إنّ من بين أهم التكاليف التي كلف الله تعالى بها النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم هي تعريف الناس بأهل دينه الذين اصطفاهم الله تعالى لشريعته يبينون للناس ما اختلفوا فيه كما أمروا في إرجاع ذلك في زمانه صلى الله عليه وآله وسلم بالرجوع إلى الله وإليه ولا شك أن الإنسان حينما يعزم على الرجوع إلى الله تعالى فيما يشكل عليه من دينه ودنياه فإنه بحكم العقل يلزم أن يرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فهو من بعثه الله إلى الخلق ليصلح لهم أمر دينهم ودنياهم وذلك أن القرآن شريعة حياة متكاملة تبدأ مع الإنسان من مرحلة ما قبل الولادة وانعقاد النطفة إلى الأجنة ثم الولادة وما بعدها حتى يتمم الإنسان مدته التي حددها الخالق له فينتقل إلى عالم البرزخ حيث النتائج التي حققها عمله الدنيوي، ومن ثم يبقى له منها ما ينتفع به أو يضر به وهو في قبره كما دلت النصوص الشريفة.
وعليه:
فكل ما يتعلق بهذا الإنسان قد أوجدت له الشريعة حدوداً وسنناً وأسباباً ومن ثم فهو بحاجة إلى معرفة هذه الحدود والسنن كي يحيا بسلام في الدنيا والآخرة.
إلا أن المشكلة تقع في نفس الإنسان فهو يرى بما خلق الله تعالى فيه من قوة العقل والروح أنه الأقوى والخصم الذي لا يهزم فهو لدود[1]، ومجادل شرس إلى الحد الذي يرى في نفسه أن الموت والحياة والصحة والمرض والغنى والفقر والعسر واليسر بيده يتحكم بها كيف يشاء.
ومن هنا:
نشأت الفرق والتحزبات والفئات والوثنية والطاغوتية والجبروتية ومن ثم أصبح لدى الإنسان خليط من التشريعات والمعتقدات والمفاهيم بعد أن ترك لقواه النفسية العنان في سوقه إلى تلك القوى وتجاذباتها والأهواء وسطواتها جازماً بصواب رأيه وخطأ خصمه مندفعاً إلى إقصاء مخالفيه في أقل الأحوال إن لم يكن قد أطفأ صوت غيره وغيب شخص مخالفه.
ومن ثم: كيف يقنع بأن هذا الدين كان له نخبة اصطفاها الله تعالى وهو يرى في نفسه أنه المؤهل لفهم الشريعة إن لم يندفع إلى الاعتقاد بأنه أحد أعمدتها يلحقه ما يلحقها من الشرافة والقدسية والشأنية والخدمة، فمفهوم خدمة الشريعة يعني خدمته التي منحها كل بركاته ورضاه.
وكيف لا يطلق الفتاوى (الشرعية) في خصومه والرادين عليه والمظهرين للناس حقيقة دينهم وتصحيح مسار معتقداتهم؟ لا شك أن خصماءه من البدع والمحدثات الذين استوجبوا القصاص قتلاً ونفياً وتكفيراً وتدنيسا.
ولأن المشرع عزّ شأنه حكيم عالم عزيز فقد خص أهل دينه والمصطفين لشريعته بصفات تدفع عنهم التهمة وتميزهم عن الكاذبين وبها يفتضح المدعون ويخزى الكاذبون؛ فبهم يعرف الصواب وإليهم تدب الألباب، ولهم تحن القلوب وتهوي الأفئدة.
أما من كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً، فأولئك كما عرّفهم القرآن الكريم:
{...وَلَهُمْ آَذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}[2].
ومن ثم لا ينفع معهم كلام مسموع أو مقروء.
وعليه: فإن الله تعالى خص أهل دينه بصفات تميزهم عن الناس كي لا ينتحل منزلتهم منتحل ثم يأتي الناس يوم القيامة فيقولون: أي رب لم نكن نعلم من هم فقد تشابه الأمر علينا، لماذا لم تجعل لهم صفات تميزهم وتدلنا عليها لنعرفهم، وهذا أمر لم يغفل عنه القرآن الكريم، قال تعالى:
{رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا}[3].
