بالتأمل الدقيق بالروايات الشريفة يتضح أنّ لمعنى كلمة الحيرة معانٍ كثيرة، يمكننا أن نتصور أهم تلك المعاني التي أُشير إليها في هذه الروايات على النحو التالي:
1 ــ الحَيرة من معرفة الإمام الحجة الغائب عجل الله فرجه الشريف
وقد أشارت إلى هذا المعنى بعض الروايات التي نقلناها في القسم الأول من هذا البحث، وقد بدأت تتلاشى هذه الحَيرة بعد مقاومة العقيدة الصحيحة لتشكيك المنحرفين التي أُثيرت في بداية الانحراف،كما قرأنا ذلك في نص كلام الثقة الأقدم الشيخ محمد بن إبراهيم النعماني (رحمه الله) ولم يبقَ من هذه الحَيرة (ولله تعالى الحمد) إلا تاريخها وعواء متقطّع يعلو هنا وهناك بين فترة وأخرى.. ثم يضيع ذلك العواء الأحمق في الآفاق الكبيرة الواسعة.
2 ــ حَيرة العقيدة بالإمام المهدي عجل الله فرجه الشريف
وتنشأ الحَيرة الثانية من شبهات المنحرفين التي يثيرونها في شتى ألوان الشكّ حول الإمام المهدي عليه السلام لحَرْف المؤمنين أو صدّهم عن سبيل الله تعالى، فمرةً يُشكّكون بوجوده وأخرى يشككون في تفصيلات العقيدة به.
3 ــ الحَيرة أمام شبهات المنحرفين
والحَيرة الثالثة التي يُبتلى بها المؤمنون في عصر الغيبة حينما يواجهون شبهات المشككين، وضلالات الضالين في شتى ألوان الشك المعرفي، حينما يتحرك الضالّون في دوائر واسعة من التضليل بما يعمّ أُصول العقيدة، أو تفصيلاتها بعناوين ضالّة أيضاً كعنوان (صدم الواقع) و(صراع الوعي واللاوعي)، والحداثة والعصرنة، ومحاربة الموروث المتخلّف، وغيرها من الألفاظ البرّاقة التي يستخدمها أولئك الضالّون ليضلّوا بها عن سبيل الله تعالى.
وحينما تقوى عُدّة الضالّين ويكثر عددهم يحسّ المؤمنون بخطورة الموقف، فيفزعون إلى إمام الهدى فيجدونه غائباً عنهم، ولا يمكنهم الوصول إلى شخصه، فتكاد تكون حَيرتهم قاتلة. ولكن الله تعالى قدّر لإمام الهدى عليه السلام أن يرى ما يجري على شيعته في زمان غيبته، ويتحرك لرفع الحَيرة عنهم كما جاء ذلك في التوقيع الشريف الذي وصل للشيخ المفيد (رحمه الله) وقد جاء فيه:
(نحن وإن كنا ناوين بمكاننا النائي عن مساكن الظالمين، حسب الذي أرانا الله تعالى لنا من الصلاح ولشيعتنا المؤمنين في ذلك ما دامت دولة الدنيا للفاسقين، فإنا نحيط علماً بأنبائكم، ولا يعزبُ عنَّا شيء من أخباركم، ومعرفتنا بالذل الذي أصابكم مذجنح كثير منكم إلى ما كان السلف الصالح عنه شاسعاً، ونبذوا العهد المأخوذ وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون.
إنَّا غيرُ مهملين لمراعاتكم، ولا ناسين لذكركم، ولولا ذلك لنزل بكم اللأواء واصطلمكم الأعداء، فاتقوا الله (جل جلاله) وظاهرونا على انتياشكم من فتنة قد أنافت عليكم، يهلك فيها من حم أجله ويحمى عنها من أدرك أمله، وهي أمارة لأزوف حركتنا، ومباثتكم بأمرنا ونهينا، واللهُ متمُّ نوره ولو كره المشركون)[1].
كما أن الشريعة المقدسة قد أوجدت عدَّة صِمامات، وبنت عدة حصون لحماية الأُمَّة من الانحراف العقائدي، وكانت من تلك الصِمامات التي بنتها السماء تحريمها للبدعة، ووجوب ردّها، ومقاطعة أهل الأهواء والبدع، بالإضافة إلى حرمة القول بغير علم، ووجوب طلب العلم.
