربِّ العالمينَ فيهِ أسماءُ أهلِ النّارِ وأسماءُ آبائِهم وقبائلِهم، ثمَّ أجملَ على آخرِهم، فلا يزادُ فيهم ولا ينقصُ منهُم أبداً، قالَ أصحابُه: ففيمَ العملُ يا رسولَ اللهِ؟ إن كانَ أمراً قَد فُرغَ منهُ؟ فقالَ: سدِّدوا وقارِبوا، فإنَّ صاحبَ الجنّةِ يُختَمُ لهُ بعملِ أهلِ الجنّةِ، وإن عملَ أيَّ عملٍ، وإنَّ صاحبَ النّارِ يُختَمُ لهُ بعملِ أهلِ النّارِ، وإن عملَ أيَّ عملٍ، ثمَّ قالَ رسولُ اللهِ بيدِه فنبذَها، ثمَّ قالَ: فرغَ ربُّكُم منَ العبادِ، فريقٌ في الجنّةِ، وفريقٌ في السّعيرِ)([8]).
وفي روايةِ البُخاريّ ومُسلمٍ وابنِ داودَ عَن عمرانَ بنِ حُصينٍ، يقولُ: كلٌّ مُيسَّرٌ لِما خُلقَ له.
وفي مُسلمٍ مِن روايةِ أبي الأسودِ الدّؤليّ، قالَ عمرانُ بنُ حُصينٍ: (أرأيتَ ما يعملُ النّاسُ اليومَ ويكدحونَ فيه؟ أشيءٌ قُضيَ عليهِم ومضى عليهِم مِن قدَرٍ قد سبقَ، أو فيما يستقبلونَ بهِ، مِمّا أتاهُم به نبيُّهم وثبتَت الحُجّةُ عليهم؟، فقلتُ: بَل شيءٌ قُضيَ عليهم ومضى، قالَ: أفلا يكونُ ظُلماً، قالَ: ففزعتُ مِن ذلكَ فزعاً شديداً وقلتُ: كلُّ شيءٍ خَلقُ اللهِ ومُلكُ يدِه، فلا يُسألُ عمّا يفعلُ وهُم يُسألونَ...)([9]).
وفي روايةِ التّرمذيّ عَن عبدِ اللهِ بنِ عُمر، قالَ: قالَ عُمر: يا رسولَ اللهِ، أرأيتَ ما نعملُ فيهِ أمرٌ مُبتدَعٌ أو مُبتدأٌ أو فيما قد فُرغَ منهُ؟ فقالَ: بَل فيما قَد فُرغَ منهُ يا بنَ الخطّابِ، وكلٌّ مُيسَّرٌ، أمَّا مَن كانَ مِن أهلِ السّعادةِ، فإنّهُ يعملُ للسّعادةِ، أمّا مَن كانَ مِن أهلِ الشّقاءِ فإنّهُ يعملُ للشّقاءِ)([10]).
وفي كتابِ القدرِ لابنِ وهبٍ، أخبرَني عُمرُ بنُ محمّدٍ أنَّ سُليمانَ بنِ مهرانَ حدّثَهُ قالَ: قالَ عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ رضيَ اللهُ عنه: إنَّ أوّلَ شيءٍ خلقَهُ اللهُ عزَّ وجلَّ مِن خلقِه القلمُ، فقالَ لهُ: اكتُب، فكتبَ كلَّ شيءٍ يكونُ في الدّنيا إلى يومِ القيامةِ، فيُجمعُ بينَ الكتابِ الأوّلِ وبينَ أعمالِ العبادِ فلا يُخالِفُ ألِفٌ ولا واوٌ ولا ميمٌ منهما)([11]).
وفي كتابِ القدرِ للفريابيّ، أنَّ رسولَ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّم يقولُ: (إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ خلقَ آدمَ وأخذَ الخلقَ مِن ظهرِه، فقالَ: هؤلاءِ في الجنّةِ ولا أُبالي، وهؤلاءِ في النّارِ ولا أُبالي)، فقالَ رجلٌ: يا رسولَ اللهِ ، على ماذا العملُ ؟ قالَ: (على مواقعِ القدرِ)([12]).
