الشواهد النظرية والعملية من الكتاب والسنة لثبيت الغدير في نفوس المسلمين (1)

(الحلقة الأولى)

     تحتل حادثة الغدير والتي تمت فيها مسألة التبليغ للولاية، وتعيين الخليفة الرسمي المُنصَب من قبل الله عز وجل بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) الصدارة من حيث الوقائع التاريخية، والمسائل الإسلامية، والمرتكزات العقائدية، والتي تؤثر بشكل أساسي وكبير جداً في الواقع الديني، والبعد العملي للمجتمع المسلم، فالقول بالولاية والخلافة الحقّة المعيّنة من قبل الله تعالى هي تعبير عمّا يدينه الفرد من الدين والتشريع الإسلامي وفق الإرادة الإلهية، وهي ضمان لاستمرار المنهج الإسلامي الذي ينحصر من خلال وضع المنصب من قبل الله لقيادة المجتمع والبشرية في المكان الذي وضعه ورتّبه الله فيه، وإنزاله المقام الذي خصه الله تعالى به.

    إنّ مسألة تنصيب الخليفة الذي يقود المسلمين بعد النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) تُعدُّ من المسائل المهمة والخطيرة التي شغلت المسلمين؛ لما تترتب عليها من نتائج في بلوغ الهدف الذي من أجله قد أوجد الله العباد، ومن هنا كانت مثاراً للجدل، ومحطة اختلاف كبيرة بين المسلمين، لقد طال فيها النقاش، واحتدمت الآراء بين مثبت لها من جهة، ومنكر لها من جهة أخرى.

إنّ عظم مسألة الولاية هو الذي دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يقوم بنوعين من الشواهد لأجل أن تكون تلك الحقيقة ناصعة البياض، وبيّنة وجليّة في نفوس المسلمين؛ فتكون الولاية لأمير المؤمنين علي ابن أبي طالب (عليه السلام) في يوم الغدير معلماً، وصرحاً واضحاً وكبيراً لدى المسلمين فلا يُنكر.

     ونستخلص ممّا تقدم أنّ النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) قد عمل على تثبيت واقعة الغدير في المجتمع والنفوس بنحوين مهمين من الشواهد: نظرية، وعملية؛ والتي من خلالها يحيى من حيّ عن بينة، ويهلك من يهلك عن بينة، فقد قال تعالى: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ}[1].

القسم الأول: الشواهد النظرية والعملية من الكتاب

ونعني بها كلّ ما بيّنه الله عز وجل، من حيث الواقع النظري و العملي وما ترتبت وحصلت فيه من آثار وبرزت من نتائج، ويمكن بيانها كالآتي:

أولاً: الشواهد النظرية من الكتاب

1.    نزول آية الولاية: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}[2]، فقد روي في سبب النزول عَنْ حَنَانِ بْنِ سَدِيرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) قَالَ: (لَمَّا نَزَلَ جَبْرَئِيلَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بإعلان أَمْرِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) {يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما انْزِلْ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، قَالَ: فَمَكَثَ النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) ثُلُثَا حَتَّى أَتَى الْجُحْفَةِ فَلَمْ يَأْخُذُ بِيَدِهِ فَرَقاً مِنَ النَّاسِ، فَلَمَّا نَزَلَ الْجُحْفَةِ يَوْمِ الْغَدِيرِ فِي مَكَانٍ يُقَالُ لَهُ مَهْيَعَةُ، فَنادى: الصَّلَاةَ جَامِعَةُ، فَاجْتَمَعَ النَّاسِ فَقَالَ النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ): مَنْ أَوْلَى بِكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ؟ قَالَ: فجهروا فَقَالُوا: اللَّهَ وَرَسُولَهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ الثَّانِيَةِ، فَقالُوا: اللَّهَ وَرَسُولَهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ الثَّالِثَةِ، فَقالُوا: اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَأَخَذَ بِيَدِ عَلِيٍّ (عَلَيْهِ السَّلَامَ) فَقَالَ: مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلَى مَوْلَاهُ، اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالَاهُ وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ وَانْصُرْ مَنْ نَصَرَهُ واخذل مَنْ خَذَلَهُ، فَإِنَّهُ مِنًى وانا مِنْهُ، وَهُوَ مِنى بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى الَّا انْهَ لَا نَبِيَّ بَعْدِي)[3]. لقد ركزت الآية وبيّنت أموراً مهمة لا ينبغي الإغفال عنها وكذا الرواية الشريفة، ومن تلك الأمور:

