تؤكد التجربة العلمية والمسح الميداني في الدراسات الانسانية أن هناك قوانين عامة، وسنناً تجري في المجتمع الانساني بوضعه الاجتماعي العام. سمّاها القرآن الكريم السنن الإلهية، اي القوانين الثابتة التي تجري الحوادث والوقائع الاجتماعية وفقها.
و ثمة حقيقة أخرى، الا وهي أن مساحة كبيرة في سوره وآياته قد خصصت لمعالجة حالات الأمم السابقة بأبعاد واتجاهات مختلفة، لتجارب عدد من الجماعات البشرية. تتميز بالتركيز والكثافة للسنن التاريخية التي تحكم حركة الجماعات البشرية عبر الزمان والمكان، مرورا بمواقف الإنسان المتغيرة، وتبلغ هذه المسألة حدا من الاتساع في القرآن، بحيث إن حل سوره لا تكاد تخلو من عرض لواقعة تاريخية أو إشارة لحدث ما أو تأكيد على قانون أو سنة تتشكل بموجبها حركة التاريخ[1]. بل إن ذكر السنن والتنصيص عليها في القرآن الكريم لم يأت إلا عقب سرد تجارب الأمم السالفة والتعقيب عليها بما يناسب تلك التجارب.
ولأهمية هذه السنن في حياة الإنسان، نجد القرآن الكريم يشد أنظار المخاطبين وعقولهم إلى النظر والاعتبار والتبصر في ملكوت السماوات و الأرض وذلك في قوله تعالى :﴿ وَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ ۖ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ﴾[2] وذلك عقب التنصيص على سنة الاستدراج في قوله تعالى﴿ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ﴾[3] والاعتبار بأحوال المجتمعات الغابرة والكشف عن أسرار هذا الكون العجيب وتكرار قوانينه في الامم والشعوب الماضية على شكل سبب ونتيجة مثالها قوله تعالى﴿ سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا﴾[4] مما جاء في بيان معنى السنة في هذا السياق أي سن الله غلبة أنبيائه سنة قديمة[5]، وهي قوله تعالى﴿ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [6]
كما تحدث عنها القرآن الكريم عند تعريفه بالمجتمع البشري، فالقرآن يعرض وقائع واحداثا اجتماعية ، وتفاعلات وحالات علاقات بشرية يستدل بهاـ ويخاطب العقل الانساني ليدرسها، كتجارب ووقائع فعلية في المجتمع، وبهذا يعطي القرآن لدراسة المجتمع وتحليله الصفة الميدانية التطبيقية، فهو يتناول نماذج اجتماعية، وحدات وظواهر ومؤسسات وسلوكيات وعلاقات وافكارا وانساقا اجتماعية متكررة لتكرر اسبابها ، ثم يعرضها مرتبطة بسنن وقوانين واسباب مثل قوله تعالى ﴿ كَذَٰلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ﴾[7] . كذلك في قوله تعالى ﴿ كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُم بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾[8] وكذلك في قوله تعالى ﴿كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾[9].
هكذا يعرض القرآن صورة الوحدة والتكرار في الظواهر الاجتماعية عبر قرون عديدة كنماذج متكررة على امتداد التاريخ الاجتماعي للإنسان، ومن ابرز تلك الظواهر ظاهرة الكفر والطغيان السلوكي، والترابط بينهما وطغيان الاقوياء على الضعفاء، فقد اكد القران الكريم على امتداد تاريخ البشرية وحذر منها وذلك في قوله تعالى ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾ [10]كذلك في قوله ﴿فَمَا آمَنَ لِمُوسَىٰ إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَىٰ خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ ﴾[11].
ثم يبين القران الكريم موقف بني اسرائيل من النبي المسيح "عليه السلام" بصورة خاصة ومن الانبياء بصورة عامة، وعن طغيان الحكام ومحاولتهم قتل النبي المسيح بقوله تعالى﴿لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾[12] وقوله تعالى ﴿وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا ﴾[13]
ثم يؤكد على كفر حكام بابل والطغيان السياسي الذي مارسوه ضد النبي ابراهيم" عليه السلام" وموقفهم منه فيقول﴿قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ﴾ [14] ثم يبين شريحة تاريخية أخرى بقوله تعالى﴿قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ(4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ(5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ﴾ [15].
ينبغي ان نشير هنا الى ان القرآن كشف لنا عن تلك الاسباب الكامنة خلف الطغيان، والسلوكية الطاغية، وزوّدنا بالوعي الكامل، وبوسائل مواجهة الطاغوت، فهو عَرض الظاهرة والاسباب والعلاج، وقام بالتوعية، وفتح آفاق الوعي والاعداد لمكافحة تلك الظاهرة واستئصالها، سواء عن طريق وسائل الفكر والثقافة، او عن طريق استعمال القوة.
كذلك من الظواهر المتكررة على امتداد تاريخ المجتمع البشري التي عرضها القرآن الكريم، وهي ذات علاقة بالسلطة والطغيان بشتى انماطها، هي ظاهرة "الملأ"، والملأ كما يعرضهم القرآن هو الاعوان والانصار المجتمعون حول السلطة، اي حزب السلطة الطاغية واجهزتها.
