الدنيا… مرآة الخداع الأزلي

قراءة في قول الإمام علي عليه السلام

حين يتحدث أمير المؤمنين عليه السلام عن الدنيا، لا يتحدث بمنطق زاهدٍ منفصل عن الواقع، ولا بلغة ناسكٍ هارب إلى الجبال، بل يتحدث بمنطق الحكيم الذي رأى جوهر الأشياء من باطنها، فكشف حقيقتها كما تُعرّي الشمسُ وجه السراب.

يقول عليه السلام: ((إنّ الدنيا لهي الكنود العنود والصدود الجحود والحيود الميود، حالها انتقال، وسكونها زلزال، وعزّها ذلّ، وجدّها هزل، وكثرتها قلّ، وعلوّها سفل. أهلها على ساق وسياق ولحاق وفراق، وهي دار حرب وسلب ونهب وعطب)).

هذه الكلمات ليست وعظاً عادياً، بل تشريح دقيق لطبيعة الوجود الدنيوي، يذكّر الإنسان بأن العالم الذي يتعلق به ليس إلا رداءً من رياح، وصورةً بلا ثبات.

الدنيا: الكنود العنود...

وصفها الإمام بأنها كنود عنود؛ أي أنها لا تشكر أحداً ولا تثبت على حال، كالرياح إذا حملت غصناً ثم ألقته، من أحسن إليها كفرت إحسانه، ومن مال إليها منعته، فهي بطبيعتها تدير ظهرها لكل من يثق بها.

الصدود الجحود...

هي صدود لأنها تُعرض عن طالبها، وجحود لأنها تنكر وعودها. فمن يبني عليها قلبه يجني الفراغ، ومن يركن إليها يكتشف أنها لا تحفظ عهداً ولا تقيم على وفاء.

الحيود الميود...

الحيود: الميل والانحراف.

الميود: التمايل والاضطراب.

فالدنيا عند الإمام ليست سكناً مستقراً، بل سفينة تميل مع أمواجها؛ لا ثبات لها، ولا رسوّ دائم.

حالها انتقال، وسكونها زلزال...

هنا تتجلّى عبقرية علي عليه السلام:

الانتقال هو طبيعتها، والزلزال هو سكونها…

أي إذا سكنت فالسكون عين الخطر، وإذا هدأت فالهدوء مقدمة الانقلاب. الدنيا لا تعرف الاستقرار؛ تتبدل كما تتبدل الفصول، وتتقلب كما تتقلب أمواج البحر.

عزّها ذل، وجدّها هزل...

عزّ الدنيا لا يلبث أن ينقلب إلى ذلّ؛ من علا اليوم قد يسقط غداً، ومن ضحك اليوم قد يبكي في الفجر.

وجدّها—أي ما يُحسب منها جِدّاً وشأناً—هو في حقيقته هزلٌ مسرحي، لعب أدوارٍ على خشبة لا يبقى منها إلا الرماد.

كثرتها قلّ، وعلوها سفل...

ما تظنه كثيراً سرعان ما يتبخر، وما تراه مرتفعاً يهوي، فهي تبني ظاهرها من نُدرةٍ خفية: الكثرة تقلّ، والارتفاع ينحدر.

كأن الدنيا تُذكّر إنسانها بأن كل ما فيها مؤقت، وكل علوّ فيها مرشّح للسقوط.

أهلها: على ساقٍ وسياقٍ ولحاق وفراق...

الإنسان فيها بين أربعة أحوال:

1. ساق: حركة لا تنتهي، سعيٌ لا يعرف راحة.

2. سياق: اقتراب من الموت، وإحصاء لأنفاس العمر.

3. لحاق: يركض خلف ما سيفوته، يلهث وراء ما لن يدركه.

4. فراق: يترك كل شيء مهما جمع.

بهذه الكلمات يرسم الإمام مسار الإنسان، خطوةً خطوة، حتى يصل إلى اللحظة التي لا يأخذ معه إلا عمله.

وهي دار حرب وسلب ونهب وعطب...

هذه ليست مبالغة، بل وصف للفلسفة الوجودية لطبيعة الدنيا:

حرب: لأن فيها صراعاً بين الرغبة والمصير، وبين الطموح والحقيقة.

سلب: لأنها تسلب الإنسان صحته، شبابه، وقته، أحبّته.

نهب: تنهب الأمن من القلب، وتأخذ الطمأنينة من الروح.

عطب: نهايتها الموت، ونهاية كل متعلّقاتها الفناء.

الدنيا ليست مقام قرار، بل ممرٌ يعبر فيه الإنسان وسط معركة كونية لا هدوء فيها.

وهكذا يكشف الإمام علي عليه السلام أن الدنيا، بكل ما فيها من صعودٍ وهبوط، ليست دار قرار ولا موطن اطمئنان، بل مسرحٌ متقلب تُعرّي فيه الأيام زيف مظاهرها، فلا يبقى للإنسان إلا ما رسخ في قلبه من يقين، وما قدّمه من عملٍ يواجه به رحلته الأخيرة. فمن أدرك حقيقتها عاش حراً من خداعها، ومن غفل عنها صار أسيراً في يد سراب لا يدوم.

والحمد لله رب العالمين

: علي الحداد