ولذا: كانت صفات أهل دينه كالآتي:
1 ــ إنهم مطهرون من الآثام وكل شيء قذر
وهي ميزة لا يستطيع الإنسان وإن اجتهد على حصولها ما لم يكن هناك اختصاص من الله تعالى؛ وإلا فالساعون في شرق الأرض وغربها في دعواهم بأنهم أصحاب فكر ورؤى وشرائع إلا أنهم ليسوا منزهين عن العيوب وإن اجتهدوا.
ومن ثم فالطهر صفة إلهية اختصت بها الشريعة ومن خصهم الله لها فقال تعالى:
{...إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}[4].
2 ــ العلم بالقرآن والسنة
من الصفات التي خص الله تعالى بها أهل شريعته العلم بالقرآن وتأويله وهي صفة انفرد بها أهل القرآن المصطفين، فقال تعالى:
{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاّ أُولُو الأَلْبَابِ}[5].
هذه الآية المباركة نجد مصداقها في التاريخ الإسلامي متجسداً في شخصية واحدة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وذلك أن جميع الصحابة ــ مع ما لديهم من معارف ــ إلا أنهم كانوا يحتاجون علم علي بن أبي طالب عليه السلام ولم يحتج أمير المؤمنين علي بن أبي طالب إلى أحدٍ منهم في مسألة من العلم سواء علمه بالقرآن أو السنة أو في الكتب والشرائع السماوية التي كانت قبل الإسلام؛ وهذا الأمر لا يحتاج إلى تدليل أو إحالة مرجعية لمن كان له أدنى إطلاع على حياة الصحابة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ولو أردنا أن نورد للقارئ ما ورد في الأثر عنه صلى الله عليه وآله وسلم وعن الصحابة أو عن نفس أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام لخرج الكتاب عن موضوعه.
3 ــ الصدق
إن أول ما عرفه العرب عن النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم حينما درج فيما بينهم، صفة الصدق والأمانة، فعرفه الناس صالحهم وطالحهم بـ(الصادق الأمين) فكانت صفته هذه قبل صفة النبوة والرسالة، وذلك أن الصدق هو الأساس في تبليغ الرسالة وبيان الشريعة.
فكل ما يتلفظ به النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يخالطه الكذب وقد شهد الله تعالى له بذلك، فقال سبحانه:
{مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}[6].
وقال تعالى:
{وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ}[7].
وقال سبحانه:
{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى}[8].
وقال تعالى:
{مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى}[9].
فقلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صادق، ولسانه صادق، وفعله صادق، وهو الصادق الأمين، وكذا من اختارهم الله لشريعته فقال تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}[10].
ولو درس الإنسان التاريخ وكتب الحديث لوجد أن عترة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأوصياءه والأئمة من بعده أبناء علي وفاطمة وهم اثنا عشر إماماً سلام الله عليهم أجمعين حينما بينوا الشريعة لم يختلف اثنان منهم في حكم من أحكام الشريعة فيقول أحدهم هذا حلال والآخر يقول هذا الحرام بما يرشد إلى أنهم عليهم السلام كانوا ينهلون من منهل واحد ومشروع واحد فكانوا الصادقين.
وعليه:
تعد هذه الصفات وغيرها أهم الأدوات التي تقود العقل والقلب إلى معرفة الدين فصفة الطهر فقال تعالى:
{لا يَمَسُّهُ إِلاّ الْمُطَهَّرُونَ}[11].
وخزانة العلم فقال:
{وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}[12].
وفي أهل الدين قال:
{...وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ}[13].
وصفته الصدق فقال سبحانه عن القرآن:
{لا يَأتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}[14].
وعن أهل دينه قال:
{اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}[15].
وغيرها من الصفات التي كانت متلازمة فيما بين القرآن وأهله.