وأكتفي هُنا بهذا المقدارِ، وهوَ كافٍ للدّلالةِ على ضبابيّةِ الرّؤيةِ عندَهُم في موضوعِ القدرِ، والقولِ بالجبرِ الصّراحِ، وهوَ قولٌ لا يركنُ إليهِ إنسانٌ ذو فطرةٍ سليمةٍ، ورغمَ ذلكَ فقَد أصبحَ لهُ وجودٌ في الواقعِ الإسلاميّ، وهذا بسببِ بُعدِهم عَن أهلِ البيتِ، الذينَ جعلَهُم اللهُ لنا عصمةً وملاذاً، وتكلَّفوا فهمَ الدّينِ بذواتِهم وتركوا حُججَ اللهِ على خلقِه، وهذا النّوعُ منَ الإعتقادِ مساوٍ لقولِ اليهودِ (يدُ اللهِ مغلولةٌ)، وهوَ أقربُ إلى نسبتِه إليهِم مِن نسبتِه إلى الإسلامِ؛ لأنَّ المذاهبَ التي تُؤسِّسُ لهذا النّوعِ منَ الفهمِ، لا يمكنُ أن تكونَ تعبيراً عَن رسالةِ اللهِ الخاتمةِ.
ولو كانَت هُناكَ رواياتٌ أخرى في البابِ، يُستشفُّ منهَا خلافُ ما جاءَ في الرّواياتِ المُتقدّمةِ، لتمسّكنا بها وجعلناها هيَ المُحكَّمةَ، ولكنّ كلّ ما رووهُ مُشابهٌ لِما ذكرنا.
ثانياً: ما جاءَ في روايةِ مدرسةِ أهلِ البيتِ (عليهم السّلام):
روى الكُلينيّ عَن صالحٍ النّيليّ، قالَ: سألتُ أبا عبدِ الله: هَل للعبادِ منَ الإستطاعةِ شيءٌ؟ قالَ: فقالَ لي:(إذا فعلوا الفعلَ، كانُوا مُستطيعينَ بالإستطاعةِ التي جعلَها اللهُ فيهم، قالَ: قلتُ: وما هيَ؟ قالَ: الآلةُ، مثلَ الزّاني، إذا زنى كانَ مُستطيعاً للزّنا حينَ زنى، ولو أنّهُ تركَ الزّنا ولَم يزنِ، كانَ مُستطيعاً لتركهِ إذا تركَ..)( [13]).
وروى الصّدوقُ بسندِه، عَن أبي الحسنِ الرّضا (عليه السّلام) قالَ: ذُكرَ عندَهُ الجبرُ والتّفويضُ، فقالَ: (ألا أعطيكُم في هذا أصلاً لا تختلفونَ فيهِ ولا تُخاصمونَ عليهِ أحداً إلّا كسرتموهُ؟ قُلنا: إن رأيتَ ذلكَ، فقالَ: إنَّ اللهَ عزّ وجلَّ لَم يُطَعْ بإكراهٍ، ولَم يُعصَ بغلبةٍ، ولَم يُهمِلِ العبادَ في مُلكِه، هوَ المالكُ لِما ملّكَهُم، والقادرُ على ما أقدرَهُم عليهِ، فإن ائتمرَ العبادُ بطاعتِه لَم يكُن اللهُ عنها صادّاً ولا منها مانِعاً، وإن ائتمروا بمعصيتِه فشاءَ أن يحولَ بينَهم وبينَ ذلكَ فعل، وإن لَم يحلْ وفعلوهُ فليسَ هوَ الذي أدخلَهُم فيهِ، ثمَّ قالَ: مَن يضبِط حدودَ هذا الكلامِ فقَد خصمَ مَن خالفَه)([14]).
