إن كان دين محمدٍ لم يستقمْ *** إلّا بقتلي.. يا سيوف خذيني
مَن منّا لم يقرأ أو يسمع هذا البيت الخالد الذي ضمّنته آلاف اللافتات وصدحت به ألوف الحناجر وردَّدته الأصوات على المنابر والمجالس الحسينية ؟
إننا نقف أمام صاحبه الشاعر الكبير محسن أبو الحب لنتصفّح سجلاً مشرقاً في حياة هذا الشاعر الذي ترك بصمات لا تمحى وآثاراً لا تنسى في ذاكرة المنبر الحسيني الذي لا يزال يتنغم بأبياته فيرن صداها في أرجاء المجالس والمحافل الحسينية...
ترك أبو الحب ديواناً كبيراً يعدّ أثراً أدبياً مهماً في تراثنا الإسلامي والعربي، ضمّ بين دفتيه أروع القصائد التي قيلت في مدح ورثاء النبي (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الأطهار (عليهم السلام) وتميّز برثائياته المفجعة الشجية لسيد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام).
توزّع ديوان أبي الحب على موضوعات الشعر العربي وأغراضه جميعها باستثناء الموضوعات التي ناقضت سلوكه الديني وسيرته القويمة والذي نشأ عليهما وعُرف بهما، فعزف عن هجر القول وباطله، حيث تصدّرت مدائح ومراثي أهل البيت ديوانه واحتلت أغلبه، فالشاعر هائم بحب النبي محمد صلى الله عليه وآله وأهل بيته, وهو يتفنن في عرض زوايا حبه إيّاهم بأفانين الأساليب وأنماطها، فهم (عليهم السلام) ينبضون في ضميره، وهو يرجو بجاههم ان يتقرّب إلى الله تعالى، وهو الصادق في حبه إياهم، والمستقرئ لديوانه ليقف أمام هذا السفر الخالد الذي دل على ما لصاحبه من نَفَس طاهر وقريحة صادقة وشخصية صافية ومشاعر متأجّجة صدحت بآلامها وأحزانها تجاه القضية الحسينية وقد تشرّف بأن بعض قصائده كتبت في الرواق الحسيني الطاهر.
سيد قراء العراق
ولد الشيخ محسن ابو الحب الحائري الكبير في كربلاء المقدسة حوالي عام (1225هـ)، وفي سن طفولته المبكّرة مات أبوه الحاج محمد، فنشأ يتيماً تتلاقفه أمواج الفقر والفاقة، ولكنه عوّض عن حنان الأب والحياة الرغيدة بالعلم والأدب، فكان يقتني من كنوزهما التي لا تنفد، وينهل من معينهما الذي لا ينضب بحضوره الدائم في المحافل العلمية والأدبية التي كانت تزخر بها مدينة كربلاء المقدسة، وكان لدأبه في حضور هذه المحافل الأثر الكبير في صقل مواهبه وتكامل نبوغه، وقد عايش في تلك الفترة أفاضل الأدباء في كربلاء وكبار الخطباء فيها، منهم الحاج محمد علي كمونة، والحاج جواد بدقت، والشيخ عمران عويد، والشيخ موسى الاصفر، والشيخ علي الناصر وغيرهم، فنمت في روحه الخصبة المتلهفة للعلم والأدب بذرته السليمة وسقاها من عاطفته المتأججة ومشاعره المشبوبة وفطرته الأصيلة بحب الحسين، فهو وليد هذه الأرض المقدسة التي جرت على رمضائها أعظم ملحمة في تاريخ البشرية فاكتحلت عينه بقبابها السامقة، وتنغّمت في أذانه أصوات منائرها، فلم يبلغ الثلاثين سنة من عمره حتى أصبح من المبرّزين في مجالس كربلاء ومحافلها أديباً.. شاعراً.. خطيباً كبيراً، ومما يدل على سمو قدره وعلو مكانته ما ذكره معاصره الشيخ محمد حسين النوري في مقدمة كتابه (نفس الرحمن) عندما تعرّض لذكره: (وممن قرض عليه الفاضل الأديب المشتهر بنهاية الكمال في الآفاق سيد قرّاء العراق محسن أبو الحب القارئ أدام الله توفيقه)