أما إذا جئنا إلى بيان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإرشاده الأمة إلى أهل الدين فما أكثره وأيسره وأوضحه وأقطعه حجة على المسلم في الدنيا والآخرة، وهو ما سنتناوله في (ثانياً).
ثانياً: خير ما نستدل به على معرفة الدين وأهله ما كتبه أمير المؤمنين علي عليه السلام إلى خاصة أصحابه وشيعته وفيه وصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
إنّ خير ما نورده هنا ونستدل به على معرفة الدين وأهله ما كتبه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام إلى خاصة أصحابه وشيعته بعد أن رجع مع معركة النهروان التي قاتل فيها الخوارج، وفي الخطبة أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأمته في بيان ما يؤمن لهم الهداية وعدم الوقوع في الفتنة؛ والخطبة رواها ثقة الإسلام الشيخ الكليني عليه الرحمة والرضوان ورواها عنه السيد ابن طاووس طيب الله ثراه عن: (علي بن محمد ومحمد بن الحسن وغيرهما، عن سهل بن زياد، عن العباس بن عمران، عن محمد بن القاسم بن الوليد الصيرفي، المفضل عن سنان بن ظريف، عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال:
«كان أمير المؤمنين عليه السلام يكتب بهذا الخطاب إلى أكابر أصحابه، وفيها كلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
بسم الله الرحمن الرحيم، إلى المقربين من الأظلة، الممتحنين بالبلية، المسارعين في الطاعة، المنشئين في الكرة، تحية منا إليكم، سلام عليكم، أما بعد:
فإن نور البصيرة روح الحياة الذي لا ينفع إيمان إلا به مع إتباع كلمة الله والتصديق بها، فالكلمة من الروح، والروح من النور، والنور نور السماوات والأرض، فبأيديكم سبب وصل إليكم منا نعمة من الله لا تعقلون شكرها، خصكم بها واستخلصكم لها.
{وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاّ الْعَالِمُونَ}[16].
إن الله عهد أن لن يحل عقده أحد سواه، فتسارعوا إلى وفاء العهد، وامكثوا في طلب الفضل، فإن الدنيا عرض حاضر يأكل منها البر والفاجر، وإن الآخرة وعد صادق يقضي فيها ملك قادر، ألا وإن الأمر كما قد وقع لسبع بقين من صفر، تسير فيها الجنود، يهلك فيها البطل الجحود، خيولها عراب، وفرسانها حراب، ونحن بذلك واقفون، ولما ذكرنا منتظرون انتظار المجدب المطر لينبت العشب، ويجنى الثمر، دعاني إلى الكتاب إليكم استنقاذكم من العمى، وإرشادكم باب الهدى، فاسلكوا سبيل السلامة، فإنها جماع الكرامة، اصطفى الله منهجه، وبين حججه، وأرف أرفه، ووصفه وحده وجعله نصا كما وصفه، إن العبد إذا أدخل حفرته يأتيه ملكان أحدهما منكر والآخر نكير، فأول ما يسألانه عن ربه، وعن نبيه، وعن وليه، فإن أجاب نجا وإن تحير عذباه.
فقال قائل: فما حال من عرف ربه، وعرف نبيه، ولم يعرف وليه؟
فقال: ذلك مذبذب لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.
قيل: فمن الولي يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟
فقال: وليكم في هذا الزمان أنا، ومن بعدي وصيي، ومن بعد وصيي لكل زمان حجج الله كي ما تقولوا كما قال الضلال قبلكم حيث فارقهم نبيهم:
{...رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آَيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى}[17].
وإنما كان تمام ضلالتهم جهالتهم بالآيات وهم الأوصياء فأجابهم الله:
{قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى}[18].
وإنما كان تربصهم أن قالوا: نحن في سعة عن معرفة الأوصياء حتى يعلن إمام علمه، فالأوصياء قوام عليكم بين الجنة والنار، لا يدخل الجنة إلا من عرفهم وعرفوه، ولا يدخل النار إلا من أنكرهم وأنكروه، لأنهم عرفاء العباد عرفهم الله إياهم عند أخذ المواثيق عليهم بالطاعة لهم، فوصفهم في كتابه فقال عز وجل:
{...وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلا ًّ بِسِيمَاهُمْ...}[19].