      أ‌-        إنّ جعل التبليغ بالولاية شرطاً من قبل الله لتبليغ الرسالة في قوله تعالى: {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} يدلّ على عظيم خطر الولاية وأهميتها؛ فهي الكفة الموازية لجميع ما أبلغ به النبي (صلى الله عليه وآله)، ولذا جعلت كشرط أساسي في قبول الرسالة. فتبليغ هذه الواقعة والصدح بالولاية يساوي ويوزن عند الله تعالى بتبليغ الرسالة الذي قام به رسول الله (صلى الله عليه وآله) على مدى خمس وعشرين سنة تقريباً بكلّ ما فيها من حروب وسرايا زادت على الثمانين.

     ب‌-     إنّ توقف قبول التبليغ للرسالة على ابلاغ الولاية يجعل أهميتها وعظمتها كأهمية وعظمة النبوة، بل الولاية أهم من كلّ الأحكام والتبليغات والفرائض السابقة واللاحقة، وهذا يدلّ على أنّها أصلاً من أصول الدين، أو كما قيل أصل من أصول المذهب.

     ت‌-     إنّ التأكيد من قبل الله على أمر تبليغ الولاية يبيّن لنا كونها ضرورة من ضروريات الدين الإسلامي، وكونها أصلاً من أصول الدين أو كما قيل أصل من أصول المذهب.

     ث‌-     أنّها آخر الفرائض وخاتمتها، ولذا نزلت آية الإكمال للدين بعد تبليغها.

      ج‌-      إنّ رضا الله أن يكون الإسلام ديناً للمسلمين لم يتحقق إلا بعد التبليغ بالولاية وقبول الجميع ولو ظاهراً بمسألة الخلافة والولاية، ومن هنا كان نزول آية الكمال للدين، ومسألة رضا الله بالولاية دلالة أخرى على كون الإمامة والولاية أصل من أصول الدين، أو كما قيل أصل من أصول المذهب.

2.    نزول آية كمال الدين {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}[4] بعد التبليغ: وقد جاء في سبب نزولها ما روي عن أَبي سَعِيدِ الْخُدْرِيّ، وَجَابِرِ الْأَنْصَارِيِّ قَالَا: لَمَّا نَزَلَتْ {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} قَالَ النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (اللَّهُ أَكْبَرُ عَلَى إِكْمَالِ الدِّينِ وَإِتْمَامِ النِّعْمَةِ وَرِضَى الرَّبِّ برسالتي وَوَلَايَةَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) بَعْدِي)[5]. وفي ذلك عدّة أمور:

        أ‌-        اكمال الدين بالولاية فلو لم تبلغ لبقي الدين ناقصاً غير مكتمل.

     ب‌-     إتمام النعمة الإلهية بالولاية فمن نعم الله علينا تعريفنا به وهدايتنا لطاعته والتمسك بدينه عن طريق رسوله الأعظم (صلى الله عليه وآله)، وتمام النعمة بولاية أهل البيت (عليهم السلام).

     ت‌-     رضا الله لنا بالولاية فهي من اختيار الله لنا، وقبولها أمر واجب على كلّ شخص يعتقد بمولوية الله، وتقديم رضا الله على ما يريده ويرتضيه.

