انطلق ابن الجنوب الفنان العراقي الراحل شاكر حسن آل سعيد في هذه التوليفة من الرموز والخطوط التي تجمع بين روحية الفنان العراقي واسلوب الغرب في الرسم ، فقد اتت اللوحة بعنوان " اشارات " وجسد فيها الفنان عمق تجربته الروحية وانعكاسات تطلعاته المستقبلية للفن ، فقد لجأ لتفكيك الأشكال البصرية للوصول إلى كلية لا متناهية للأشكال أمام قدرة المتلقي على تأويلها، والإحساس بكينونتها سعياً منه لإعطاء الأشكال استثارات داخلية تمتلك من القوة ما يجعلها حاملة لمضامين عدة مُعلنة وخفية في ذات الوقنفذت هذه اللوحة في المرحلة الاخيرة من حياة الفنان واوغلت في عالمه التجريدي غير انها تمثل نسقا جديداً من انساقه الفنية الرائعة .
اللوحة اعلاه تتكون من وحدتين متراكبتين فوق بعضهما ، عمد الفنان ان يجعل الاولى فضاء وخلفية للثانية حيث نجد سطحاً لونياً لا يخلو من القدم في ملمسه الخشن كما في جدران البيوت العتيقة لخلق المناخ اللوني المتحقق ، اما اللوحة الثانية الاقرب الى المشاهد فهي عبارة عن تلك الشبكة الأيقونة التي رسمت فوق تلك الارضية والتي تحتوي مخططات وعلامات ايقونية مهيمنة على الجانب الامامي للوحة ومستندة قي نفس الوقت على الطبيعة اللونية ذات الملمس القصدي التي ابتكرها الفنان .
فالتحول بهيئة السطوح المرئية الى الملمس كان شيء يسير ضمن متحولات الفن عالميا ، وما يجري على سطح هذه اللوحة لم يذهب بعديا عن طبيعة الملمس الذي حققه رواد المدرسة التجريدية في القرن العشرين .
لا شك ان مناخ اللوحة اعلاه له اثر فكري على المتلقي فهو ذو علاقة واضحة مع طبيعة النسق الخاص بالفنان الذي يظهر روحية الاسلوب عنده ، ومن الملفت للنظر ان ما جعل من اللوحة ذات اثر فكري هي ايقونيتها المتمثلة بما يشكل الشبكة الايقونية .
ان بتلك العلامات وهويتها التي تستتر خلفها تشكيلة من الايقونات المتفق عليها مثل الدائرة والمثلث وعلامة الاكس ، وهي جميعها لم تكشف عن نفسها وما تريد داخل اللوحة بشكل مباشر اذ لا مجال للاتفاق من حيث تأويل هذه الاشارات او فهم مغزاها ، فهذا الابهام جعل من شبكة هذه الاشكال مفتوحة الدلالة وهذا ما ادخلها في عالم تجريدي آخر غير ذلك الذي في الخلفية ، وعليه لا يوجد ما يدلل على هوية المكان وطبيعة المديات الفكرية للوحة من اجل الخروج ولو بحكاية لرسم ما تروم اليه اللوحة ولو ذهنيا .
ان هذه العلامات وهذه المخططات بالتأكيد هي موجودة في الواقع لكنها لم تختص بحضارة معينة وهي عامة الاستخدام في انماط الفن الحديث عالميا ، هذه اللوحة لم تكشف عن طبيعة هويتها الجغرافية بقدر ما تكشف عن طبيعة عالم مجرد شكلا ومضمونا مع شيء من التشخيص العلاماتي ، وهذا المستوى جعل اللوحة لا تذهب الى عالم التجريد الخالص النقي ولكنها تعكس صفة ذاتية في ذات الوقت لم تكشفه عن بيئة عراقية محضة من خلال شيء يميز بين ما هو محلي وما هو عالمي ، فالبناء الدلالي بقي مفتوحا ولم يشخص ما هو عراقي داخل اللوحة باستثناء طبيعة المناخ الذي قد يوحي بأنه جدار عتيق وهذا ليس بدليل بان الجدار ينتمي الى البيئة العراقية حصرياً فالجدران القديمة موجودة في كل مكان ، الشيء الوحيد الذي يكشف عن هوية اللوحة هو اسم الفنان كونه عراقيا
ويبدو ان تجربة ال سعيد في هذه اللوحة وقريناتها من منجزاته الفريدة ، ما هي الا محاولة لخلق بيئة جديدة تكشف عن نفسها لتقترب مما يحدث من التحولات الفنية في العالم ، فالتجريد عنده قد اصبح مقروناً بهويته العراقية وهذا يترجم للمشاهد أن رسالة الفن عند الفنان لم تعد محلية بقدر محاولته للتماهي في هوية عالمية اكثر منها تشخيص لمكان ما .
وهذا الفعل بالتأكيد يعد اضافة نوعية الى الفن العراقي وارضه الخصبة لتشكيل بيئة جديدة قوامها هوية الفنان نفسه والدخول في عولمة الفن وحسب مرجعيات الفنان المحلية والعالمية التي شكل من خلالها صورة استعارية لفنه ليضيف نسقاً جديداً ضمن حقل الفن العراقي الحديث ، من خلال حداثة تكويناته الفنية وخلق ريادة شكلية تنبثق منها ثقافة الخط و اللون ليشكل صورة من صور الرسم الحديث في العراق .
سامر قحطان القيسي
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
اترك تعليق