ومع كل ذلك فهناك اللطف الإلهي لحفظ الدين الذي يُجريه تعالى على يد خيرة عباده من العلماء، كما قد يرشد إلى هذه الحقيقة الخبر الذي رواه الشيخ الكليني (رحمه الله) في الكافي بالإسناد عن الإمام الصادق عليه السلام قال:
(إنَّ العلماءَ ورثةُ الأنبياء؛
وذاك أن الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً، وإنما أورثوا أحاديث من أحاديثهم.
فمَن أخذ بشيءٍ منها فقد أخذ حظّاً وافراً، فانظروا علمكم هذا عمَّن تأخذونه؟.
فإن فينا أهل البيت في كل خلف عدولاً ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المُبطلين، وتأويل الجاهلين)[2].
4 ــ الحَيرة من تحصيل الحكم الواقعي
والحَيرة الرابعة التي وقع بها الإنسان الشيعي في عصر الغيبة هي في عدم حصوله على الحكم الواقعي لمسائل الشريعة، فهو وإن أمكنه أن يفتح باب العلم بحصوله على الحكم الشرعي الظاهري المجاز والمسموح به من قبل أئمة الشريعة، للعمل به في حالة عدم التمكن من الوصول إلى الحكم الواقعي إما عن طريق الاجتهاد المشروع أو التقليد.. ولكنه غير متمكن من الحصول على حكم الله عز وجل الثابت في اللوح المحفوظ.
وبتعبير علمي أدقّ: إن الحكم الشرعي الظاهري، وإن ملك الحجية بمعنى التنجيز والتعذير، مما يفسح المجال أمام المكلف لمعرفة وظيفته الشرعية بما يمكنه أن يفرغ ذمته من التكليف، ولكن يبقى هذا الحكم غير كاشف عن الحكم التكليفي الواقعي في عالم الثبوت الذي لا يبدل ولا يغيّر، والذي هو محفوظ عند الإمام المعصوم عليه السلام وهذه النعمة التي حفظت عند المعصوم عليه السلام سوف تبقى على حالها من اللطف الإلهي لا يغيرها الحكم الظاهري، وسوف يبقى المكلّف الرباني حائماً كالفراش حول الشمعة، وحيراناً يدور علّه يحصل على اللقاء بإمام زمانه فيتلطّف عليه بتعليمه أحكام الله تعالى كما هي في عالم الثبوت التي خلقها (سبحانه وتعالى) فيها، ولعل في الخبر المروي عن الإمام الصادق عليه السلام إشارة إلى هذه المحنة والحَيرة عندما قال:
(كيف أنتم إذا بقيتم بلا إمام هدى ولا علم[3]..[4].
وهناك فرق كبير بالآثار الوضعية بين الحكم الظاهري والحكم الواقعي، فإنَّ الحكم الظاهري وإن أمكنه شرعاً أن يقوم مقام الحكم الواقعي في مقام التعذير والتنجيز، حيث يكون المكلف معذوراً فلا يؤاخذ ولا يعاقب عندما يعمل بالحكم الظاهري فيما لو فقد الحكم الواقعي، وكان في علم الله(عزّ وجل) أن الحكم الظاهري يخالف الحكم الواقعي، لأن المكلف في مثل هذا الحال بريء الذمة. فإن تكليفه في مقام الامتثال هو الحكم الظاهري لعدم قدرته على تحصيل الحكم الواقعي.
ولكن مع ذلك فإنه سوف يخسر الآثار الوضعية التكوينية للأحكام الواقعية، فإن لكل حكم إلهي آثاره الخاصة به، وحينما يعمل المكلف بالحكم الظاهري المتناقض مع الحكم الواقعي فإنه سوف يخسر لا محالة الفيوضات والخيرات المترتّبة على العمل به.
وروي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال:
(مَن كان عالماً بشريعتنا، وأخرج ضعفاءَ شيعتنا من ظُلمة جهلِهم إلى نور العلم الذي حبوناه [به] جاء يوم القيامة وعلى رأسه تاجٌ من نور يُضيء لأهل جميع تلك العرصات و [عليه] حُلّة لا يقوّم لأقل سلك منها الدنيا بحذافيرها. ثم ينادي مناد [من عند الله]: يا عبادَ الله هذا عالمٌ من بعض تلامذة آل محمد ألا فمن أخرجه في الدنيا من حَيرة جهله فليتشبث بنوره، ليخرجه من حَيرة ظلمة هذه العرصات إلى نزه الجنان)[5].