إنّ ما تقدم من اكمال للدين واتمام للنعمة ورضا فهو شامل للرسالة والولاية ممّا يبيّن مقارنة الولاية ومقابلتها للرسالة، ولذا قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حديث المنزلة بحق أمير المؤمنين (عليه السلام): (أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي)[6]، فـ(لا) صارفة عن تحقق النبوة أو المجيء بشريعة جديدة، ولكنّها مثبتة لمنزلة عظمى لعلي (عليه السلام) هي مرتبة ومنزلة كبيرة من حيث المشاركة في كلّ ما شارك به هارون لموسى (عليهما السلام) في إشراكه بالأمر والتبليغ، فهو مبلغ للأحكام بنفس مؤدى النبوة ونفس الشريعة، وبهذا يمثل خط الامتداد والكمال للنبوة، فلا شريعة ناسخة لشريعة النبي (صلى الله عليه وآله) ، وهذا ما جاءت به الرواية عَنْ زُرَارَةَ قَالَ : سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) عَنِ الْحَلَالِ وَ الْحَرَامِ فَقَالَ: (حَلَالُ مُحَمَّدٍ حَلَالُ أَبَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَحَرَامُهُ حَرَامُ أَبَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَا يَكُونُ غَيْرُهُ وَلَا يَجِئْ غَيْرِهِ)[7]، فالولاية في طول النبوة وليس في عرضها كما يحاول تصويرها البعض ممن يحمل الحقد والضغينة والحسد لأهل البيت (عليهم السلام) وأتباعهم.

ثانياً: الشواهد العملية من الكتاب

نزول العذاب على من سأل العذاب:

بعد أن أسلفنا في الحلقة الأولى بيان أهمية واقعة الغدير في البيئة الدينية وما تعكس من تأثيرات جذرية في تقدم الأمة الإسلامية ونهضتها فيما لو قبلت الولاية، وذلك لما يمثل الولي من دور كبير وأصيل في الواقع العملي وتحقيق المراد الإلهي، ولذا اقتضى نزول العذاب على مكذب الولاية بعد سؤاله لنزول العذاب إن كان هذا الأمر نازل من الله حقاً، ففي هذه الحادثة قال سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ}[8]، ففي اليوم الثالث من الغدير جاء رجل من المنافقين وقال: اللّهمَّ ان كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم، فَعَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ الصَّادِقِ عَنْ آبَائِهِ (عَلَيْهِمُ السَّلَامُ) قَالَ: (لَمَّا نَصْبَ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عَلِيّاً وَقَالَ: مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيُّ مَوْلَاهُ، طَارَ ذَلِكَ فِي الْبِلَادِ فَقَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) النُّعْمَانُ بْنِ الْحَارِثِ الْفِهْرِيِّ، فَقَالَ: أَمَرْتَنَا عَنِ اللَّهِ أَنْ نَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، وَأَمَرْتَنَا بِالْجِهَادِ وَالْحَجِّ وَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ؛ فقبلناها ثُمَّ لَمْ تَرْضَ حَتَّى نُصِبَتْ هَذَا الْغُلَامِ فَقُلْتَ: مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيُّ مَوْلَاهُ، فَهَذَا شَيء مِنْكَ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِنَّ هَذَا مِنَ اللَّهِ، فَوَلَّى النُّعْمَانِ بْنَ الْحَارِثِ وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ فَرَمَاهُ اللَّهُ بِحَجَرٍ عَلَى رَأْسِهِ فَقَتَلَهُ وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ})[9]، وقد أثبتت هذه الواقعة عدّة أمور مهمة ينبغي الوقوف عليها:

1.    إنّ استمرار البقاء في مكان التبليغ عند غدير خم ولمدة ثلاثة أيام متوالية يدلّ على الأهمية العظمى التي تتمتع بها هذه الحادثة وكونها من الأحداث المهمة التي تلقي بظلالها على الإسلام فيتمتع بفيئها، كما تعدُّ من المحطات اللازمة والضرورية التي تحدد زوايا ومنطلقات مؤثرة في الإسلام وبأبعاد متعددة ومتنوعة، فهي تؤثر في الجانب النهضوي والاقتصادي للأمة، والرافد الثقافي للمجتمع؛ لكون الولي منبع المعارف، وصمام الأمان للأمة من الوقوع في الزيغ الزلل، أو الانحراف والخلل.