وهم الشهداء على الناس، والنبيون شهداء لهم بأخذه لهم مواثيق العباد بالطاعة، وذلك قوله:
{فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا}[20].
وكذلك أوحى الله إلى آدم: أن يا آدم! قد انقضت مدتك، وقضيت نبوتك، واستكملت أيامك، وحضر أجلك، فخذ النبوة وميراث النبوة واسم الله الأكبر فادفعه إلى ابنك هبة الله، فإني لم أدع الأرض بغير علم يعرف، فلم تزل الأنبياء والأوصياء يتوارثون ذلك حتى انتهى الأمر إلي، وأنا أدفع ذلك إلى علي وصيي، وهو مني بمنزلة هارون من موسى، وإن عليا يورث ولده حيهم عن ميتهم، فمن سره أن يدخل جنة ربه فليتول عليا والأوصياء من بعده، وليسلم لفضلهم، فإنهم الهداة بعدي، أعطاهم الله فهمي وعلمي، فهم عترتي من لحمي ودمي، أشكو إلى الله عدوهم والمنكر لهم فضلهم، والقاطع عنهم صلتي، فنحن أهل البيت شجرة النبوة ومعدن الرحمة ومختلف الملائكة، وموضع الرسالة، فمثل أهل بيتي في هذه الأمة كمثل سفينة نوح عليه السلام من ركبها نجا ومن تخلف عنها هلك، ومثل باب حطة في بني إسرائيل من دخله غفر له، فأيما راية خرجت ليست من أهل بيتي فهي الدجالية، إن الله اختار لدينه أقواما انتجبهم للقيام عليه والنصر له، طهرهم بكلمة الإسلام، وأوحى إليهم مفترض القرآن، والعمل بطاعته في مشارق الأرض ومغاربها، إن الله خصكم بالإسلام، واستخلصكم له، وذلك لأنه أمتع سلامة، وأجمع كرامة، اصطفى الله منهجه، ووصفه ووصف أخلاقه، ووصل أطنابه من ظاهر علم وباطن حكم، ذي حلاوة ومرارة، فمن طهر باطنه رأى عجائب مناظره في موارده ومصادره، ومن فطن لما بطن رأى مكنون الفطن وعجائب الأمثال والسنن، فظاهره أنيق، وباطنه عميق، ولا تفنى غرائبه، ولا تنقضي عجائبه، فيه مفاتيح الكلام، ومصابيح الظلام، لا يفتح الخيرات إلا بمفاتحه، ولا تكشف الظلمات إلا بمصابيحه، فيه تفصيل وتوصيل، وبيان الاسمين الأعلين اللذين جمعا فاجتمعا، لا يصلحان إلا معا، يسميان فيفترقان، ويوصلان فيجتمعان، تمامهما في تمام أحدهما، حواليها نجوم، وعلى نجومها نجوم، ليحمي حماه، ويرعى مرعاه، وفي القرآن تبيانه وبيانه وحدوده وأركانه، ومواضع مقاديره، ووزن ميزانه، ميزان العدل، وحكم الفصل، إن دعاة الدين فرقوا بين الشك واليقين، وجاءوا بالحق، بنوا للإسلام بنيانا فأسسوا له أساسا وأركانا، وجاءوا على ذلك شهودا بعلامات وأمارات، فيها كفي المكتفي، وشفاء المشتفي، يحمون حماه، ويرعون مرعاه، ويصونون مصونه، ويفجرون عيونه، بحب الله وبره وتعظيم أمره وذكره بما يحب أن يذكر به، يتواصلون بالولاية، ويتنازعون بحسن الرعاية، ويتساقون بكأس روية، ويتلاقون بحسن التحية، وأخلاق سنية، قوام علماء أمناء، لا يسوق فيهم الريبة، ولا تشرع فيهم الغيبة، فمن استبطن من ذلك شيئا استبطن خلقا سنيا، فطوبى لذي قلب سليم أطاع من يهديه، واجتنب من يرديه، ويدخل مدخل كرامة، وينال سبيل سلامة، تبصرة لمن بصره، وطاعة لمن يهديه إلى أفضل الدلالة، وكشفا لغطاء الجهالة المضلة المهلكة، ومن أراد بعد هذا فليظهر بالهدى دينه، فإن الهدى لا تغلق أبوابه، وقد فتحت أسبابه ببرهان وبيان، لامرئ استنصح وقبل نصيحة من نصح بخضوع وحسن خشوع، فليقبل امرئ بقبولها، وليحذر قارعة قبل حلولها، والسلام»[21].