وعَن صفوانَ بنِ يحيى، عَن أبي الحسنِ عليهِ السّلام قالَ: قالَ اللهُ تباركَ وتعالى: (ابنَ آدم، بمشيئتي كُنتَ أنتَ الذي تشاءُ وتقولُ، وبقوَّتي أدّيتَ إليَّ فرائضِي، وبنعمتِي قَوِيتَ على معصيتي، ما أصابَك مِن حسنةٍ فمنَ اللهِ، وما أصابَك مِن سيّئةٍ فمِن نفسِك، وذاكَ أنّي أولى بحسناتِك منكَ، وأنتَ أولى بسيّئاتِكَ منّي..)([15]).
وقالَ أميرُ المُؤمنينَ عليه السّلام، وقَد سُئلَ عَن معنى قولِهم: (لا حولَ ولا قوّةَ إلّا باللهِ): إنّا لا نملكُ معَ اللهِ شيئاً، ولا نملكُ إلّا ما ملَّكنا، فمتى ملّكَنا ما هوَ أملكُ بهِ مِنّا كلّفنا، ومتَى أخذَهُ منّا وضعَ تكليفَه عنّا)([16]).
رويَ أنَّ رجُلاً سألَ جعفرَ بنَ محمّدٍ الصّادقِ عليهِ السّلام عنِ القضاءِ والقدرِ فقالَ: (ما استطعتَ أن تلومَ العبدَ عليهِ فهوَ منهُ، وما لم تستطِع أن تلومَ العبدَ عليهِ فهوَ مِن فعلِ اللهِ، يقولُ اللهُ تعالى للعبدِ: لمَ عصيتَ؟ لمَ فسقتَ؟ لمَ شربتَ الخمرَ؟ لمَ زنيتَ؟ فهذا فعلُ العبدِ، ولا يقولُ لهُ: لمَ مرضتَ؟ لمَ قَصُرتَ؟ لمَ إبيضضتَ؟ لمَ إسوددتَ؟ لأنّهُ مِن فعلِ اللهِ تعالى)([17]).
رويَ أنَّ الفضلَ بنَ سهلٍ سألَ الرّضا عليهِ السّلام بينَ يدي المأمونِ فقالَ: يا أبا الحسنِ الخلقُ مجبورونَ؟ فقالَ: اللهُ أعدلُ مِن أن يُجبرَ خلقَه ثمَّ يُعذّبَهم، قالَ: فمُطلَقونَ؟ قالَ: اللهُ أحكمُ مِن أن يُهملَ عبدَه ويكلَهُ إلى نفسِه)([18]).
روى الكُلينيّ عَن أبي جعفرٍ وأبي عبدِ اللهِ عليهما السّلام، قالا: (إنَّ اللهَ أرحمُ بخلقِه مِن أن يجبُرَ خلقَه على الذّنوبِ ثمَّ يُعذّبَهم عليها، واللهُ أعزُّ مِن أن يُريدَ أمراً فلا يكونُ، قالَ: فسُئِلا عليهِما السّلامُ هَل بينَ الجبرِ والقدرِ منزلةٌ ثالثةٌ؟ قالا: نعَم أوسعُ مِن ممّا بينَ السّماءِ والأرضِ)([19]).
رويَ أنَّ رجُلاً سألَ العالمَ عليهِ السّلام فقالَ: يا بنَ رسولِ اللهِ، أليسَ أنا مُستطيعٌ لِما كُلِّفتُ؟ فقالَ لهُ عليهِ السّلام: ما الإستطاعةُ عندَك؟ قالَ: القوّةُ على العملِ، قالَ لهُ عليهِ السّلام: قَد أًعطيتَ القوّةَ إن أُعطيتَ المعونةَ، قالَ لهُ الرّجلُ: فما المعونةُ؟ قالَ: التّوفيقُ، قالَ: فلمَ إعطاءُ التّوفيقِ؟ قالَ: لو كنتَ موفَّقاً كُنتَ عامِلاً، وقد يكونُ الكافرُ أقوى منكَ ولا يُعطى التّوفيقَ فلا يكونُ عامِلاً، ثمَّ قالَ عليهِ السّلامُ: أخبِرني عنكَ، مَن خلقَ فيكَ القوّةَ؟ قالَ الرّجلُ: اللهُ تباركَ وتعالى، قالَ العالمُ: هَل تستطيعُ بتلكَ القوّةِ دفعَ الضّرِّ عَن نفسِك وأخذَ النّفعِ إليها بغيرِ العونِ منَ اللهِ تباركَ وتعالى؟ قالَ: لا، قالَ: فلمَ تنتحلُ ما لا تقدرُ عليه؟ ثمَّ قالَ: أينَ أنتَ عَن قولِ العبدِ الصّالحِ: (وما توفيقي إلّا بالله)([20]).