2.    بهذه الحادثة (نزول العذاب) ثبت للجميع أن أمر البيعة والولاية في غدير خم صادر من منبع الوحي، وأنّه أمر من الله عز وجل، وهي رسالة لرفع الشك من قلب من لا يزال في شك من ناحية الإسلام، وفي نفس الوقت هي معجزة تنجز الحكم على الآخرين؛ فلا عذر لهم في الامتناع عن الدخول في الإسلام بعد هذه الاعجازات المتتالية، فلا يبقى في البين قاصر عن الوصول للحق، بل مقصر والمقصر محاسب ومعاقب ولا معذرية في البين.

3.    أثبتت الآية كفر السائل ونزول العذاب عليه وعدم دفع العذاب لكفره وهذا الكفر هو لتكذيب أمر الله والجحود لولاية علي (عليه السلام) وهو إثبات كون الولاية من أصول الدين، أو المذهب كما قيل.

4.    على الفرد المسلم أن يبحث عن اثبات الحق بطرق تكون في صالحه لا في موارد تضره، فكان الأولى بهذا الشخص أن يسأل ربه صدق ما نزل بمعجزة إلهية أخرى تغنيه عن نزول العذاب عليه، فيسأل ما فيهه جنبة رحمة وجمال، لا جنبة نقمة وجلال.

5.    أثبتت الآية كفر السائل بنزول العذاب عليه، وهذا الكفر هو لتكذيب أمر الله بالولاية، والجحود والإنكار لولاية علي (عليه السلام)، وهو دليل آخر لإثبات أنّ الولاية أصل من أصول الدين، أو كما قيل أصل من أصول المذهب، ولذا اقتضت نزول العذاب، فالعصيان للمسائل الفرعية لا يوجب نزول العذاب خصوصاً وكوننا الأمة المرحومة المؤجل عنها العذاب. فإن قال قائل لكنّ هذا فرداً لا جمعاً كبيراً قد نزل عليه العذاب؟ فيُردّ هذا الإشكال بما ورد في حديث الخيط الأصفر، فمثل هذا الأمر (العذاب) قد حصل ونزل على جمع كثير، ومن دون سؤال للعذاب، بل لمجرد التكذيب والعناد، ففِي حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ يَزِيدَ الْجُعْفِيِّ قالَ: (أَنَّهُ لَمَّا شَكَتِ الشِّيعَةِ إِلَى زَيْنِ الْعَابِدِينَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) مِمَّا يَلْقَوْنَهُ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ، دَعَا الْبَاقِرِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْخَيْطِ الَّذِي نَزَلَ بِهِ جَبْرَئِيلُ إِلَى النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) وَيُحَرِّكُهُ تَحْرِيكاً، قَالَ: فَمَضَى إِلَى الْمَسْجِدِ فَصَلَّى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ وَضَعَ خَدَّه عَلَى التُّرَابِ وَتَكَلَّمَ بِكَلِمَاتٍ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَأَخْرَجَ مِنْ كُمِّهِ خَيْطاً رَقِيقاً يَفُوحُ مِنْهُ رَائِحَةِ الْمِسْكِ وَأَعْطَانِي طَرَفاً مِنْهُ، فَمَشَيْتُ رُوَيْداً فَقَالَ: قِفْ يَا جَابِرٍ؛ فَحَرَّكَ الْخَيْطِ تَحْرِيكاً لَيِّناً خَفِيفاً ثُمَّ قَالَ: اخْرُجْ فَانْظُرْ مَا حَالَ النَّاسَ، قَالَ: فَخَرَجَتْ مِنَ الْمَسْجِدِ فَإِذَا صِيَاحِ وَصُرَاخَ وولولة مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، وَإِذَا زَلْزِلَة شَدِيدَةُ وَهْدّة وَرَجَفَة، قَدْ أَخْرَبْتَ عَامَّةً دُورِ الْمَدِينَةِ، وَهَلَكَ تَحْتِهَا أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِينَ أَلْفَ انسان، ثُمَّ صَعِدَ الْبَاقِرِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) الْمَنَارَةِ فَنَادَى بأعلى صَوْتَهُ: أَلَا أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ، قَالَ: فَظَنَّ النَّاسُ أَنَّهُ صَوْتُ مِنَ السَّمَاءِ، فَخَرُوا لوجوههم، وَطَارَتْ أَفْئِدَتُهُمْ، وَهْمُ يَقُولُونَ فِي سُجُودِهِمْ: الْأَمَانَ الْأَمَانَ، وَإِنَّهُمْ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ، وَلَا يَرَوْنَ الشَّخْصَ، ثُمَّ قَرَأَ: {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ}[10]، قَالَ: فَلَمَّا نَزَلَ مِنْهَا وَ خَرَجْنَا مِنَ الْمَسْجِدِ، سَأَلْتُهُ عَنِ الْخَيْطِ قَالَ: هَذَا مِنَ الْبَقِيَّةُ قُلتُ: وَمَا الْبَقِيَّةَ يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ؟ قَالَ: يَا جَابِرُ بَقِيَّةُ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ وَيَضَعُهُ جَبْرَئِيلُ لَدَيْنا)[11].  

