تعد المعايير بشكل عام من أهم المميزات القياسية التي يتميز بها الفكر المعاصر.. حيث يتم بوجودها تكميم وتقييم الظواهر المختلفة بكل نتائجها المادية والمعنوية وعلى مستوى العلوم الصرفة والإنسانية على حد سواء، إلا إن الإشكالية في تحديد معايير قياسية تبقى نسبية في العلوم الإنسانية وخصوصاً في مجالات الفنون المختلفة، حيث تكون الظاهرة الفنية عادة بحالة جدل وحوار- عند الفنان والمجتمع - بفعل تباين انتماء الفنان ونوع العمل لاتجاه معين دون الآخر، ويرتبط هذا الجدل بالمرجعيات الفكرية ذات الجذر الفلسفي للفنان المبدع - كجزء من مجتمع ما-، والتي تحدد بدورها قيم اتجاهه الفني وتوضح خصائصه المتفردة.
من هنا تتضح مشكلة تحديد المعايير الجمالية في المنجز الفني التشكيلي، وذلك تبعاً لفعل التغير والتحول في الأسس الفكرية وآلية الاشتغال والإنجاز، اضافة لبنية الذائقة الجمالية و ما ينجز من اتجاهات وأساليب في حدود زمكانية معينة ترافق حركة الفن بإنجازه، حيث تكمن صعوبة تحديد معايير للمفاضلة بين النتاجات الفنية ضمن الحقل الواحد أو حقول متعددة، في عدم توفر نماذج مطابقة يمكن أن تشكل قيمة قياسية.. يتم على أساسها تعيين صفة المفاضلة والتمايز من حيث المحتوى الجمالي وصفات الإظهار بين النتاجات الفنية.
وتأتي صعوبة تحديد المعايير الجمالية ايضاً في انها مرتبطة بالتحول الدائم والمستمر للاتجاهات والأساليب الفنية، سواء كان ذلك على مستوى التكوين الشكلي والخلق البصري الذي يبدع فيه الفنان.. أو على مستوى مضمونيه العمل وعلى الرغم من نسبيته في بنية الإنجاز الفني، وهذا التغير والتحول الذي تم بفعل ضواغط خارجية أو ما يتمثل بديناميكية العمل الفني ذاته، لم يكن لمقدرة العمل على إدارة نفسه بنفسه بل لرفع قدرة التأويل من قبل المشاهد المتلقي.. فالعمل الفني ما هو إلا متحولات متباينة في مستوى تركيبها ودلالاتها تبعاً لمرجعيات المتلقين وآليآت المتذوق وحركة الفعل الفني بحدود جغرافية الثقافة ضمن حيزها المكاني والزماني، والتي تؤسس معياراً يسود لفترة ما.. ثم لابد أن يضمحل تحد قوة الجدل المتفاعل والمتداخل معه، فضلاً عن التفرد والذاتية التي تميز النص الفني والتي تجعله أكثر مرونة في التحول والانسيابية مما يجعله لا ينضبط بقانون ولا يمكن أن تحدد حدود حركته من قبل أي مشاهد على الرغم من فردانية المنتج الفني الابداعي وتعددية الصيغ البنائية له ولا ضمن تجربة واحدة بكل مرجعياتها ورؤاها الفنية.. فكل له عين يرى بها ما يراه من الجمال ويؤول ما يشاهده كما يشاء بما يحمله من ثقافة ومرجعيات فكرية مختلفة بين فرد وآخر.
وبذلك تبقى عملية تحديد المقاييس او المعايير التي يحكم من خلالها على جمالية العمل الفني وأهمية ومستوى أدائه الانجازي من أكثر وأشد الصعوبات التي واجهت المشتغلين في مجال الفنون التشكيلية على اختلاف انواعها.
سامر قحطان القيسي
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
اترك تعليق