وأميرُ المؤمنينَ عليهِ السّلام حينَ سألَهُ عَبَايةُ بنُ ربعيّ الأسديّ، عنِ الإستطاعةِ، فقالَ أميرُ المؤمنينَ عليهِ السّلام: تملكُها مِن دونِ اللهِ أو معَ اللهِ؟، فسكتَ عَبايةُ بنُ ربعيّ، فقالَ لهُ: قُل يا عَبايةُ; قالَ: وما أقولُ؟ قالَ: إن قلتُ تملكُها معَ اللهِ قتلتُك، وإن قلتَ تملكُها مِن دونِ اللهِ قتلتُك، قالَ: وما أقولُ يا أميرَ المؤمنينَ؟ قالَ: تقولُ: تملكُها باللهِ الذي يملكُها مِن دونكَ، فإن ملَّككَها كانَ ذلكَ مِن عطائِه، وإن سلبكَها كانَ ذلكَ مِن بلائِه، وهوَ المالكُ لِما ملَّكَك، والمالكُ لِما عليهِ أقدرَك، أما سمعتَ النّاسَ يسألونَ الحولَ والقوّةَ حيثُ يقولونَ: لا حولَ ولا قوّةَ إلّا باللهِ؟ فقالَ الرّجلُ: وما تأويلُها يا أميرَ المؤمنينَ؟ قالَ: لا حولَ لنا عَن معاصي اللهِ إلّا بعصمةِ اللهِ، ولا قوّةَ لنا على طاعةِ اللهِ إلّا بعونِ اللهِ، قالَ: فوثبَ الرّجلُ وقبّلَ يديهِ ورجليه([21]).
عَن هشامٍ بنِ الحكمِ قالَ: سألَ الزّنديقُ أبا عبدِ اللهِ عليهِ السّلامُ فقالَ: أخبِرني عنِ اللهِ عزَّ وجلَّ، كيفَ لَم يخلُق الخلقَ كُلَّهُم مُطيعينَ مُوحِّدينَ، وكانَ على ذلكَ قادِراً؟، قالَ عليهِ السّلام: لو خلقَهم مُطيعينَ لَم يكُن لهُم ثوابٌ؛ لأنَّ الطّاعةَ إذا ما كانَت فعلَهُم لَم تكُن جنّةٌ ولا نارٌ، ولكِن خلقَ خلقَه فأمرَهُم بطاعتِه، ونهاهُم عَن معصيَتِه، واحتجَّ عليهِم برُسلِه، وقطعَ عُذرَهُم بكُتبِه، ليكونوا هُم الذينَ يُطيعونَ ويعصونَ، ويستوجبونَ بطاعتِهم لهُ الثّوابَ، وبمعصيتِهم إيّاهُ العقابَ، قالَ (الزّنديقُ): فالعملُ الصّالحُ منَ العبدِ هوَ فعلُه، والعملُ الشّرُّ منَ العبدِ هوَ فعلُه؟ قالَ: العملُ الصّالحُ، العبدُ يفعلُه واللهُ بهِ أمرَه، والعملُ الشّرُّ، العبدُ يفعلُه واللهُ عنهُ نهاهُ; قالَ: أليسَ فعلُه بالآلةِ التي ركّبَها فيهِ؟ قالَ: نعَم، ولكِن بالآلةِ التي عملَ بها الخيرَ، قدرَ بها على الشّرِ الذي نهاهُ عنه، قالَ: فإلى العبدِ منَ الأمرِ شيءٌ؟ قالَ: ما نهاهُ اللهُ عَن شيءٍ إلّا وقَد علمَ أنّهُ يُطيقُ تركَه، ولا أمرَهُ بشيءٍ إلّا وقَد علمَ أنّهُ يستطيعُ فعلَه، لأنّهُ ليسَ مِن صفتِه الجورُ والعبثُ والظّلمُ وتكليفُ العبادِ ما لا يطيقونَ، قالَ: فمَن خلقَهُ اللهُ كافِراً يستطيعُ الإيمانَ ولهُ عليهِ بتركِه الإيمانَ حُجّةٌ؟ قالَ عليهِ السّلام: إنَّ اللهَ خلقَ خلقَه جميعاً مُسلمينَ، أمرَهُم ونهاهُم، والكُفرُ اسمٌ يلحقُ الفعلَ حينَ يفعلُه العبدُ، ولَم يخلُقِ اللهُ العبدَ حينَ خلقَهُ كافِراً، إنّهُ إنّما كفرَ مِن بعدِ أن بلغَ وقتاً لزمته الحُجّةُ منَ اللهِ، فعرضَ عليهِ الحقَّ فجحدَه، فبإنكارِه الحقَّ صارَ كافِراً، قالَ الزّنديقُ: فيجوزُ أن يُقدّرَ على العبدِ الشّرَّ، ويأمرُه بالخيرِ وهوَ لا يستطيعُ الخيرَ أن يعملَه ويُعذّبَه عليهِ؟ قالَ عليه السّلام: إنّه لا يليقُ بعدلِ اللهِ ورأفتِه أن يُقدّرَ على العبدِ الشّرَّ ويُريدُه منهُ، ثمَّ يأمرُه بما يعلمُ أنّه لا يستطيعُ أخذَه، والإنزاعَ عمّا لا يقدرُ على تركِه، ثمَّ يُعذّبَه على تركِ أمرِه الذي علمَ أنّهُ لا يستطيعُ أخذَه)([22]).
وقد رويَ عَن أبي الحسنِ الثّالثِ عليهِ السّلامُ أنّهُ سُئلَ عَن أفعالِ العبادِ، أهيَ مخلوقةٌ للهِ تعالى؟ فقالَ عليهِ السّلام: لو كانَ خالِقَها لما تبرّأ منهَا وقَد قالَ سُبحانَه: ﴿أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ المُشرِكِينَ﴾([23])، ولم يُرِدِ البراءةَ مِن خلقِ ذواتِهم، وإنّما تبرّأ مِن شركِهم وقبائحِهم، وكتابُ اللهِ تعالى المُقدَّمُ على الأحاديثِ والرّواياتِ، وإليهِ يُتقاضى في صحيحِ الأخبارِ وسقيمِها، فما قضى بهِ فهوَ الحقُّ دونَ ما سواهُ، قالَ اللهُ تعالى: ﴿الَّذِي أَحسَنَ كُلَّ شَيءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلقَ الإِنسانِ مِن طِينٍ﴾([24])، فخبّرَ بأنَّ كلَّ شيءٍ خلقَهُ فهوَ حسنٌ غيرُ قبيحٍ، فلو كانَت القبائحُ مِن خلقِه لما حكمَ بحُسنِ جميعِ ما خلقَ، وقالَ تعالى: ﴿ ما تَرى فِي خَلقِ الرَّحمنِ مِن تَفاوُتٍ ﴾([25])، فنفى التّفاوتَ عَن خلقِه، وقَد ثبتَ أنَّ الكُفرَ والكذبَ مُتفاوتٌ في نفسِه، والمُتضادُّ منَ الكلامِ مُتفاوتٌ، فكيفَ يجوزُ أن يُطلقُوا على اللهِ تعالى أنّهُ خالقٌ لأفعالِ العبادِ، وفي أفعالِ العبادِ منَ التّفاوتِ ما ذكرناهُ؟)([26]).