6.    إنّ العذاب على الكافرين واقع لا محالة، فلا يدفع ولا يرفع، وليس هنالك استشفاع في رفعه، نعم إن نزل أو بانت علاماته يمكن أن يرفع إن قدم العبد الندم والتوبة، ورجع إلى الله وطريق الحق، وهذا ما حدث مع قوم نبي الله يونس (عليه السلام)، فقد قال سبحانه وتعالى: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ}[12]، وقد جاء في تفسير ما حدث عن طريق أهل البيت في رفع العذاب عن قوم نبي الله يونس (عليه السلام)، فعَنِ الثُّمَالِيِّ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَالَ: انَّ يُونُسَ لَمَّا آذَاهُ قَوْمِهِ دَعَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَأَصْبَحُوا أَوَّلِ يَوْمٍ وَوُجُوهُهُمْ صُفْرَةً، وَأَصْبَحُوا الْيَوْمُ الثَّانِي وَوُجُوهُهُمْ سُودُ، قَالَ: وَكَانَ اللَّهُ وَاعَدَهُمْ انَّ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ حَتَّى نَالُوهُ برماحهم، ففرقوا بَيْنَ النِّساءِ وَأَوْلَادُهُنَّ، وَالْبَقَرِ وَأَوْلَادِهَا، وَلَبِسُوا الْمُسُوحَ وَالصُّوفُ، وَوَضَعُوا الْحِبَالِ فِي أَعْناقِهِمْ وَالرَّمَادِ عَلى رُؤُوسَهُمْ، وَضَجُّوا ضَجَّةً وَاحِدَةً إِلَى رَبَّهُمْ، وَقالُوا آمَنَّا بِإِلَهِ يُونُسَ، قَالَ: فَصَرَفَ اللَّهُ عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى جِبَالِ آمد)[13].

7.    إنّ الدعاء على النفس بالهلاك قد يستجاب حتى من قبل المنافقين، وغير المؤمنين، فضلاً عن المؤمن، ومن هنا ورد النهي عن تمني الموت، فَعَنْ رَسُولَ اللَّهِ ( صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ ): (لَا يَتَمَنَّى أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ)[14]، ولعل نهي النبي عن تمني الموت لكي يستمر المؤمن في التزود من الصالحات، أو لكونه مشروع هداية للآخرين ولو بسلوكه العملي ووجوده في المجتمع؛ لدخوله تحت ما أَوْصَى به أَبو عَبْدِ اللَّهِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) بَعْضَ شِيعَتِهِ: (كُونُوا لَنَا دُعَاةً صَامِتِينَ)[15].