يبين القرآن ظاهرة "الملأ" وتكرارها ودورها في اسناد الظلم والطغيان والكفر والفساد، واضطهاد الانسان المستضعف ، حيث يقول في كتابه ﴿ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَىٰ بِآيَاتِنَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ﴾ [16]، كذلك في قوله ﴿قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ ﴾ [17]
وثمة ظاهرة اجتماعية خطيرة يعرَّف بها القرآن، وهي ظاهرة الجمود والتحجر والخرافة، وتقديس الماضي، رغم ضلاله وتخلفه واعاقته لمسيرة الخير والاصلاح وذلك في قوله تعالى ﴿قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ ﴾ [18] كما يعرض ظاهرة المترفين الذين يرفضون اي تغير اصلاحي في المجتمع، ويكرسون حالة الدفاع عن الوضع الاجتماعي المتخلف﴿بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ(22) وَكَذَٰلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ﴾ [19]
وفي مواضع أخرى يؤكد القرآن عن ظاهرة أساسية في مسار التغيير والحياة الاجتماعية، وهي ظاهرة التدافع والصراع والحروب والاستبدال الحضاري، وتداول الدول من حيث نشؤئها وطغيانها وانحلالها ، ويؤكد الدور الايجابي والاصلاحي لعملية الدفع والتدافع. فقال الله تعالى﴿فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [20].
ويعرض القرآن ظاهرة أخرى من الظواهر الاجتماعية الخطيرة في طبيعتها السلوكية، وهي ظاهرة النفاق العقيدي والسياسي والاجتماعي، وازدواج الشخصية ، حيث انه يحلل تلك الظاهرة تحليلاً نفسياً ودقيقاً، فيوضح ان تلك الشخصيات هي شخصيات قلقة انتهازية ، تتحكم فيها الانانية والنفعية، والجبن ، وضعف الارادة، والبحث عن رضا الاخرين. فقال الله تعالى ﴿فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا ﴾ [21]
وكما يؤكد القرآن الكريم على دور السلطة السياسية والاجتماعية والدينية في حياة الافراد، وتفاعلاتهم الاجتماعية، ومواقفهم من القضايا التي يواجهها المجتمع، واثرها في صنع الاوضاع الاجتماعية، حيث نلاحظ ان هناك مجموعة من الآيات الكريمة التي تحدثت عن علاقة السلطة بوضع المجتمع . قال تعالى ﴿وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِن شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ﴾ [22] كذلك في قوله تعالى﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَٰهًا وَاحِدًا لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [23] كذلك في قوله ﴿إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ﴾ [24].وبذا يؤكد القران على التحرر من السلطة التي تعرض نفسها الهاً وارباباً للأتباع والمحكومين ، بتعطيلها احكاماً للشريعة الالهية واستعبادها للبشرية، وفرض ارادتها بالقهر والخداع والتضليل والاغراء.
وعليه يمكن القول ، على الرغم ما وصفت به السنن الاجتماعية من الثبات والاستمرارية، فإنها تتصف أيضا بالنسبية والتغير، لأن الواقع البشري ليس منضبطاً كانضباط الكون المادي. ولعل السبب الرئيس في هذا كون الإنسان نفسه غير منضبط السلوك فهو دائم التقلبات وكونه مكلفا مسؤولا في هذه الحياة بموجب نصوص القرآن الكريم، مفطورا على مجموعة من الغرائز والمثيرات تجعله يتقلب تبعا لمجموعة من المثيرات وتبعا لقوته وضعفه في الاستجابة للمسؤولية.
نستنتج من ذلك، كأن هذه السنن الاجتماعية هي إعداد للمجتمعات وتأهيل لها للسير المستقبلي لما قدمته معارف الوحي من نماذج كثيرة للسنن والقوانين الاجتماعية في مسيرة الحياة و الاجتماع الإنساني للاهتداء بها.
جعفر رمضان
[1] النظرية القرآنية في تفسير التاريخ، ص53
[2] سورة الاعراف ، الآية 185
[3] سورة الاعراف، الآية 182
[4] سورة الفتح، الآية 23
[5] جار الله الزمخشري، الكاشف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الاقاويل في وجوه التأويل، تحقيق، محمد عبد السلام شاهين،(بيروت: دار الكتب العلمية ،1971)، ج4، ص323.
[6] سورة المجادلة، الآية 21
[7] سوره الذاريات، الآية 52-53.
[8] سورة البقرة، الآية 18.
[9] سورة الحسر ، الآية 15.
[10] سورة القصص، الآية 4.
[11] سورة يونس ، الآية 83.
[12] سورة ال عمران ، الآية 181.
[13] سورة النساء ، الآية 157.
[14] سورة يونس ، الآية 83.
[15] سورة البروج، الآية 4-7.
[16] سورة الاعراف، الآية 103.
[17] سورة الاعراف ، الآية 75.
[18] سورة الشعراء، الآية 74.
[19] سورة الزخرف ، الآية 22-23.
[20] سورة البقرة ، الآية 251.
[21] سورة النساء ، الآية 88.
[22] سورة ابراهيم ، الآية 21.
[23] سورة التوبة ، الآية 31.
[24] سورة هود ، الآية 97.
اترك تعليق