رويَ أنَّ الحجّاجَ بنَ يوسفَ، كتبَ إلى الحسنِ البصريّ وإلى عمرو بنِ عُبيدٍ وإلى واصلٍ بنِ عطّاءٍ وإلى عامرٍ الشّعبي، أن يذكروا ما عندَهُم وما وصلَ إليهم في القضاءِ والقدرِ، فكتبَ إليه الحسنُ البصريّ: إنَّ أحسنَ ما انتهى إليَّ ما سمعتُ أميرَ المؤمنينَ عليّاً بنَ أبي طالبٍ عليه السّلام أنّهُ قالَ: أتظنُّ أنَّ الذي نهاكَ دهاكَ؟ وإنّما دهاكَ أسفلُكَ وأعلاكَ، واللهُ بريءٌ مِن ذاكَ، وكتبَ إليهِ عمرو بنُ عُبيدٍ: أحسنُ ما سمعتُ في القضاءِ والقدرِ قولُ أميرِ المؤمنينَ عليٍّ بنِ أبي طالبٍ عليه السّلام: لو كانَ الزّورُ في الأصلِ محتوماً كانَ المَزوِّرُ في القصاصِ مَظلوماً، وكتبَ إليهِ واصلٌ بنُ عطّاء: أحسنُ ما سمعتُ في القضاءِ والقدرِ قولُ أميرِ المؤمنينَ عليٍّ بنِ أبي طالبٍ عليهِ السّلام: أيدلُّكَ على الطّريقِ ويأخذُ عليكَ المضيقَ؟، وكتبَ إليهِ الشّعبيّ: أحسنُ ما سمعتُ في القضاءِ والقدرِ قولُ أميرِ المؤمنينَ عليٍّ بنِ أبي طالبٍ عليه السّلام: كلُّ ما استغفرتَ اللهَ منهُ فهوَ منكَ، وكلُّ ما حمدتَ اللهَ عليهِ فهوَ منهُ، فلمّا وصلَت كتبُهم إلى الحجّاجِ ووقفَ عليها قالَ: لقد أخذوها مِن عينٍ صافيةٍ)([27]).
ويطولُ بنا الحديثُ، في ذكرِ روائعِ مدرسةِ أهلِ البيتِ عليهم السّلام، وبيانِ مفاخرِ علومِهم، فكلُّ ما تمَّ ذكرُه مِن رواياتٍ لا يحتاجُ إلى شرحٍ أو توضيحٍ لكونِه ينسجمُ معَ فطرةِ الإنسانِ وعقلِه ممَّا يُدلّلُ على أنَّ أهلَ البيتِ (عليهم السّلام) هُم حُججُ اللهِ على العبادِ ولا طريقَ لمعرفةِ الحقِّ إلّا منهُم وعَن طريقِهم.
[1] - سورةُ المائدةُ/64.
[2] - سورةُ المائدةُ/64.
[3] - التّوحيد – الشّيخُ الصّدوق ص 167
[4] - الإعتقادُ للبيهقيّ ج1ص 135.
[5] - ج8 بابُ القدر ص 122.
[6] - المصدرُ ص 123
[7] - صحيحُ مُسلِمٍ ج8 ص 45
[8] - جامعُ الأصولِ، كتابُ القدرِ ج10 ص513 ، الحديثُ 7555.
[9] - جامعُ الأصولِ، ج10 ص 514-515 الحديثُ 7556.
[10] - المصدرُ ، الحديثُ 7559.
[11] - القدرُ لبنِ وهب ح1 ص32
[12][12] - القدرُ للفريابيّ ج1ص21
[13] - الكافي كتابُ التّوحيد، بابُ الإستطاعةِ حديث 3
[14] - التّوحيدُ، الشّيخُ الصّدوقُ:361 بابُ59.
[15] - بحارُ الأنوارِ ج5ص56.
[16] - نهجُ البلاغةِ، حكمة 404.
[17] - بحارُ الأنوارِ ج5 ص 59.
[18] - المصدرُ السّابقُ.
[19] - الكافي ج1 ص 259.
[20] - بحارُ الأنوارِ ج5 ص 42.
[21] - بحارُ الأنوارِ ج5 ص 85.
[22] - بحارُ الأنوارِ ج5 ص 18
[23] -سورةُ التّوبةِ/3.
[24] - سورةُ السّجدةِ/7.
[25] - سورةُ المُلكِ/3.
[26] - بحارُ الأنوار ج5 ص 20
[27] - بحارُ الأنوار ج5 ص 59.
اترك تعليق