قدّم الشاعر الشيخ محسن أبو الحب نماذج رائعة من الأدب من خلال قصائده التي تعطّرت بذكر أهل البيت (عليهم السلام) فكانت آية في البلاغة الشعرية والحسّ المتدفق، فالشعر لدى الشيخ أبو الحب كونه خطيباً حسينياً هو رسالة عظيمة يوجهها الشاعر للأجيال، ومن أعظم القضايا في الوجود هي قضية أهل البيت (عليهم السلام)، ومثلما كان أبو الحب خطيباً واعظاً ومبلغاً كبيراً استقطب الناس بإرشاداته من على المنبر، فقد كان شاعراً رسالياً يسجل بالشعر كلمته الصادقة بحب اهل البيت فقد احتوى ديوانه على ما يقارب ثلاثة آلاف بيت يقول في قصيدة (ابن الكرام) يخاطب النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله):
تجرَّدتَ للمجدِ يا أحمد *** وجُرِّدَ جوهرُكَ المفردُ
وليس يجاريكَ غير السحاب *** فها أنت في نيلهِ أوحدُ
رضيناكَ دون الورى سيداً *** كريماً ونحن له أعبدُ
فمن ذاك أمسيت بين الورى *** ككعبةِ رفدٍ لنا تقصدُ
أرى الناس ما بين راضٍ *** بذا وكل على نفسه يشهدُ
فهذا يقول لك المكرمات *** وآخر في غيظه مُكمدُ
وللإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) خصوصية لدى الشاعر، إذ حفل ديوانه بالعديد من القصائد التي تغنى بها بمناقب هذا الإمام الخالد، ففي قصيدته (ارتحل الشباب) يشير إلى مكانة الإمام الطبيعية بعد رسول الله (ص) فيقول:
عليٌ بعد أحمد خير هادٍ *** نعم ولعزةٍ تلوى الرقابُ
أدلّهمُ على الخيراتِ نهجاً *** وأصوبهم إذا خُفي الصوابُ
لقد عقدَ النبيُّ له عليهم *** عقوداً لا تحل ولا تغابُ
ثم يشير الشاعر إلى وصية النبي في علي (ع) في قصيدته (لم تزل ناصحاً) فيقول:
قصرَ القومُ عن بلوغِ مداكا *** فلذا حاولوا انحطاطَ عُلاكا
لا وربّ السماءِ لمْ يكُ فيما *** حاولوه إلا ارتفاعَ ذُراكا
كان دين النبي حقاً ولكن *** لم يكن واضحَ الهدى لولاكا
لم تزل ناصحاً له وأميناً *** وأخاً حيث دونهم آخاكا
ثم لما مضى أقامك للنـــــــاس إماماً كي يهتدوا بهداكا
فعلي أولى الناس بالخلافة بعد رسول الله (ص) بصريح القرآن الكريم والأحاديث المتواترة عن رسول الله (ص) ومنها حديث الغدير، فهو (عليه السلام) دعامة الإسلام كما يقول أبو الحب:
وبها علي وهو أولى من بها *** بالأمر لو أن المخاصمُ يعدلُ
أولم يكن يوم الغديرِ ألم يكن *** جبريل فيه بالزواجر ينزل؟
أولم يقلْ من كنتُ مولاه فذا *** مولاه بعدي ويلكم لا تجهلوا
هذا هو البابُ الذي من قبلِ ذا *** كلفتمُ أن تدخلوهُ فادخلوا
ولكل بيتٍ في الأنامِ دعامة *** ودعامة الإسلامِ هذا فاعقلوا
وكان لمصاب الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام) حيّزاً في شعره الذي فاض بالألم والحسرة وهو يذكر ما عانته بعد أبيها:
لا تنسَ بضعةَ أحمدٍ *** واذكرْ مصيبتها الجليّة
إذ اقبلت تمشي تحـــــــــفُّ بها نساءٌ هاشمية
جاءت لتطلبَ إرثِها *** إذ لمْ تزلْ عنه غنيّة
لكنْ لتبني النـــــــــــاسَ إنَّ الناسَ عادوا جاهلية
أما واقعة عاشوراء فقد احتلت مساحة كبيرة من ديوانه، فالشاعر لم يترك حدثاً من أحداث ذلك اليوم الدامي إلا وسكب عليه من روحه وقلبه نفساً ذائباً ممزوجاً بالحزن والأسى فائضاً بالدمع مجلبباً بألم المصاب:
قُتل الحسينُ فجدِّدوا حزناً *** وتجلببوا لمصابهِ ثوبا
من لم يذب من أجلهِ كمداً *** فلقد أصابَ من الصفا قلبا
وأرى الصفا ينهدُّ منصدعاً *** هوَ حين يذكر يومَه الصعبا
يوماً يجدِّده الزمانُ لنا *** فيعودُ يابسَ حزنِنا رطبا