وروي عن الإمام العسكري عليه السلام أنه قال:
(وأشدّ من يُتم هذا اليتيم، يتيمٌ ينقطع عن إمامه لا يقدر على الوصول إليه، ولا يدري كيف حكمه فيما يبتلى به من شرايع دينه ألا فمَن كان من شيعتنا عالماً بعلومنا، فهدى الجاهل بشريعتنا المنقطع عن مشاهدتنا [كان كمَن أخذ يتيماً] في حجره، ألا فمَن هداه وأرشده وعلّمه شريعتنا كان معنا في الرفيق الأعلى)[6].
5 ــ حَيرة العاشقين
والحَيرة الخامسة وهي أعظم مصيبة يمرّ بها الإنسان الشيعي وذلك لغياب إمام زمانه فلا يستطيع اللقاء به علناً، والتحدث إليه بشكل عادي، بل أن الإمام الحجة عجل الله فرجه الشريف نهى الناسَ بالتحدُّث عن لقاءاتهم به غير العادية، وأمر الآخرين ممَّن قد يسمعون أخبار تلك اللقاءات أن يكذّبوا المخبرين، من أجل أن تبقى تلك اللقاءات محدودة التداول ضمن دوائرها الضيقة لئلا تطرُقَ أخبارُه عجل الله فرجه الشريف أسماع الغرباء فيجدّوا بالبحث عن بقية الله عجل الله فرجه الشريف فيُضيّقوا عليه مَأمنه (روحي فداه)، كما جاء ذلك النهي في التوقيع الذي خرج إلى أبي الحسن السمري:
«بسم الله الرحمن الرحيم؛ يا علي بن محمد السمري أعظم اللهُ أجرَ إخوانك فيك فإنَّكَ ميِّتٌ ما بينك وبين ستة أيام فاجمع أمرك، ولا توصِ إلى أحدٍ يقوم مقامك بعد وفاتك، فقد وقعت الغيبة التامة [الثانية خ.ل] فلا ظهور إلا بعد إذن الله (عزّ وجل) [تعالى ذكره خ.ل] وذلك بعد طول الأمد، وقسوة القلوب، وامتلاء الأرض جوراً، وسيأتي شيعتي مَن يدّعي المشاهدة ألا فمن ادّعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كاذبٌ مُفتَرٍ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم»[7].
ويعيش المؤمن حَيرة العاشق الواله فهو يدور باحثاً عن إمامه فلا يدري أين يلتقي به، وأين يراه، فهل هو في المدينة، أم في مكة، أم في رضوى، أم يجده في مسجد السهلة، أو قد يراه في مسجد الكوفة، أو أنه في جمكران، أو في مقاماته المبثوثة في الأرض؟!.
إن غيرة المؤمن ومحبته لإمام زمانه عجل الله فرجه الشريف تجعله دائراً على الدوام يبحث عن إمامه عجل الله فرجه الشريف علّه يرتشف من نمير عذب مائه فتقر عينه بنظرة منه له عجل الله فرجه الشريف، كما في دعاء الندبة المعبِّر عمَّا يختلج في ضمير المؤمن في عصر الغيبة من مشاعر صادقة، وأحاسيس جيّاشة فيقول: (إِلى مَتى أَحَارُ فِيكَ يَا مَوْلاَيَ وَإِلى مَتَى)..
ولكنه يعود في نجواه ويبين أن حَيرته هذه لم تنشأ من شك ــ أعوذ بالله تعالى ــ وإنما جاءت من حَيرة المشتاق والوالهِ حيث يقول:
(هَلْ إِلَيْكَ يَا ابْنَ أَحْمَدَ سَبِيلٌ فَتُلْقى؟ هَلْ يَتَّصِلُ يِوْمُنَا مِنْكَ بِعِدَةٍ فَنَحْظى؟ مَتى نَرِدُ مَنَاهِلَكَ الرَّوِيَّةَ فَنَرْوى؟ مَتَى نَنْتَقِعُ مِنْ عَذْبِ مَائِكَ فَقَدْ طَالَ الصَّدى؟ مَتَى نُغَادِيكَ وَنُرَاوِحُكَ فَنقِرُّ عَيْنَاً؟ مَتَى تَرَانَا ونَرَاكَ وَقَدْ نَشَرْتَ لِوَاءَ النَّصْرِ؟).
ولعل هذا المعنى من الحَيرة هو المقصود في الخبر الذي رواه الصدوق (رحمه الله) بإسناده عن عبد الله بن أبي عقبة الشاعر قال: سمعت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام يقول:
(كأني بكم تجولون جولان الإبل تبتغون المرعى فلا تجدونه يا معشر الشيعة)[8].