 نعم يمكن للمؤمن أن يتمنى الموت في عدّة مواضع:

1.    ما لو خير ما بين الموت على غير ولاية أهل البيت (عليهم السلام) والبقاء دون ولايتهم، فقد روي عَنْ فُضَيْلِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) قَالَ: لَا يَبْلُغُ أَحَدُكُمْ حَقِيقَةِ الايمان حَتَّى يَكُونَ فِيهِ ثَلَاثُ خِصَالٍ: حَتَّى يَكُونَ الْمَوْتُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ الْحَيَاةِ، وَالْفَقْرُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ الْغِنَى، وَالْمَرَضُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ الصِّحَّةِ. قُلْنَا: وَمَنْ يَكُونُ كَذَلِكَ‏؟ قَالَ: كُلُّكُمْ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّمَا أَحَبَّ إِلَى أَحَدَكُمْ يَمُوتُ فِي حُبِّنَا أَوْ يَعِيشُ فِي بُغْضِنَا؟ فَقُلْتُ: نَمُوتُ وَاللَّهِ فِي حُبُّكُمْ أَحَبُّ إِلَيْنَا. قَالَ: وَكَذَلِكَ الْفَقْرِ وَالْغِنَى وَالْمَرَضِ وَالصِّحَّةِ، قُلتُ: إِي وَ اللَّهِ)[16].

2.    وكذا يمكن له تمني الموت لو ضمن الجنة فقد قال أمير المؤمنين (عليه السلام) للحارث الهمداني: (وَأَكْثِرْ ذِكْرَ الْمَوْتِ وَمَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَلَا تَتَمَنَّ الْمَوْتَ إِلَّا بِشَرْطٍ وَثِيقٍ)[17].