إذن:
لا يجد الإنسان عذراً يوم القيامة حينما يسأل عن إمامه الذي أخذ عنه دينه الذي يدين الله تعالى به، وهذا أولاً.
وثانياً: أن الغرض من كتابة أمير المؤمنين عليه السلام لهذا الكتاب هو لتجديد البنية الفكرية للمسلم فيعرف أين يضع قدمه، ومن أين يأخذ دينه، وبمن يضع أغلى ما يملك وهو إيمانه بالله تعالى ورسوله المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، وليس التجديد هو اختيار الكلمات في الخطاب الديني أو التمظهر بالعصرنة مع ما لها أغراض خدمية تنهض بالمستوى المعيشي للإنسان وليس سلبه عقله وثقافته ودينه.
وثالثا: قطع الحجة على من أراد أن يدعي أحقيته في الجلوس مجلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يفتي الناس بغير حق في أمر دينهم ودنياهم.
ورابعاً: كي لا يحتج محتج يوم القيامة على الله فيقول ما علمت حقيقة الأمر ولم أبلّغ به.
وخامساً: كان ذلك تقنيناً لحياة المؤمنين وتثبيتاً لهم فيما سيمرون به من شبهات ومحن عظيمة كقتل وصي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقتل الإمام الحسن عليه السلام وما يجري على الإمام الحسين عليه السلام وعياله في كربلاء، فضلاً عن اتباع كثير من المسلمين للباطل وتحزبهم لشيعة بني أمية وانحدارهم الفكري والمعرفي.
ولذا: كانت هذه الكتب التي أرسلها الإمام علي عليه السلام في بلاد المسلمين وخص بها شيعته لغرض حفظهم من الفتن وتهيئة الأرضية لبناء المجتمع المسلم من الانهيار، ولهذه الأمور وغيرها كان خطاب العقيلة زينب عليها السلام في مجتمع الكوفة بأدواته الإصلاحية في بناء منظومة معرية تمكن الإنسان من التغيير والنهوض نحو الحياة الكريمة، وهو ما سنتناوله في المبحث القادم.
الهوامش:----------------------------------
[1])قال تعالى في سورة يس، الآية: 7: ((أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين)).
[2] سورة الأعراف، الآية: 179.
[3] سورة النساء، الآية:: 165.
[4] سورة الأحزاب، الآية: 33.
[5] سورة آل عمران، الآية: 7.
[6] سورة ق، الآية: 18.
[7] سورة الحاقة، الآية: 44.
[8] سورة النجم، الآيتان: 3 ــ 4.
[9] سورة النجم، الآية: 11.
[10] سورة التوبة، الآية: 119.
[11] سورة الواقعة، الآية: 79.
[12] سورة النحل، الآية: 89.
[13] سورة يس، الآية: 12.
[14] سورة فصلت، الآية: 42.
[15] سورة التوبة، الآية: 119.
[16] سورة العنكبوت، الآية: 43.
[17] سورة طه، الآية: 134.
[18] سورة طه، الآية: 135.
[19] سورة الأعراف، الآية: 46.
[20] سورة النساء، الآيتان: 41 ــ 42.
[21] كشف المحجة لثمرة المهجة: ص189 ــ 19؛ بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج30، ص37 ــ 42؛ نهج السعادة للمحمودي: ج5، ص134.
اترك تعليق