تمضي به الأيامُ مشفقةً *** أن لا تذوبَ بهولهِ ذوبا
حتى تعود به فتحسبه *** ما غاب أو ما زارنا غبا
تقضون آل محمد عطشاً *** ويلذّ قلبي بعدها شربا
ويرى الشاعر انه لا عيد بعد يوم عاشورا بعد أن لبس الإسلام ثوب السواد على سيد الشهداء (عليه السلام) فنراه قد نفى السرور عن قلبه وتجلبب بأثواب الحزن الدائم:
يا عيد إنَّ لغيرِ قلبي عيدُ *** وسوايَ فيكَ للبسهِ التجديدُ
أوما تراني قد طويتُ عن الهنا *** كشحاً ومالَ إلى العنا لي جيدُ
وزجرتُ عن دارِ السرورِ ركائبي *** بحشاشةٍ ما مسَّها تبريدُ
أغدو على العيشِ الرغيدِ مُداوماً *** وأروح يطرب سمعي التغريدُ
هيهات ما هذا شعاري إنَّما *** أنا نائحُ وليَ المناحُ عضيدُ
فإذا تراني جالساً في محفلٍ *** فاعلم بأني للعزا معدودُ
أبكي ويبكي كل من في محفلي *** حتى يحنُّ لحاليَ الجلمودُ
ولربِ قائلةٍ علامكَ قلت يا *** هذي اتركيني فالمصابُ شديدُ
قُتل الحسينُ فأي عينٍ بعده *** لم يعمِها التسكابُ والتسهيدُ
فأي يومٍ أعظم من ذلك اليوم الذي روّى سيد الشهداء بدمه الطاهر بذرة الإسلام لتبقى دوحته شمّاء على مرِّ الأجيال:
يا بيضة الإسلامِ أنتِ حريةٌ *** بعد الحسينِ بصفقةِ المغبونِ
أعطى الذي ملكتْ يداهُ إلهَه *** حتى الجنينَ فِداهُ كل جنينِ
في يوم ألقى للمهالكِ نفسَه *** كيما تكون وقايةً للدين
وبيوم قال لنفسه من بعد ما *** أدّى لها حقّ المعالي: بِيني
أعطيتُ ربي موثقاً لا ينقضي *** إلا بقتلي فاصعدي وذريني
إن كان دينُ محمدٍ لمْ يستقمْ *** إلا بقتلي يا سيوف خذيني
هذا دمي فلتروِ صادية الظبا *** منه وهذا للرماحِ وتيني
خذها إليك هدية ترضى بها *** يا رب أنت وليّها من دوني
ثم ينتقل في قصيدة أخرى إلى رثاء قمر بني هاشم أبي الفضل العباس وذكر بعض مناقبه:
أبو الفضل لا تحصى مواقف فضله *** فمن ذا يجاريه ومن ذا يقاربُه
رأى الموتَ دونَ ابن النبيِّ حياته *** لذلك ساغتْ في لهاهُ مشاربُه
فقام يلاقي غمرةَ الحتفِ خائضاً *** عجاجتها والحربُ تذكو مواهبُه
وطاف على الجيشِ اللهامِ كأنه *** سحابُ هوامٍ بالحتوفِ سواكبُه
فينهلُ منه كل أشوسَ مقدمٍ *** ولما يصب منجىً من الموتِ هاربُه
وقال عند تشرِّفه بزيارة الإمامين الكاظمين (عليهما السلام):
من يطلب الخير يدركه ببغدادِ *** بين الجواد وبين الكاظم الهادي
بحران رضوان من يقصد جنابهما *** يظفر بمنية ورّاد وروادِ
أفديهما وبنفسي من يودّهما *** أصاب ما لم يصبه كفّ مصطادِ
غصنان من دوحة في الخلد منبتها *** وفرعها في السما ظل له باد
خليفة الله شاء الله مجدهما *** خصاً بأطيب آباءٍ وأجدادِ
لو شئت قلت وقول الله أصدق من *** قولي فما قدرُ إنشائي وإنشادي
ويقول في سفير الحسين مسلم بن عقيل:
قليل بكائي على ابنِ عقيلِ *** وإن سالَ دمعيَ كلَّ مسيلِ
فتىً علّمَ الناسَ إن الوفاءَ *** حـزَّ الغلاصمِ دونَ الخليلِ
عقيلُ الذي نالَ من مسلمٍ *** ذرى المجد لا مسلم من عقيلِ
أبٌ لا يُجارى مَداه أبٌ *** سناءُ ابنه في المدى المستطيلِ
وليس عجيبٌ بأن الليوث *** تعلو مفاخرُها بالشبولِ
وهكذا يمضي الشاعر في رثائياته للحسين حتى يكاد ديوانه كله أن يكون حسينياً
وأي أثر أكرم وأشرف من هذا الأثر الخالد لشاعر كريم المنبت والأصل، توفي الشيخ محسن أبو الحب عام (1305هـ) عن ثمانين عاماً.
محمد طاهر الصفار
اترك تعليق