3.    وكذا يمكن له تمني الموت ويرغب فيه لو رأى مقامه في الجنة، فقد روى أبو بصير قال: قُلْتُ لِأَبِي عبدالله (عَلَيْهِ السَّلَامُ): (جُعِلْتُ فِدَاكَ يُسْتَكْرَهُ الْمُؤْمِنِ عَلَى خُرُوجُ نَفْسِهِ؟ قَالَ: فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ. قَالَ: قُلتُ: وَكَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ حَضَرَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وَأَهْلُ بَيْتِهِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَفَاطِمَةُ وَالْحَسَنُ وَالْحُسَيْنِ وَجَمِيعِ الْأَئِمَّةِ (عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ)، وَلَكِنَّ أكنُّوا عَنِ اسْمِ فَاطِمَةَ، وَيَحْضُرُهُ جَبْرَئِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ وَعَزْرَائِيلَ (عَلَيْهِمُ السَّلَامُ)، قَالَ: فَيَقُولُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عَلَيْهِ السَّلَامُ): يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُ كانَ مِمَّنْ يُحِبُّنَا وَيَتَوَلَّانَا فَأَحَبَّهُ، قَالَ: فَيَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): يَا جَبْرَئِيلُ، إِنَّهُ مِمَّنْ كَانَ يُحِبُّ عَلِيّاً وَ ذُرِّيَّتِهِ فَأَحَبَّهُ، وَقَالَ جَبْرَئِيلُ لميكائيل وَإِسْرَافِيلَ (عَلَيْهِمُ السَّلَامُ) مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَقُولُونَ جَمِيعاً لِمَلَكِ الْمَوْتِ: إِنَّهُ مِمَّنْ كَانَ يُحِبُّ مُحَمَّداً وَ آلِهِ ، وَيَتَوَلَّى عَلِيّاً وَذُرِّيَّتِهِ، فَارْفُقْ بِهِ، قَالَ: فَيَقُولُ مَلَكُ الْمَوْتِ: وَالَّذِي اخْتَارَكُمْ وكرَّمكم، وَاصْطَفَى مُحَمَّداً (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) بِالنُّبُوَّةِ، وَخَصَّهُ بِالرِّسَالَةِ، لِأَنَّا أَرْفَقَ بِهِ مِنْ وَالِدٍ رَفِيقُ، وَأَشْفَقَ عَلَيْهِ مِنْ أَخٍ شَفِيقُ، ثُمَّ قَامَ إِلَيْهِ مَلَكَ الْمَوْتِ فَيَقُولُ: يا عبدالله، أَخَذْتَ فَكَاكَ رَقَبَتُكَ؟ أَخَذَتْ رِهَانَ أمانك؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيَقُولُ الْمَلَكِ: فبماذا؟ فَيَقُولُ: بِحُبِّي مُحَمَّداً وَآلِهِ، وَ بِوَلَايَتِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَذُرِّيَّتُهُ، فَيَقُولُ: أَمَّا مَا كُنْتَ تَحْذَرُ فَقَدْ آمَنَكَ اللَّهُ مِنْهُ، وَأَمَّا مَا كُنْتَ تَرْجُو فَقَدْ أَتَاكَ اللَّهُ بِهِ، افْتَحْ عَيْنَيْكَ فَانْظُرْ إِلَى مَا عِنْدِكَ، قَالَ: فَيُفْتَحُ عَيْنَيْهِ فَيَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَاحِداً وَاحِداً، وَيُفْتَحُ لَهُ بَابُ إِلَى الْجَنَّةِ، فَيَنْظُرُ إِلَيْهَا فَيَقُولُ لَهُ: هَذَا مَا أَعَدَّ اللَّهُ لَكَ، وَهَؤُلَاءِ رُفَقَاؤُكَ أَ فَتُحِبُّ اللِّحَاقِ بِهِمْ أَوِ الرُّجُوعُ إِلَى الدُّنْيَا؟ قَالَ: فَقَالَ أبوعبدالله (عَلَيْهِ السَّلَامُ): أَمَّا رَأَيْتَ شخوصه وَرَفَعَ حَاجِبَيْهِ إِلَى فَوْقَ مِنْ قَوْلِهِ: لَا حَاجَةَ لِي إِلَى الدُّنْيَا، وَلَا الرُّجُوعُ إِلَيْهَا! وَيُنَادِيهِ مُنَادٍ مِنْ بُطْنَانِ الْعَرْشِ يَسْمَعُهُ وَيُسْمِعَ مَنْ بِحَضْرَتِهِ: يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ إِلَى مُحَمَّدٍ وَوَصِيُّهُ وَالْأَئِمَّةِ مِنْ بَعْدِهِ، ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً بِالْوَلَايَةِ مَرْضِيَّةً بِالثَّوَابِ، فَادْخُلِي فِي عِبادِي مَعَ مُحَمَّدٍ وَأَهْلِ بَيْتِهِ، وَادْخُلِي جَنَّتِي غَيْرِ مَشُوبَةَ)[18].

الهوامش:------

([1])سورة الأنفال, آية: 42.

([2])سورة المائدة, آية: 67.

([3])محمد بن مسعود العياشي, تفسير العياشي ج ١ ص ٣٣2.

([4])سورة المائدة, آية: 3.

([5])العلامة المجلسي, بحار الأنوار ج ٣٧ ص ١٥٦.

([6])الشيخ الصدوق, معاني الأخبار ص ٧٥.

([7])الشيخ الكليني, الكافي ج ١ ص ٥٨.

([8])سورة المعارج، آية:(1، 2، 3).

([9])الشيخ الأميني، الغدير ج ١ ص ٢٤١.

([10])سورة النحل، آية: 26.

([11])العلامة المجلسي، بحار الأنوار ج ٤٦ ص٢٦0.

([12])سورة يونس، آية: 98.

([13])محمد بن مسعود العياشي، تفسير العياشي ج ٢ ص١٣٦.

([14])الشيخ محمد الريشهري، ميزان الحكمة ج ٤ ص٢٩٧٠.

([15])القاضي النعمان المغربي، شرح الأخبار ج ٣ ص ٥٠٦.

([16])الشيخ الصدوق، معاني الأخبار ص ١٨٩.

([17])ابن ابي الحديد ، شرح نهج البلاغة ج 18 ص44.

([18])العلامة المجلسي، بحار الأنوار ج ٦ ص ١٦٣.

 

المرفقات

: الشيخ أمجد سعيد اللامي