ولم تبق حَيرة العاشقين لإمامهم فكرة مجردة بلا مصاديق، فكم رأينا، وكم سمعنا، وكم قرأنا حالاتهم الكثيرة، ولا يسعنا إلا إحالتها إلى الكتب التي اختصت بتسجيل تلك الحوادث والحالات.
ويأخذ الحبُّ المحبَّ،فيريد أن يعرف كلَّ شيءٍ عن محبوبه. وهي محاولات جاهدة تشكّل جزءاً من رحلة المحبين في عصر الغيبة، فتكثر أسئلتهم ويسألون عن كل شيء بإمامهم.. فهل له زوجة.. وهل له أولاد.. وأين مسكنه.. وهل يصيبه من الأذى ما يصيب قومه والناس.. وما هو أكله.. وكيف نومه.. وهل له بيت مخصوص به وما هو عنوانه.. وهل له أصحاب يعيشون معه ويعرفونه.. وكيف يكون مشيه وانتقاله بين البلدان، أهو بوسائط النقل العادية أم تُطوى له الأرض... ومن يخدمه وهل يعرفون الذي يخدمونه.. وما هو شعوره بما يجري على الشيعة من الظلم والاضطهاد..؟ ومئات من الأسئلة الأخرى التي ترتبط بحياته الخاصة وسيرته الذاتية، وما يرتبط بحياة الأمة وآلامها ومصيرها..
ثم تنتهي الأسئلة بسؤال مجهول الإجابة دائماً إلى أن يأذن الله تعالى به وهو: متى يظهر فيملأها قسطاً وعدلاً؟.
وبعد هذا السؤال الأخير يُصرُّ السائل أن يسأل: ما هو موقعي من حركته؟ أكون معه أم لا.. وأين أنا في مراتب حركته من المقربين، أم من المبعدين.. أنا في ذلك الوقت ميت أم حيّ؟.
وهنا يأتي دعاء العهد المروي عن الإمام الصادق عليه السلام فيقول:
(اَللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنْ أَنْصَارِهِ وَأَعْوَانِهِ وَالذَّابِّينَ عَنْهُ وَالْمُسَارِعِينَ إِلَيْهِ فِي قَضَاءِ حَوَائِجِهِ وَالْمُحَامِينَ عَنْهُ وَالسَّابِقِينَ إِلى إِرَادَتِهِ وَالْمُسْتَشْهَدِينَ بَيْنَ يَدَيْهِ.
اَللَّهُمَّ إِنْ حَالَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ الْمَوْتُ الَّذِي جَعَلْتَهُ عَلى عِبَادِكَ حَتْماً مَقْضِيّاً، فَأَخْرِجْنِي مِنْ قَبْرِي مُؤْتَزِراً كَفَنِي، شَاهِراً سَيْفِي، مُجَرِّداً قَنَاتِي، مُلَبِّياً دَعْوَةَ الدَّاعِي فِي الْحَاضِرِ وَالْبَادِي.
اَللَّهُمَّ أَرِنِي الطَّلْعَةَ الرَّشِيدَةَ، وَالْغُرَّةَ الْحَمِيدَةَ، وَاكْحِلْ نَاظِرِي بِنَظْرَةٍ مِنِّي إليه..).
الهوامش:--------------------------------------------------------------------------------------------------------
[1] الاحتجاج / الطبرسي / ج2 / ص322 ــ 323 / ط النجف 1966.
[2] الكافي / الأصول / الكليني / ج 1 / ص32 / باب صفة العلم / ح 2.
[3] هذا على فرض أن الكلمة هي (عِلْم) وليست (عََلَم) والله تعالى العالم.
[4] كمال الدين / الصدوق / ج2 / ص 348 / باب 33 / ح36.
[5] تفسير الإمام العسكري / ص339 / الطبعة المحققة.
[6] تفسير الإمام العسكري عليه السلام / 339 / الطبعة المحققة.
[7] كمال الدين / الصدوق / ج2/ ص516/ باب 45/ ح44. وفي الغيبة / الطوسي / ص395 / ح365. وفي: الاحتجاج / الطبرسي / ج2 / ص297 /. وفي الخرائج / الراوندي / ج3 / ص1128/ الطبعة المحققة. منتخب الأنوار المضيئة / السيد عبد الكريم النيلي / ص130. وفي الصراط المستقيم / البياضي / ج2 / ص236 /. وفي كشف الغمة / الاربلي / ج2/ ص230. وفي إعلام الورى / الطبرسي / ص417 وفي ثاقب المناقب / لابن حمزة / ص464.
([8]) كمال الدين / الصدوق / ج 1 / ص 304 / ح 17.
اترك تعليق